طغيان الطاعات ومحبطات الحسنات
طغيان الطاعات ومحبطات الحسنات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصَحبِه، ومَن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فهذه هي شَطر مِن كلمة للعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (3/ 225) وهي قوله: "طغيان المعاصي أسلَمُ عاقبةً مِن طُغيان الطاعات".
وهذا في الحقيقة كلام في غاية ما يَكون مِن الأهمية والنفاسة، وهو عزيز جدًّا - ويشمل هذا قلَّته وندرته، وكذا قوته - ولهذا استوقفَتني كثيرًا، وتأتي هذه الأهمية مِن قِلَّة مَن تكلَّم عليها من جِهة، وبالتالي الجَهل الكبير به مِن قِبَل الكَثيرين مِن الملتزمين - إن صحَّ التَّعبير - ناهيك عن الكثير من أبناء المسلمين.
وياللهِ كم هي كثيرة تلك القصص التي تقصُّ هنا وهناك، ونَراها هنا وهناك، ونسمَع بها مِن هنا وهناك عن طغيان الطاعات، وكيف تجرُّ صاحبها إلى ما لا يُحمَد في الدنيا والآخرة.
ولقد كان السبب الباعث لابن القيم رحمه الله على ذِكر ذلك أنه رحمه الله بعد أن تكلَّم على الحُجُب التي تكون بين القلب وبين الله عزَّ وجلَّ وتَحول بينه وبين هذا الشأن وذكره لعشرة منها، شرَع - بعد ذلك - يتكلَّم عن منشئها، ثم بيَّن كيف أنها تُفسد القَول والعمل، والقصد والطريق بحسب غلبتِها وقِلَّتها، ثم بيَّن أنه يَجب مُحارَبة كل هذه المُفسدات والتي أسماها:
(قُطَّاع الطريق)، ثم قال رحمه الله: "فإن حاربَهم وخلص العمل إلى قلبِه، دار فيه وطلَب النفوذ مِن هناك إلى الله؛ فإنه لا يستقرُّ دونَ الوصول إليه ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42]،
فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدًا في إيمانه ويَقينه ومَعرفته وعقلِه، وجمَّل به ظاهرَه وباطنَه؛ فهداهُ به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرَف عنه به سيئ الأخلاق والأعمال، وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جندًا يُحارب به قُطَّاع الطريق للوصول إليه، فيُحارِب الدُّنيا بالزهد فيها وإخراجها مِن قلبه، ولا يضرُّه أن تكون في يده وبيتِه، ولا يَمنع ذلك من قوة يَقينه بالآخرة، يُحارب الشيطان بتركِ الاستِجابة لداعي الهوى؛ فإن الشيطان مع الهوى لا يُفارقه، ويُحارب الهوى بتحكيم الأمر المُطلَق والوقوف معه بحيث لا يَبقى له هوى فيما يَفعله ويَترُكه، ويُحارب النَّفس بقوَّة الإخلاص، هذا كلُّه إذا وجد العمل منفذًا مِن القلب إلى الربِّ سُبحانه وتعالى، وإن دارَ فيه ولم يَجد منفَذًا، وثبَتْ عليه النفس فأخذته وصيَّرته جندًا لها، فصالتْ به وعلَتْ وطغَتْ، فتراه أزهد ما يكون، وأعبد ما يَكون وأشده اجتهادًا، وهو أبعد ما يَكون عن الله، وأصحاب الكبائر أقرَب قلوبًا إلى الله منه، وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص.
فانظر إلى السَّجَّاد العَبَّاد الزاهِد الذي بين عينَيه أثر السجود، كيف أورثَه طُغيان عملِه أن أنكر على النبيِّ وأورَث أصحابَه احتقار المسلمين حتى سلُّوا عليهم سُيوفهم واستَباحوا دماءهم؟!
وانظر إلى الشرِّيب السكِّير الذي كان كثيرًا ما يُؤتى به إلى النبي فيحدُّه على الشَّراب، كيف قامتْ به قوَّة إيمانه ويَقينه ومحبته لله ورسوله وتواضُعِه وانكِساره لله حتىَ نهى رسول الله عن لعنته.
فظهر بهذا أن "طغيان المعاصي أسلم عاقبةً مِن طُغيان الطاعات".
وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكُهم))[1]، قال أبو إسحاق: لا أَدري ((أهلَكَهم)): بالنَّصب، أو ((أهلَكُهم)): بالرفع[2].
وقال إسحاق[3]: فقلتُ لمالك: ما وجهُ هذا؟
قال: هذا رجل حَقر الناسَ وظنَّ أنه خيرٌ منهم، فقال هذا القول؛ فهو أهلَكُهم، أي: أرذلُهم، وأما رجل حَزِنَ لما يَرى من النقص من ذهاب أهل الخير، فقال هذا القَول، فإنِّي أرجو ألا يَكون به بأس.
وبنحوه قال الشاطبي في الاعتصام (1/ 357) فقد قال رحمه الله: "لأن المراد أن يقول ذلك ترفُّعًا على الناس واستِحقارًا، وأما إن قاله تحزُّنًا وتَحسُّرًا فلا بأس".
وهل الباعث له على ذلك الترفُّع والاستِحقار و...، إلا طُغيان طاعته، وإعجابه بها؟!
ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: "هذا رجلٌ حَقر الناس وظنَّ أنه خير مِنهم".
ويَزداد هذا وضوحًا عند أن تتأمَّل معي في الحديث الذي أخرَجه الإمام مُسلم رحمه الله في صحيحه رقم: (2621) عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلَّمَ: ((حدَّث أنَّ رجلاً قال: والله لا يَغفِر اللهُ لفُلان؛ وإنَّ الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى[4] عليَّ أنْ[5] أغفر لفُلان؟! فإني قد غفرتُ لفُلان وأحبطتُ عملَك، أو كما قال)).
وهذا فيه غاية الزجر والوعيد، والتنفير والتهويل، وهو إلى ذلك يدلُّ على أن"طُغيان الطاعات" مِن أعظَمِ السيئات التي تُحبط الحسنات، وتأتي عليها فتذرها قاعًا صفصفًا، وهذا - واللهِ - أعظم ما يكون من الطغيان؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "فهذا العابد الذي قد عبَدَ الله ما شاء أن يعبده، أحبطَت هذه الكلمة الواحدة عمله كله"[6].
فأيُّ طغيان أعظم من هذا الطغيان، والذي دفعه إلى استِحقار المُسلم العاصي، وجَهِل إلى ذلك سعة الكرم، فكان هو هو السبب في إحباط العمل، والذي احتقر - من أجله - ذلك المسلم، واستقلَّ شأنه، وهذا بلا ريبٍ يُجلي لنا وبوضوح أحد صُوَر طُغيان الطاعات، والذي يتجاوز بصاحبه كل الخطوط الحَمراء، دون أدنى هُوادة أو تُؤدة، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
بل تأمَّل معي هذه القصة التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كان رجلان في بنى إسرائيل متآخَين، فكان أحدُهما يُذنب، والآخر مُجتهد في العبادة، فكان لا يَزال المُجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنبٍ [وفي رواية للبيهقي في شعب الإيمان: حتى رآه على خطيئة فاستعظمها]
[وفي رواية للبزار: حتى وجَدَه يومًا على عظيمة] فقال له: أَقصِر، فقال: خلِّني وربِّي، أبُعثتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: واللهِ لا يَغفر الله لك [وفي رواية للبيهقي: ويحَك، إلى كم لا يَغفر الله لك أبدًا]، أو لا يُدخلك الله الجنة، [وفي رواية لابن حبان، والبَيهقي: فبعث إليهما ملَك] فقبَض أرواحَهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المُجتهد: أكنتَ بي عالمًا، أو كنتَ على ما في يَدي قادِرًا؟! وقال للمُذنب: اذهب فادخُل الجنَّة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذى نَفسي بيده، لتكلَّم [وفي رواية للبزار: لقد تكلَّم] بكلمة أوبقَتْ دُنياه وآخرته[7].
فتأمَّل كيف كانت عاقبة الاغتِرار بالطاعة، وكيف أنه قد يجرُّ في طياته، ويَحمل بين جنباته جملةً من الموبقات، إلى جانب التألِّي على الله؛ من مثل: العُجْب، والكِبر، وإظهار الطاعة، وتزكية النفس، وتبرئتها من الذنوب والمعاصي وتنزيهها عنها، وكذا الشماتة بالغير وإظهارها، وأذية عباد الله، والتطاوُل عليهم، وغمط الناس، واحتقارهم وازدراؤهم، وسوء الظنِّ بالمسلمين، والإعراض عن حول الله عزَّ وجلَّ وقوَّته، إلى حوله هو وقوته والذي لا يُسمن ولا يغني من جوع، بل قد يصل بصاحبه إلى البغي والظُّلم؛ ولذلك بوب عليه الإمام أبو داود:
باب في النهي عن البغي، ثم تأمل كيف تكون عاقبة طُغيانها، وكيف أنها تُحبط الحسنات، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه الفقيهُ ما قال، وهي - والله أعلم - إشارة منه إلى أنه وبسبب ذلك خسر أعماله الصالحة في الدنيا، ثم كان مَصيره في الآخرة إلى النار، فأيُّ زجر وأيُّ تنفير عن هذه البلية؟
نعوذ بالله مِن ذلك، ونسأل الله السلامة والعافية.
وأذكر قصة - استِئناسًا لا اعتمادًا - ذكرها أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (4/ 152) قال: "رُويَ أن لصًّا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة، فمرَّ عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد مِن عُبَّاد بني إسرائيل من الحواريِّين، فقال اللصُّ في نفسه: هذا نبيُّ الله يمُّر، وإلى جنبه حواريه، لو نزلتُ فكنتُ معهما ثالثًا، قال: فنزل فجعل يريد أن يَدنو مِن الحَواريِّ، ويَزدري نفسه؛ تعظيمًا للحواري، ويقول في نفسه: مثلي لا يَمشي إلى جنب هذا العابد، قال: وأحسَّ الحواريُّ به فقال في نفسه: هذا يَمشى إلى جانبي، فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فمشى بجنبه، فبقي اللصُّ خلفه، فأوحى الله -تعالى- إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: قل لهما: ليستأنفا العمل؛ فقد أحبطت ما سلف مِن أعمالهما.
أما الحَواريُّ: فقد أحبطت حسناتِه؛ لعُجبه بنفسه، وأما الآخر: فقد أحبطتُ سيئاته؛ بما ازدرى على نفسِه، فأخبَرَهما بذلك، وضمَّ اللصَّ إليه في سياحته، وجعله مِن حواريِّه".
فلا غرْوَ بعد ذلك أننا بِتنا نُدرك لماذا قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "طغيان المعاصي أسلم عاقبة من طغيان الطاعات"!
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم: (759)، ومسلم رقم: (2623) والسياق له.
2] وهذا التردد هو بين كون هذه الكلمة اسمًا فيكون ضبطها - بالضمِّ -: ((أهلَكُهم))، والمعنى: أنه أشدُّهم أو أكثرهم هلاكًا، أو فعلاً فيكون ضبطها - بالفتح -: ((أهلَكَهم)) والمعنى: أنه جعلهم في هلاك؛ أي: جعلهم يَهلكون، أو هو الذي أوقعهم في الهلاك، وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 628)، وتاج العروس من جواهر القاموس (27/ 401)، وتهذيب اللغة (6/ 12) وغيرها.
3] الآداب (ص: 104) للبيهقي
.[4] ومعنى يتألى: يحلف، والألية اليمين؛ شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 174).
[5] كذا في مسلم، ووقع في شعب الإيمان (9/ 60) للبيهقي، وشرح السنة للبغَويِّ (14/ 386): ((لا أغفر)).[6] الجواب الكافي (ص: 111).[7] أخرجه أبو داود رقم: (4903)، وابن حبان في صحيحه رقم: (5804)، والبيهقي في الشعب (9/ 60)، والبزار في مسنده (16/ 244) وغيرهم، وقد صححه الشيخ الألباني، والحويني، وحسَّن شيخُنا مُقبِل إسناد حديث أبي داود في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين.
أ - بكر البعدانى حفظه الله
المصدر:
منتديات بيت حواء - من قسم:
منتديات اسلامية,( على منهج أهل السنة والجماعة)
'ydhk hg'huhj ,lpf'hj hgpskhj
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك