لماذا لم يطبق اليهود القتل الجماعي خلال الغزوات النبوية؟
د. عبد الرحمن أبو المجد
القتل الجماعي: عادة اقتصرت على اليهود ممارستُها؛ فلا توجد دلائل على ممارسة غير اليهود للقتل الجماعي، لا قبل الميلاد ولا بعده. اشتهر اليهود بممارسة عادة مذمومة، يُتهم من يمارسها بالجبن الـمَرَضي الذي لا علاج له. ولعل هذا الجبن من حرصهم الشديد على الحياة، قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، نعم أحرص الناس على حياة، لا يهم نوع الحيـاة التي يحياها اليهودي، المهم أن يحيا، سواء عاش عبداً أو أحقر من عبد، والاستدلالات التاريخية كثيرة؛ فعلى سبيل المثال حياتهم مع الفراعنة قال تعالى: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، مارس الفراعنة فيهم تذبيح للأبناء واستحياء النساء، فضلاً عن السبي البابلي، ولم تكن حياتهم في السبي البابلي بأحسن حالاً من حياتهم تحت الفراعنة.
يمارسون عادة القتل الجماعي عندما يشتد عليهم الحصار ويتأكدون بأن العدو لن يتركهم يعيشون كما عاشوا تحت الفراعنة، أو في السبي البابلي، منطقياً كان عليهم أن يخـرجوا ويواجهوا مصيرهم بشجاعة، فالشجاعة تحقق المعجزات، إلا أنه ليست لديهم الشجاعة؛ وفاقد الشيء لا يعطيه، لأن الشجاعة والجبن لا يجتمعان في النفس، فضلاً عن حالة، والجبن متأصل، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: ظ¢ظ¢]. ترسخ الجبن في النفس اليهودية لدرجة التصريح به علانية دون حرج وإن كان ذلك في صحبة نبي من أولي العزم. وتدبَّر الإصرار بالنفي في قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] إنه تأكيد على ترسُّخ الجبن المشين؛ إذ لا يؤمنون بقتال إلا القتال الاقتصادي وسياسة إفقار الجار، ولها مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
لذا يقومون بممارسة أسوأ عادة إذ لم توجـد إلا في أسوأ أمة أو أحقر جماعة بشرية، بدلاً من مواجهة العدو والموت في شرف النزال، يقتلون أزواجهم وأطفالهم ثم يقتلون أنفسهم، ويجبنون عن مواجهة العدو، وتلك أسوأ عادة لأنهم يقومون بما ينبغي أن يقوم به العدو، فكأنهم يعينون العدو في مهمته، ويوفرون عليه جهده.
وبالرصد والمتابعة تبيَّن أن هذه العادة متأصلة، وتصدق هذه الفرضية استدلالات كثيرة وتؤكد صحتها، ويكفي دليلاً عليها، أنه عندما تمرد اليهود على الرومان اتفق كل اليهود بأنهم سيقومون بالتمرد ضد الرومان، غير أن اليهود خذلوا اليهود، فلم يتمرد سوى 960 منهم وتحصنوا في حصن مسعدة[1].
لقد سار الحاكم الروماني فلافيوس سيلفا إلى قلعة مسعدة على رأس الفرقة العاشرة وبعض السرايا المساعدة، واستمر الحصار ثلاثة أشهر، وعندما أصروا على فتحه، ونصبوا عليه المجانيق وأبراج الحصـار، وبدا واضحاً أن الحصن سيسقط لا محالة، مارس المحاصَرون عادتهم في القلعة بشكل جماعي؛ ففي ليلة واحـدة، تلك الليلـة التي ظنوا بأنها ليلتهم الأخيرة، بدأ إليعـازر بن يائيـر يقنـع أتباعـه بأن يمارسوا القتل الجماعي، وحثَّهـم على القتل الجماعي بدلاً من المقاومة حتى الموت، قام اليهود بقتل زوجاتهم وأولادهم، ثم قتلوا أنفسهم، قُتل 960 رجلاً وامرأة وطفلاً، وأحرقوا الأبنية ومخازن الأغذية، وقتل بعضهم بعضاً وهكذا حتى قتلوا جميعاً[2]. سقطت القلعة في سنة 73م، وعلى الرغم من الحظر الديني على قتل أنفسهم وقتل بعضهم بعضاً في الديانة اليهودية إلا أنهم خالفوا الحالات التي يسمح لليهودي فيها بقتل نفسه طبقاً للديانة اليهودية.
القتل الجماعي صار أيديولوجية محرفة تضاف لتحريفاتهم:
واستمروا في ممارسة العادة المشينة، وفي القرن الماضي، عندما أرهقوا الإنجليز بالديون والتسلط، قام الإنجليز بحصار الجالية اليهودية في يورك في 16 مارس 1190م، لم يكن أمامهم إلا خيار من اثنين: إما اعتناق النصرانية المعمودية أو الموت على أيدي المحاصِرين، فلـم يختاروا خياراً من الخيارين... بل مارسوا عادتهم المشينة عندما اشتد عليهم الحصار؛ إذ أمرهم الحاخام يومتوب بإشعال النار في الأشياء الثمينة من ذهب وفضة وثياب وسجاد وأحذية[3]، ثم قاموا بقتل زوجاتهم وأطفالهم، ثم قتلوا أنفسهم[4]، رفض عدد قليل من اليهود الانتحار الجماعي « The mass suicide»، مصيرهم لم يكن أفضل؛ فبعد تردُّد يسير تراجعوا واندفعوا بأنفسهم في النار[5].
وعندما استعد الصليبيون للحملة الصليبية الثالثة، أجبرت الاستفزازات اليهودية الصليبيين على ممارسة الانتهاكات المعادية حتى اضطروهم للتحصن ببرج كليفورد هم وزوجاتهم وأطفالهم، وحاصر الصليبيون البرج مطالبين بأن يعتنـق اليهود النصرانية وأن يتم تعميدهم، وظلوا يحاصرون القلعة، حتى يئس اليهود من شدة الحصار، نصح الحاخام اليهود بممارسة عادتهم المتأصلة، فقاموا بممارسة القتل الجماعي، وبدأ يوسيس بقتل زوجته آنا وطفليه، ثم قُتل على يد يومتوف، وقام رب كل أسرة بقتل زوجته وأطفاله، وقبل أن يقوم يومتوف وخوسيه بإضرام النار في الحطب، قتلوا أنفسهم، وعدد قليل جداً من اليهود لم يقتلوا أنفسهم، فماتوا رعباً[6].
إنها عادة متأصلة، فقد حدث القتل الجماعي في ماينتس، وفي ريغنسبورج، على سبيل المثال قتلت أم أبناءها وقتل الزوج زوجته، ثم قتل نفسه، أدت هذه الاقتتالات الجماعية المترسخة إلى اتهام اليهود بممارسة طقوس القتل الجماعي[7]، وليت الأمر يقف عند حدِّ الاتهام لهان الخطب.
ويبقى السؤال الرئيس: لماذا لم تمارَس عادة القتل الجماعي أثناء حصار بني قينقاع، ولا في حصار بني النضير، ولا عشية الحكم على قريظة؟
في حصار بني قينقاع:
شجعت الاشتباكات الدائرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعض اليهود وأثارتهم على اختبار (الخطوط الحمراء)، اختبارات متنوعة بداية ببني قينقاع ومروراً ببني النضير وانتهاءً ببني قريظة وخيبر، اختبارات صاحَبَها تضخم الآلة الإعلامية، اتسعت دائرة العداء والاستعداء ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتصاره الكبير في غزوة بدر، حتى داخل المدينة التي تعتبر منطقة خضراء في مجملها باعتبار التمسك باتفاقية المعاهدة، لم يستطع بنو قينقاع أن يكتموا الشر والعداوة، وهم يرون التغيرات القـوية الواضحة في المدينة، تؤكد صعود قوة رسول الله صلى الله عليه وسلم السريع وبداية هبوط نفوذ اليهود السريع، جاهروا بالعداوة متجاهلين دستور المدينة، كانوا صاغة، وحـدادين، وعدد مقاتليهم سبعمئة مقاتل، وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع، فوعظهم، وحذرهم مغبة البغي والعدوان؛ قالوا: «يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغمـاراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا»[8]. فأنزل الله تعـالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ 12 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12 - 13]. «إنك لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا» إعلان سافر بالحرب، وتحدٍّ يثير باختباره، وسخرية مستفزة، ومع ذلك كظم رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر، وفهموا بغرورهم بأن صبره عليهم خوف منهم، فتمادوا.
وكما يقال إن التركيز على الردع بالتهديد (العقاب)، ليس كالدفاع المباشر عن الالتزام المتنازع عليه، بل بالأحرى التهديدات بعقاب أوسع من شأنها أن ترفع التكلفة بالهجوم، وتشير معظم الدراسات الكلاسيكية إلى أن إستراتيجيات الإنكار هي بطبيعتها أكثر موثوقية من إستراتيجيات العقاب[9].
قدمت امرأة من المسلمين بجَلَب لها فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فأرادوا أن تكشف عن وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتلـه، فشدت اليهـود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع[10].
لم يُخرِجوا من قاموا بقتل الرجل المسلم، إنه اختبار على المحك، فاضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواجهتهم، وخانوا وعـدهم الـذي تطـاولوا به: «لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا»، فتحصنوا في حصونهم، استمر الحصار عليهم خمسة عشر يوماً، توقعوا أن يحصلوا على دعم، خذلهم حتى مواليهم، كان عليهم أن يمارسوا عادتهم القبيحة، لم يفعلوا لأن وعد الله معجزة {سَتُغْلَبُونَ}، فأعلنوا الهزيمة والاستسلام غير المشروط، معجزة تكرمة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
أوضح رونن بيرجمان بالتفصيل تاريخ وحجم استخدام القتل المستهدف (الاغتيالات) خارج نطاق القضاء أداةً للدفاع والسياسة الخارجية لبرامج القتل المستهدف، بصور تقشعر لها الأبدان لتطور برنامج الاغتيال، الذي قام باغتيال عدد كبير، وقد تبنَّت العديد من الأساليب في أكثر من دولة متقدمة، وكتابه «انهض واقتل أولاً»، المستوحى من التلمود[11] والمبدأ الذي يقول: «إذا جاء شخص مَّا ليقتلك، انهض وأقتله أولاً»[12]، وكررها كثيراً ليؤكد على فاعليتها في كتابه[13] وكرر مراراً بأن الاغتيال «القتل المستهدف» ليس شيئاً سيئاً، تبرز أهميته عندما يكون هدف الردع في الأهمية هدفاً استباقياً[14]، وبالغ عندما أكد أن الاغتيالات تحقق ردعاً قاطعاً واضحاً[15]. فقد قام باحثان فرنسيان بدراسة تأثير الاغتيالات على مجرى التاريخ، وبعد فحص نصف قرن من الاغتيالات السياسية خلصا إلى أنها لا تغيِّر مجرى التاريخ[16].
غزوَة بني النضير (ربيع الأول 3هـ):
«من رؤية ردعية لا يمكن أن تتأخر غزوة بني النضير إلى سنة عن موعدها، لأن ذلك يدلل علـى تباطؤ وتراخٍ لا يُقبَل ردعياً ولا منطقيّاً في إدارة الصراع، لأن الصراع مع اليهود في توتر وتصاعد على المحك، فضلاً عن اشتباك أطراف كثيرة مع المدينة يغري اليهود بتسريع الاختبار، وعلينا أن نتبع كلَّ من ذكر بأنها حدثت بعد بدر بستة أشهر[17]، من المنطقي أن تأتيَ كاختبار يهودي بعد التجربة الأولى بستة أشهر: «ثلاثة أشهر يتجاوزون بها صدمة بني قينقاع نفسياً، وثلاثة أشهر كافية للوصول إلى رأي ولاختباره عملياً، أما أن تتأخر لسنة ونصف فهذا لا يُقبَل صراعيّاً ولا ردعيّاً، لأنه يدلل على تباطؤ غير منطقي وغير مبرَّر في سياق الصراع المتصاعد، في ظل ازدياد توتر يتصاعد ولا يهدأ، فضلاً عن أن الوقت ليس في صالحهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم يزداد قوة ومكانة ويكسب أعداداً ويكتسب هيبة تضاف إلى رصيد ردع تكوَّن وبدأ يتراكم[18]».
لم يعتبر بنو النضير ببني قينقاع، فكَّروا في اختبار آخر، لعله ينجح في ظل اشتباكات دموية خطيرة ومتنوعة تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستنزف قوَّته، وقد شجع اشتباك قريش وعرب وأعراب المنطقة الرمادية حول المدينة بني النضير على اختبار تجربة حاسمة طالما أتقنوها، من الخطأ أن يكرروا محاولة بني قينقاع، يعلمـون ذلك، راجعوا تاريخهم، ودققوا وتحمسوا فتشجعوا، حتى سولت لهم أنفسهم أن يمارسوا ما اعتادوا عليه مع الأنبياء على سبيل المثال قتل النبي زكريا[19] عليه السلام، وهي ممارسات مرسخة تاريخياً ومحاولة اغتيال المسيح عليه السلام ما زالت ترن، وتلح، ولو تناقشت مع أمريكي، لا يستبعد عملية الاغتيال، وربما يذكرك بما فعله (فوضويو هايماركت)[20].
لقد خططوا خطة ماكرة لاستدراج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي من الردع منطقية لصعوبة مواجهته قتالياً، ويأبى الصراع إلا الاغتيال، ولا يستبعد ردعياً أن الفكرة قبلت، وأن محاولات كثيرة دُرسَت لاستدراجه صلى الله عليه وسلم . قبل المحاولة التي سجلها الرواة، أورد رواية الاغتيال هذه ابن مردويه بإسناد صحيح «عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:... فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم : اُخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثَة مِنْ أَصْحَـابك وَيَلْقَاك ثَلَاثَة مِنْ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ آمَنُوا بِك اِتَّبَعْنَاك. فَفَعَلَ. فَاشْتَمَلَ الْيَهُود الثَّلَاثَة عَلَى الْخَنَاجِر فَأَرْسَلَتْ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي النَّضِير إِلَى أَخ لَهَا مِنْ الْأَنْصَار مُسْلِم تُخْبِرهُ بِأَمْرِ بَنِي النَّضِير، فَأَخْبَرَ أَخُوهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِمْ، فَرَجَعَ، وَصَبَّحَهُمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ يَوْمه»[21].
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة برسالة ردع شفهية: «اخرجوا فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجَّلتكم عشراً فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه»[22]. وبعث رهـط من بني عوف بن الخزرج إلى بني النضير، منهم: عبد الله بن أُبيِّ بن سلول، ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير: «أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم».
فقويت عند ذلك نفوسهم، وتشجع حيي بن أخطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يخرجوا، ونابذوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، نوعاً من ممارسة الضغط ليخرجوا، فنادوا أن يا محمد! تنهى عن الفساد، وتعيب على من صنعه؛ فما بال قطع النخيل وتحريقها؟
حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ست ليال، حصونهم منيعة، ومخزوناتهم كثيرة ووفيرة، واستبعد حتى المسلمون استسلامهم، وبهذا ازداد الموقف تعقيداً وإحراجاً وجسَّد الوضع حالة عجز الردع، حالة أشد حراجة للردع النبوي إذ استمرت ولو قليلاً، لتأثيرها السلبي على مكانة وهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك تجرِّئ المنافقين، فضلاً عن المتربصين بالخارج في المنطقة الرمادية، حالة وصلت إلى انسداد قنوات التواصل، وصمود الحصون، حتى حدثت قناعة بأن الحصـون منيعة وتحرج الردع بالإنكار، وما إن بدأ يتـأكد عجز الردع إلا وتحدث المعجزة غير المتوقعة التي لم تكن في الحسبان، لاستبعادها استبعاداً مطلقاً. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ظ¢].
تحدث المعجزة فيخرجهم الله عز وجل ويقذف الرعب في قلوبهم، رعب مفزع لا تقاومه الموانع والحصون، رعب أوقفهم أن يمارسوا عادتهم القبيحة، عادة القتل الجماعي، رعب لم يوقفه إلا الاستسلام، فأعلنوا الاستسلام غير المشروط: أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أَّن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخربوا بيوتهم، وحملوا على الإبل ما لا تطيق، وخرجوا...
لوحظ أن سلام بن أبي الحقيق حمل جلد ثور مملوءاً ذهباً على بعير، ونادى أثناء خروجه وبأعلى صوته وهو يطرق عليه بكلتا يديه بغيظ وقوة يقول: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل.
رسالة ردع بالغة الدلالة «هذا ما أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل» وضحت الرسالة توجههم وغايتهم، وما إن نزل أكابرهم: حيي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن أبي الحقيق خيبر حتى دان لهم أهلها[23]، صراع بني النضير لم ينته بخروجهم من المدينة، ولا بالأحزاب ولا بخيبر.
لم يصادر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعدوه لرفع الأرض وخفضها، ولم يعاقبهم على جرمهم، قارن ذلك بمن جردوهم من السلاح ثم قتلوهم، ومن أخرجوهم دون سبب يذكر، على سبيل المثال: أصدر الملك هنري الثاني، قانون السلاح عام 1181م الذي نص على أنه لا يحق لليهودي أن يملك درعاً أو سيفاً، وعليه أن يبيعها أو يسلمها أو يتخلص منها بأي شكل كان، وبعد ثماني سنوات، تم ذبحهم.
وأصدر الملك فيليب في أغسطس (1180 - 1223م) مرسوماً يأمر بمقتضاه اليهود بمغادرة المملكة قبل حلول عيد القديس يوحنا المعمدان بممتلكاتهم الشخصية فقط[24].
عشية الحكم على بني قريظة (ذي القعدة سنة5هـ):
كثيرة القصص الحقيقية عن الخيانة اليهودية[25]، خان بنو قريظة دستور المدينة في أحرج المواقف وقت حصار الأحزاب المدينة، تحالفوا مع حيي بن أخطب سيد بني النضير، بعد أن وعدهم بأنه سيكون معهم في أسوأ الظروف، فضلاً عن أنهم سمحوا للأحزاب باستخدام مواقعهم الإستراتيجية قواعدَ لمهاجمة المدينة من الجنوب الشرقي، وإن لم تنجح فكرة الاقتحام من عند بني قريظة، فعلى الأقل تخفف أعداد المقاومين على الجبهة الشمالية، فيقل العدد أمام ضغوط الأحزاب المتواصلة فتنهار معنويات المسلمين، وبهذا تتمكن الأحزاب من الاقتحام بقوة.
أبدوا تحمساً واستعداداً للمشاركة في حـرب الأحزاب ضد المدينة، وقامت فرقة استكشافية من بني قريظة لجمع مزيد من المعلومات الجديدة تحاول أن تختبر الحصون وحراستها، وأول ما قاموا باختباره، حصن فارع (حصن حسان بن ثابت، كانت فيه النساء والذراري) استعداداً لمهاجمته، ومن ذلك قصة اليهودي الذي قتلته صفية بنت عبـد المطلب رضي الله عنها بعد أن مرَّ بالحصن، وتأكد بأن ليـس فيه رجال، حتى شجعته الحالة ليثبت لفرقته صدق قوله، تسور الحصن وهبط بداخله، وسقوطه على الأرض سهَّل على صفية بنت عبد المطلب سرعة الإجهاز عليه قبل أن ينهض ليفتح باب الحصن، وما إن سقط جثمـانه على مقربة من فرقته الاستكشافية حتى فروا هاربين، ولم يعيدوا التجربة لا في هذا الحصن ولا في غيره[26].
بعدما رحل الأحزاب عن المدينة مثَّل رحيلُهم هزيمة ثقيلة لأكبر تجمع حربي عسكري تجمَّع لاقتحام المدينة، ومثَّلت حالتهم عجز الردع وفشله، أمام صمود المدينة الأسطوري، صموداً تعجز الكلمات عن وصفه، وعن سرده، ومن ناحية أخرى كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رؤية ردعية أن يعجل بالتأكيد على تولد الردع النبوي وقوَّته بالردع بالعقاب، فعليه على الفور أن يبادر في الردع بعقاب كلِّ من خططوا لفكرة تجميع الأحزاب ونفَّذوها، وليبدأ بالأقرب مسكناً، كما لا يغفل عن الأبعد بتسيير الغزوات والسرايا، وليراقب بيقظة وانتباه تحركاتهم، بحيث لا يسمح لهم إطلاقاً بالتجمع والتحزب ثانية ضد المدينة، والحق إنها لمهمة شاقة، يصعب تنفيذها فضلاً عن تحقيق أهدافها، وذلك بالنظر إلى إمكانياته المحدودة، وقلة العنصر البشري المعد والمستعد للمهام، فضلاً عن ترامي المنطقة واتساعها وصعوبة تضاريسها.
أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تباطؤاً واضحاً، فقد رجع ووضع السلاح ودخل واغتسل في بيت أم سلمة، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم!
قال: فإلى أين؟
قال: ها هنا، وأشار إلى بني قُريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غازياً، في رسالة تحمل شارة ردع «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة»، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: «من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا في بني قريظة» بادر المسلمون فتحركوا نحو بني قريظة، وأدركتهم صلاة العصر في الطريق، بعضهم صلاها في الطريق، وبعضهم صلاها بعد العشاء الآخرة في بني قريظة، ولم يعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أي منهم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها: بئر أنَّا، وتلاحَق المسلمون وتجمعوا وحاصروا بني قريظة.
اشتد الحصار على بني قريظة، فعرض عليهم كعب بن أسد رئيسهم اختيار خيار من اثنين: أن يسلموا، فقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم.
أو أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم حتى يقتلوا عن آخرهم، الخيار الأخير خيارهم المفضل عند إحكام الحصار عليهم، ويطلق عليه اصطلاحاً القتل الجماعي، فأبوا أن يجيبوه إلى خيار الإسلام.
بقي الخيار الأخير، فلماذا لم يمارس بنو قريظة طقوس القتل الجماعي؟
يتبع
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك