اعتماد منهج الحافظ ابن كثير الدعوي على الكتاب والسنة
مبارك بن حمد الحامد الشريف
توطئة:
إن أول خصائص منهج الدعوة إلى الله تعالى عند ابن كثير رحمه الله في تفسيره القرآن العظيم اعتماده على الكتاب والسنة، فكل مصدر سواهما إنما هو تبع لهما، فهما المقدمان على غيرهما، وعند الخلاف يجب الرجوع والاحتكام إليهما، فكل قول أو رأي مهما كان قائله وأيا كان مصدره مما يخالف الكتاب والسنة فهو مردود على صاحبه، فالداعية إلى الله والسالك إليه لا يسعه في دعوته وسلوكه إلا الالتزام بالكتاب والسنة حتى يسلم منهجه في الدعوة إلى الله ويصح سيره إليه، وقد أكد علماء السلف رحمهم الله على ذلك في كثير من أقوالهم و كتاباتهم فمن ذلك مثلا قول الجنيد بن محمد[1] رحمه الله « علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ الكتاب والسنة لا يصلح أن يتكلم في علمنا »[2].
وقول أبي سليمان الداراني[3] « إنه ليقع في قلبي النكتة (كلمة الحق) من نكتب القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين الكتاب والسنة »[4]. يقول ابن تيمية رحمه الله « على كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه، هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين »[5].
وهذا المنهج هو ما قرره ابن كثير رحمه الله في ثنايا تفسيره، وهو ما يدعوني إلى الحديث عنه في المباحث التالية:
وقبل البدء في الحديث عن اعتماد ابن كثير على الكتاب والسنة أود أن ابدأ بتعريف الكتاب والسنة في اللغة والاصطلاح، وبما أن معنى القرآن معروف فنكتفي بتعريف السنة في اللغة والاصطلاح.
السنة في اللغة:
السنة لغة: الطريقة محمودة كانت أم مذمومة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة »[6].
وأما السنة في الاصطلاح:
فهي عند المحدثين (ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خِلْقية أو خُلُقيه) وهي بهذا التعريف تكون مرادفة للحديث، وأما عند علماء أصول الفقه فهي « ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ويضيف بعضهم « مما يصلح أن يكون دليلًا شرعيًا »، والسنة عند الفقهاء: ترادف المستحب وهو ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه، وعند علماء العقيدة: هي كل ما ثبت بالدليل الشرعي أو ما دل عليه الدليل الشرعي سواء كان قرآنا أو حديثا، أو من القواعد الشرعية العامة، فهم نظروا إلى السنة من حيث مقابلتها للبدعة[7].
ونحن نريد بالسنة ما عناه الأصوليون لأنها بتعريفهم هي مصدر التشريع.
المبحث الأول: تقديم ابن كثير الكتاب والسنة على ما سواهما:
ليس لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يتردد في الأخذ بالكتاب والسنة، أو أن يعرض عن التحاكم إليهما، لأنه « لا يسع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأبى عما وجد فيهما »[8]. ولا عجب في ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذ ما أمرنا به وننتهي عما نهانا عنه كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾[9]، « أي مهما أمركم به فاتبعوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهاكم عن شر »[10]. فابن كثير رحمه الله يقرر أن تقديم الكتاب والسنة على ما سواهما أمر لا خيار فيه لأن هذا مقتضى الإيمان بالله ورسوله ومخالفة ذلك يعتبره ابن كثير تقدم بين يدي الله ورسوله فيقول عند تفسير الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[11]، « أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله بل كونوا تبعا له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن بم تحكم؟ قال بكتاب الله قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي فضرب في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله[12]... فالغرض منه أنه أَخّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله»[13]. فمن ترك العمل بكتاب الله أو قدم عليه ما سواه من الأقوال والآراء والقوانين والأحكام البشرية فقد هجره ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾[14]، يقول ابن كثير، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه وترك العمل به من امتثال أوامره واجتناب زواجره هو العدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناءٍ أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنّان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب »[15]. وكيف يسوغ للمسلم أن يقدم قول أحد أو رأيه كائنًا من كان والقرآن أشرف كتاب أنزله الله ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أعظم نبي أرسله الله »[16].
فإذا قضى الله ورسوله أمرًا فلا يسع لأحد مخالفة ذلك الأمر أو تقديم غيره عليه ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾[17].
فالمسلم الذي يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويظن أن ذلك هو الذي يتناسب مع هذا العصر ويتماشى معه هو مخطيء في تصوره، وجاهل بحكم الله وشرعه، لأن « حكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصا أو ظاهرا، أو استنباطا أو غير ذلك، علمه من علمه وجهله من جهله »[18]. إضافة إلى ذلك فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده فهو بذلك يُعَرِّض نفسه لسخط الله وعذابه ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾[19]، « أي لكونه غيّر ما حكم الله به، ومَعادٍ لله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالاهانة في العذاب الأليم المقيم »[20]، فالحاصل أن مقتضى الإيمان ولازمه تقديم الكتاب والسنة على ما سواهما من القوانين الوضعية، التي يضعها الناس بأهوائهم وآرائهم وتصوراتهم من عند أنفسهم، ويتخذونها شرعًا من دون الله ويقدمونها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذا قادح في إيمان العبد ومُخرج له من الملة إن اعتقد عدم وجوب الحكم بما أنزل الله، واستحل أن يحكم بين الناس فيما يراه من غير اتباع لما أنزل الله.
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله « الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاما غير نظام الله وتشريعا غير تشريع الله كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البته بوجه من الوجوه فهما واحدٌ وكلاهما مشرك بالله »[21]. ولقد أفاض كثير من العلماء قديما وحديثا في تقرير هذه المسألة وبيان خطورتها وأهميتها وعلاقتها بإيمان المسلم وعقيدته[*].
فواجب الدعاة إلى الله أن يعيدوا الأمة إلى رشدها ويرجعونها إلى التمسك بدينها في جميع مجالات الحياة وأن يردوا على الشبه التي يثيرها اعداء الإسلام من المستشرقين وأصحاب التغريب والعلمانيين حول صلاحية تطبيق الشريعة ومناسبتها لهذا العصر، فالشريعة والدين هو النظام العام والقانون الشامل لأمور الحياة كلها ومناهج السلوك للإنسان التي أوحى بها الله عز وجل إلى نبيهصلى الله عليه وسلم وأمر بتبليغها إلى الناس كافة مع ما يترتب على التقيد بها أو عدمه من ثواب وعقاب وأن الدين والشريعة مرتبطة بالدولة في الإسلام ارتباط القاعدة بالبناء فالدين والشريعة اساس الدولة وموجهها فلا يمكن تصور دولة اسلامية بلا دين وشريعة كما لا يمكن تصور الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية فارغا من توجيه المجتمع وسياسة الدولة لأنه حينئذ لا يكون اسلاما ولا تكون شريعة اسلامية[22].
المبحث الثاني: الرد إلى الكتاب والسنة عند الخلاف:
إن أهم ما يميز منهج السلف الذي ينتمي إليهم ابن كثير أنهم يلتزمون بنصوص الكتاب والسنة عند الخلاف فلا يعارضونها باجتهاداتهم وأقوالهم ولا يترددون في الأخذ بها بل يعظمونها ويُسَلِّمون لها ويرون الزيغ والهلاك في مخالفتها يقول سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59][23]، يقول ابن كثير رحمه الله: « وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾[24]، فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾[25]، أي رُدُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر وقوله: ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾، أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع في فصل النزاع إليهما خير ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾، أي وأحسن عاقبة ومآلًا »[26]، ويقول سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [27]، قيل إنها نزلت في الزبير بن العوام رضي الله عنه[28] وحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه[29] لما اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل[30]، يقول ابن كثير في تفسير الآية: « يقسم تبارك وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَّكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: ﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾، أي إذا حَكَّموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن، فيُسَّلِّمون لذلك تسليمًا كليًا من غير مخالفة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)[31] »[32].
ولهذا تضافر كلام السلف رحمهم الله على أن الواجب الرد إلى الكتاب والسنة عند الخلاف وعدم تجاوزهما، وأنكروا على من لم يأخذ بهما فالشافعي رحمه الله لما أتاه رجل فسأله عن مسألة فقال له قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال الرجل: ما تقول أنت؟ فقال سبحان الله تُراني في كنيسة؟ تُراني في بيعة[33]؟ ترى على وسطي زنار[34]؟ أقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأنت تقول لي ما تقول أنت!!
فالسلف رحمهم الله يجعلون كلام الله وكلام رسول صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه فما وافقه كان حقًا وما خالفه كان باطلًا. فرد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو لرفع الخلاف ودفع النزاع بين الناس في أمر دينهم ومعتقداتهم قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾[35].
يقول ابن كثير: « ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين لهم أي الناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه وهدى أي للقلوب ورحمة أي لمن تمسك به »[36]، كما أن رد التنازع إلى الكتاب والسنة فيه تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر كما قال سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ﴾[37]، وإن عدم رد التنازع إلى الكتاب والسنة هو من صفات المنافقين كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾[38]، « فلا يسع المسلم الذي يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله ز، ولا أن يأبى عما وجد فيهما فإن فعل بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلًا الخروج عن أمرهما موجبًا لطاعة أحد دونهما فهو كافر لا شك عندنا في ذلك »[39]، ويقول الشوكاني رحمه الله: « فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا – وهو القرن الثالث عشر من الهجرة النبوية – أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الناطق بذلك الكتاب العزيز ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[40]، ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين »[41].
وأخيرًا يجب رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك وحي من الله فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما قاله حق وما أخبر به حق، يقول الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾[42]: « وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه على سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فما قاله فهو حق وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه فما يوافق أقواله و أفعاله فهو الحق وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان »[43].
المبحث الثالث: رد ابن كثير الأقوال والآراء التي تخالف الكتاب والسنة:
ينطلق الإمام ابن كثير رحمه الله في رده للأقوال والآراء التي تخالف الكتاب والسنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»[44]، ويعتبر أن دليل محبة الإنسان لله هي إتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما أمر به وتصديقه فيما أخبر به واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، يقول عند تفسير الآية: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾[45]،: أي خالفوا أمره فإن الله لا يحب الكافرين، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته »[46]، فالميزان الذي يوزن به الأقوال والأفعال هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على صاحبه كائنًا من كان يقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾[47]، « أي أَمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) »[48].
ولذا كان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن لا يقبل من أحد قط معارضته القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإن السلف ثبت عنهم بالبراهين القاطعة والآيات البينات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدي والقرآن يهدي للتي هي أقوم[49]، وإذا حكم الله ورسوله فليس لأحد مخالفته ويجب رد جميع الأحكام إلى حكم الله ورسوله ز، يقول ابن كثير عند تفسير الآية: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾[50]، «فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول »[51].
وقال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾[52]. يقول ابن كثير: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾؛ أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء »[53]، وابن كثير رحمه الله حينما يتبنىّ هذا المنهج ويدافع عنه وينكر على من يخالفه، فهو أيضًا من أشد الناس حرصًا على تطبيقه والالتزام به سواء في آرائه واجتهاداته العلمية أو مواقفه العملية « فهو مستقل الرأي يدور مع الدليل حيث دار لا يتعصب لمذهبه ولا لغيره وكتبه العظيمة وخاصة هذا التفسير الجليل فيه الدلائل الوافرة، ونجده – مع أنه شافعي المذهب – يُفتي في مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد بما رجحته الدلائل الثابتة الصحاح أنه يقع طلقة واحدة ثم يمتحن ويلقى الأذى فيثبت على قوله ويصر على ما يلقى في سبيل الله »[54].
يتبع
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك