أقبل ولا تخف
حسنية تدركيت
أقبل ولا تخَف، لا تلتفت إلى الوراء فيشدَّك الحنين إلى المعاصي، كُنْ واثقًا أن القادم أجمل وأروع، أقبِلْ على الله بقلْب مُحِبٍّ وخاشع وواثق من وعد الله، إن الله يحب التَّوَّابين، ألْقِ بكلِّ المخاوف في وادٍ سحيق، وشَمِّر عن ساعد الجِدِّ، واجعل الجنَّة نُصْبَ عينيك، وتوكَّل على الحيِّ الذي لا يموت، أعطه كلَّ الحب؛ فهو أهل للحب والتقوى، وأهل المغفرة، ولن تخشى جفاء ولا قسوة، ولا بُعْدًا بعد اليوم، أنت حرٌّ طليق بعبوديتك لله الواحد القهار، ما أسعَدَك! وما أوْفَر حظَّك! أنت عبدٌ لِمَلِك الملوك، فما الذي تخشاه؟ ما الذي يجول بخاطرك وأنت تتقدَّم خطوة وترجع خطوتين؟ ألم يعمر قلبَك حبُّك الله بعد؟
وهو يغمرك بالعطايا والهدايا يمنحك السِّر الجليل "الحياة"، تتقلَّب في نعيمه، ثم تتردَّد في طاعته؟
لا شكَّ أن الطريق إلى الله حافل بالتضحية والبذل والعطاء، فلْيَكن زادُك الصَّبرَ والاحتساب، واجعل الموت واعظًا لك وزاجِرًا، ولا يَخْدعك الأمل الكَذوب؛ فحَبْله قصير وإن طال، فمَن قصر أملُه هانت عليه مصاعب الحياة، فقد جاء في الحديث الشريف: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((بادِروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضا مفسدًا، أو هرمًا مُفنِّدًا، أو موتا مجهزًا، أو الدَّجال، فشَرُّ غائبٍ منتظَر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمرُّ؟!))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
تخونك نفسك، وتصوغ لك الأعذار بـ "عسى" و"ليت" و"ربما"، وقد لا تنتظر إن حلَّ الظلام شروقَ شمس الغد، فكم ممن عاش قبلك اغترَّ بشبابه وبعيشه الرغيد، وتوانى وأخَّر الطاعات، وأسرف على نفسه وأهلَكَها، وأخلد إلى الدنيا لا يزعجه رحيلُ قريب ولا موت حبيب، لا يهتزُّ قلبه لمصائب الدُّنيا، فيُعمل فيها الفكر ويتدبَّر، فزجر نفسه عن هواها، ولكن تمادى، وقال: هذه سُنَّة الحياة، حتى إذا بلَغَتِ الحُلْقوم لم تنفعه "عسى" و"سوف"، وقطعت نياطَ قلبه الحسراتُ على ما فرط فيها.
فهل تركن إلى الأمل الخادع، وتكون كالذي غرَّته الحياة الدُّنيا حتى إذا أدركه الموت قال: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ [المؤمنون: 99].
ما الذي يمنعك من السَّير مع الركْب، وقد رأيتهم كيف غلبوا شهواتهم وقهَروها، فارتَقَوا بأرواحهم، فخُلِّد في الدُّنيا ذكرهم، أعلامًا للخير، وقدوة لكلِّ مَن أراد الله والدار الآخرة، أتخشى أن يحيف الله عليك ورسولُه، وهو سبحانه القائل في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40].
وقال - عَزَّ مِن قائل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الكهف: 107].
أبَعْد كلِّ هذا تشعر بالتَّردُّد؟ أَهُناك فوز أعظم من الجَنَّة؟ وهل توجد حياة مستقرَّة وسعيدة في البعد عن الله؟
صفقة رابحة يُعطيك الله فُرْصة استثمارها وأنت الرَّابح في الدُّنيا والآخرة، ومع هذا، فالله سبحانه لا يَتْركك تُصارع أمواج الفِتَن بمفردك، فهو برحمته وكرَمِه يمنحك أسلحة لا يقف أمامَها حزنٌ ولا هَمٌّ ولا غمٌّ، ويفتح لك أبواب الخير، ويجعل لك نورًا تَمشي به في دياجير الظَّلام، أنت تحيا في معيَّة المَلِك، فهل تخشى شيئًا ورحمتُه تغمرك؟ يبتليك؛ ليجعلك أهلاً لجنَّة عَرْضُها السَّموات والأرض، أعدَّها الله للمتقين.
ألم يَنْتَبْك مرَّةً هذا السؤالُ: ما الذي ينقصني حتى أكون من الأوائل؟ أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، أنعجز أن نكون منهم؟ ما الذي حرَّك قلوبهم فألهبها الشَّوق إلى الله؟ إنه الحُبُّ متى ترسَّـخَ وتعمَّق في النفس صَنَع -بإذن الله- العجائب، ألاَ نستطيع أن نأتي بصفة واحدة من هذه الصِّفات العظيمة التي ذكرها الله في القرآن؟ هل تبدو صعبة ومستحيلة؟
كم تشتاق أرواحُنا إلى المعالي! وكم نُعانِد في سجنها عبر أحلام واهية بامتلاك ما نرى أنَّ فيه سعادتَها، هل يَشْقى قومٌ دَيْدَنهُم النَّدَم على التفريط، والمحاسبة على التقصير، والاستغفار كُلَّما عثرت الأقدام وزلَّت؟ لا ورَبِّي لا يشقى قوم همُّهم رضا الله ورسوله، وإن زلُّوا هرعوا إلى دوائهم (الاستغفار)، ثم انكسروا وذَلُّوا، وخضعوا لله رب العالمين.
ما زِلْتَ تقف بعيدًا، تتردَّد هل تطرق الباب أم تقفل راجعًا خاوي الوفاض، طاويًا قلبك على ألم جديد؟!
وقد يستغرق منك هذا التردُّد وقتًا طويلاً، ونحن مُطالَبون باستغلال كُلِّ لحظة؛ فالعمر هو هذه الثَّواني التي نستصغرها، فقد كان سيِّد الأنبياء والمرسلين -عليه الصَّلاة والسَّلام- يُحذِّرنا من طول الأمل؛ حيث روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خَطَّ النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- خطًّا مربعًا، وخط خطًّا في الوسط خارجًا عنه، وخط خططًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجَلُه محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمَلُه، وهذه الخطط الصِّغار الأعراض، فإنْ أخطَأَه هذا نهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا))؛ رواه البخاري.
وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخَذ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بمنكبي فقال: ((كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمْسَيتَ فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحَّتِك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وكان السَّلَف الصالح يخافون جدًّا من ضياع الأعمار، ويحرصون على طاعة الله -عزَّ وجلَّ- وكانوا يتحَسَّرون على فوات الأعمال الصالحة.
قال سَلْمان الفارسي -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ أعجبَتْني حتى أضحكَتْني: مؤمِّل الدُّنيا والموت يطلبه، وغافلٌ ليس يُغفَل عنه، وضاحك مِلْءَ فيه ولا يدري أساخِطٌ ربُّ العالَمِين عليه أم راضٍ؟".
تخشى أن تفوتك الدنيا وبهجتها؟ وفي القرآن تَظْهر حقيقتها ومُدَّتها القصيرة، وكأنما هي حلم نائم، قال -جل في علاه-: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 112 - 115].
والله يفتح لك باب الأمل على مصراعيه؛ لكي تَنْعم بالحياة في الدَّارين في ظِلِّ رضاه، وذلك في قوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
فماذا تنتظر؟ الفرصة ما زالت أمامك للسِّباق نحو جنات الفردوس، ويا سعادة وفرحة قلبٍ يظفر بحُبِّ الله ورضاه! فينعم بجنته هنا، وبجنات الخلد هناك.
فليكن شعارنا ما حَيِينا، قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالِقِ الناس بِخُلُق حسن))؛ رواه الترمذي وحسَّنَه الألباني.
فالحسنة تمحو السيِّئة كما في الحديث، وكما هو نص القرآن: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].
لا تتوانَ عن فعل الخيرات، وقُل دائمًا: ﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: سِتُّون سنة، قال له: أنت منذ ستِّين سنة تسير إلى ربِّك، يوشك أن تَصِل.
وقال أبو الدَّرداء: إنما أنت أيام، كلَّما مضى منك يوم، مَضى بعضك.
فيا أبناء العشرين، كم مات من أقرانكم وتخلَّفْتم!
ويا أبناء الثلاثين، أُصِبتم بالشباب على قرب من العهد، فما تأسَّفتم.
ويا أبناء الأربعين، ذهب الصِّبا وأنتم على اللَّهو قد عكَفْتم.
ويا أبناء الخمسين، تنصَّفتم المائة وما أنْصَفتم.
ويا أبناء الستِّين، أنتم على مُعْترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون؟ لقد أسرفتم!
وفي صحيح البخاري عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أعذَرَ اللهُ إلى مَن بلَّغَه ستِّين سنة)).
والدُّنيا دار ابتلاء، لا قرار فيها ولا استقرار، ولنا في كتاب الله العبر والعظات لِمَن أراد اللهَ والدار الآخرة؛ فقد قال -عزَّ وجلَّ-:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45].
يا له من وصف اختصر الزَّمن والمكان في سطر واحد؛ ليفتح لنا آفاقًا للتأمُّل، وكأنما هي سَنَا برْق، ومَضَ ثم اختفى، رهبة وخوف يغمر النَّفس أمام هذه الحقيقة، وليتنا نأخذ العبرة، ونستعدُّ للرحيل.
أقبِلْ ولا تخَفْ؛ فللرُّوح أشواق وأشجان لا تَهْدأ أبدًا إلاَّ بين يدَيْ مولاها، ولا يَفْتُر حنينها وأنينها إلاَّ في القرب من الله -سبحانه وتعالى- اشتر سعادة أبديَّة بالوقوف على باب الكريم، قال ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "في القلب شعث تفرَّق، لا يلمُّه إلاَّ الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلاَّ الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق، لا يُذهبه إلاَّ الفرار إلى الله، وفي القلب حسرة لا يُطْفِئها إلاَّ الرِّضا بالله - عزَّ وجلَّ-.
أقبل وأسلم لربِّك كُلَّ الأمر، فلن يَخِيب رجاؤك وأملك، وستَجْني يومًا ثمارًا حلوة للصَّبر، واحتسابك وسيْرك على درب الصالحين، قال - جلَّ من قائل -: ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 115].
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك