بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
التذكير بما للكلمة الطيبة من فضل كبير
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ التحلي بمحاسن الأخلاق و الاتصاف بجميل الآداب أيها الأحباب لهو من أهم الأسباب التي تُعين العبد بإذن الكريم الوهاب على تحصيل الخير والتوفيق لكل صواب، يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب ". مدارج السالكين (2/390)
ومن هذه الصفات الجميلة و الخصال الكريمة التي ينبغي أن تُصاحب كل مسلم أيها الأفاضل الكرام هو أن يكون في تعامله مع الأنام طيِّب الكلام ، يقول الإمام ابن بطال – رحمه الله- : "الكلام الطيب مندوب إليه وهو من جليل أفعال البر ". شرح ابن بطال على صحيح البخاري ( 9/225)
يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" والكلمة الطيبة تكون طيبة في أسلوبها، وفي موضوعها، وفي إلقائها، وفي نواح أخرى، فإذا رأيت شخصاً وتكلمت معه بكلام طيب مثل: السلام عليكم، حياكم الله، صبحكم الله بالخير فهذه كلمة طيبة لكن بشرط أن لا يكون ذلك مملاً بمعنى أن تبقى معه مدة وأنت تقول مثل هذا الكلام، لأنه إذا كان مملاً انقلب إلى غير طيب، ولكل مقام مقال ". شرح الأربعين النووية ( ص266)
فالكلمة الطيبة أيها الأحبة هي من أسباب نشر المحبة والألفة بين المسلمين ، وهي كذلك مما يُدخل بإذن الكريم الشكور على القلوب الفرح والسرور، ولذا أمر العزيز الكريم عباده بالحرص عليها كما جاء في القرآن العظيم، حيث قال العليم الحكيم: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [ البقرة : 83].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" من القول الحسن أمرهم –أي الناس- بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت :46]". تفسير السعدي (ص 58)
وفي عدم عمل العباد بهذه الوصيِّة الربانيَّة مفاسد ظاهرة جليَّة، ومن ذلك أن يقع التشاحن والتباغض بين المسلمين، وهذا ما يُريده إبليس اللعين، يقول رب العالمين: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) [الإسراء:53].
يقول الإمام ابن كثير- رحمه الله-:"يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين،أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها ". تفسير ابن كثير (3/46)
اعلم-رعاك الله-أيها المسلم أن فوائد وعوائد الكلمة الطيبة كثيرة منها ما هو راجع عليك فهي وإن كانت تبدو لك يسيرة إلا أن محاسنها كثيرة،ومن ذلك أنها من الأسباب التي تُبعد عن النار بإذن العزيز الوهاب،فعن عَديِّ بن حاتم– رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لم يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". رواه البخاري (1347) ومسلم (1016) واللفظ له.
يقول المناوي – رحمه الله- :" ( اتقوا النار ) أي نار جهنم (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لم يَجِدْ) فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به لفقده حسا أو شرعا(فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) تطيب قلب الإنسان بأن تتلطف به بالقول والفعل فإنها سبب للنجاة من النار ".التيسير بشرح الجامع الصغير ( 1/ 31)
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :"وفي هذا الحديث : أن من أعظم المنجيات من النار ، الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال ، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئا قليلا ، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون ، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية .
وتشمل الكلام المسر للقلوب ، الشارح للصدور ، المقارن للبشاشة والبشر ، وتشمل الذكر لله والثناء عليه ، وذكر أحكامه وشرائعه .
فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله ، فهو داخل في الكلمة الطيبة ".بهجة قلوب الأبرار (ص 257)
ومن اتصف بها إن كان من أهل الإسلام واحتسبها عند الوهاب العلام فسيفوز بإذن العزيز المنان بغرفٍ في الجنان كما أخبر بذلك نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ،فعن أبي مالكٍ الأشعري-رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرَفًا ، يُرَى ظَاهِرُهَا من بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا من ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا الله لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الْكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ ". رواه الإمام أحمد في المسند (5/343) ، وحسنه الشيخ الألباني- رحمه الله - في صحيح الجامع ( 2123)
يقول المناوي – رحمه الله- :"(يُرَى )بالبناء للمفعول أي يرى أهل الجنة (ظَاهِرُهَا من بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا من ظَاهِرِهَا ) لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها قالوا لمن هي يا رسول الله قال (أَعَدَّهَا الله ) أي هيأها ( لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ) في الدنيا للعيال والفقراء والأضياف والإخوان ونحوهم (وَأَلاَنَ الْكَلاَمَ) أي تملق للناس واستعطفهم ..".فيض القدير ( 2/ 343)
وهي كذلك أيها الإخوة والأخوات من الصدقات التي يُقدمها العبد بين يدي رب البريات ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ". رواه البخاري (2827) ومسلم (1009)
يقول الإمام ابن بطال – رحمه الله- : " ووجه تشبيهه عليه السلام الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال، هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفس المتصدق عليه ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن ويحسن موقعها من قلبه فاشتبها من هذه الجهة". شرح ابن بطال على صحيح البخاري ( 9/225)
وتأثيرها كذلك يظهر أيها المسلم على من بينك وبينه شحناء وبغضاء، فكم من إنسان كان يُعد من أشد الأعداء فأصبح بعد ذلك من أعزِّ الأصحاب والأصدقاء بسبب تأثير هذا السلاح الكريم والخلق القويم بفضل العزيز الحكيم ،وهذا يكون بعد العمل بما أوصى وأخبر به الخبير العليم،حيث قال سبحانه : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) [فصلت:34] .
يقول الشوكاني – رحمه الله- :" فقال : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } أي : لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ، ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك ". فتح القدير (4/516)
ويقول الشيخ السعدي- رحمه الله-:"{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }أي:فإذا أساء إليك مسيءٌ من الخلق، خصوصًا من له حقٌّ كبير عليك كالأقارب والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل،فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصلْهُ،وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هَجرك وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة". تفسير السعدي (ص 749)
ويقول الإمام ابن كثير – رحمه الله- : "وقوله: { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ". تفسير ابن كثير (4/102)
فهذه أيها الأفاضل الأخيار من أهم الثمار الذي سيجنيها بإذن العزيز الجبار كل من يتحلى بهذا الصفة الحميدة و الخصلة السديدة ،فعلى من اتصف بها أن يشكر المنان على أن رزقه هذه النعمة العظيمة و المنحة الكريمة و ليجتهد دوما بفعلها وحث المسلمين على التخلق بها.
ومن كان عنها في تقصير أيها الأحباب فليسْألها أولا من الكريم الوهاب ثم ليبذل ما يُساعده على تحقيقها من وسائل وأسباب، وليحذر المسلم أشد التحذير من الاتصاف بضدها، لأن هذا ليس من خصال أهل الإيمان كما أخبرنا بذلك رسول العزيز الرحمن، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليس الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، ولا اللَّعَّانِ، ولا الْفَاحِشِ، ولا الْبَذِيءِ". رواه الترمذي (1977)، وصححه الشيخ الألباني- رحمه الله- .
يقول المناوي – رحمه الله- :" (ليس الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ) بالتشديد الوقَّاع في أعراض الناس بنحو ذم أو غيبة (ولا اللَّعَّانِ) الذي يكثر لعن الناس بما يبعدهم من رحمة ربهم إما صريحا أو كناية (ولا الْفَاحِشِ) أي ذي الفحش في كلامه وفعاله (ولا الْبَذِيءِ) أي الفاحش في منطقه وإن كان الكلام صدقا ".التيسير بشرح الجامع الصغير ( 2/ 321)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- : "وهذا يدل على أن هذه الأمور نَقصٌ في الإيمان وأنها تَسلب عن المؤمن حقيقة الإيمان وكمال الإيمان، فلا يكون طعَّانا يطعن في الناس بأنسابهم أو بأعراضهم أو بشكلهم وهيئاتهم أو بآمالهم، ولا باللعان الذي ليس له هم إلا اللعنة قل كلمة لعنك الله قل كذا لعنك الله لماذا تقول كذا أو يقول لأولاده: لعنكم الله هاتوا هذا أو ما أشبه ذلك فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالفاحش الذي يفحش في كلامه بصراخ أو نحو ذلك، ولا بالبذيء الذي يعتدي على غيره، فالمؤمن مؤمن مسالم ليس عنده فُحشٌ في قوله ولا في فعله، ولا غير ذلك لأنه مؤمن ". شرح رياض الصالحين (6/201)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُوفقنا وإياكم لكل ما يُقربنا إليه ومن ذلك التحلي بالأخلاق الفاضلة و الصفات الكريمة ومنها طِيب الكلام وحسن معاملة الأنام، وأن يُجنبنا سبحانه كل ما يُبعدنا عنه ، ومن ذلك الاتصاف بكل ما هو مذمومٌ و مُشين ، فهو سبحانه ولي ذلك وأرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك