معاني كلمة "الأمّ" في القرآن الكريم
بالتركيز على قوله تعالى: "فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ"
(في ضوء كلام العرب)
د. أورنك زيب الأعظمي[1]
جاءت كلمة "الأمّ" عدة مرات تارة مفردًا وأخرى جمعًا ولكن كلها تتلخص في ثلاثة معانٍ: الوالدة، والمركز، والملجأ. قال الله تعالى:﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ [طه: 37-38].﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59].﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 11].لنقرأ شواهد هذه المعاني. قال حسّان بن ثابت الأنصاري:فيهم صبيٌّ له أمٌّ لها نسبٌ *** في ذروةٍ من ذرى الأحساب أيّاد[2]
وقال حسّان أيضًا:إذا شُتِمُوا بأمّهم تولّوا *** سراعًا ما يُبِيْنُ لهم كلامُ[3]
وقال آخر يرثي أخاه:أخٌ وأبٌ برٌّ وأمٌّ شفيقة
تفرَّق في الأبرار ما هو جامعُه
سلوتُ به عن كلِّ من كان قبله
وأذهلني عن كلِّ من هو تابعه[4]
وجمعها أمّهات والمخفّف منها: أمّات كما قال الشاعر:إذا الأمّهات قبحنَ الوجوه *** فرجتَ الظلامَ بأمّاتكا[5]
وفرّقوا بينهما فالكلمة الأولى لمن يعقل بينما الأخرى لمن لا يعقل وكذا ذكروا بالعكس.[6]ومن الأمّ الحقيقية استعيرت الكلمة للأم المعنوية أي الأرض التي هي مولد الناس ومماتهم. قال أمية بن أبي الصلت:والأرضُ معقلُنا وكانت أمَّنا *** فيها مقابرُنا وفيها نولَد[7]
وبما أنّ الأمّ تجمع أولادها أو يأوون إليها فقد سمّوا الثريا أمّ النجوم لأنها مأوى النجوم العديدة فقال تأبط شرًا:يرى الوحشةَ الأنس الأنيسَ، ويهتدي *** بحيث اهتدتْ أمّ النجوم الشوابك[8]
كما سمّوا رئيس القوم بالأمّ فقال الشنفري:وأمّ عيالٍ، قد شهدتُ، تقوتُهم *** إذا أطعمتهم أوتحت وأقلّت [9]
وأما الأمّ بمعنى الوسط والمركز فقال أمية بن أبي الصلت:نؤمُّ بها ابنَ ذي يزنٍ وتفريْ *** بطونَ خفافها أمُّ الطريق[10]
أمّ الطريق: أعظمها.وقال عروة بن أذينة:أهدى لها مُخطئ الرشاد كما *** يُهدي لأمِّ الطريق مُخرِمُها[11]
أمّ الطريق: سواء السبيل، والمخرم: أفواه الفجاج.وقال الطرماح:إذاما انتحتْ أمُّ الطريقِ ترسّمتْ *** رسيمَ الحصى من مَلكِها المُتَوَضِّح[12]
أمّ وملك: وسط. والطريق هنا جاء مؤنثًا.وقال العجاج:به ندوكُ الشانئ المَداوكا
نضربُهم إذ أخذوا السكائكا
بمُرهَفاتٍ مُطِلتْ سبائكا
يفضضنَ أمَّ الهام والترائكا[13]
وأمّ الهام: سواء الرأس[14]، والشانئ: العدو وجاء هنا جمعًا.وكما قال العجاج:كأنّ في ألوانهم صُفارا *** وأمّهاتِ هامهم دُوارا[15]
وقال الفرزدق:أناخوا بأيدي طاعةٍ وسيوفُهم*** على أمّهاتِ الهام شربًا شآميا[16]
وقال الحيقطان في أمّ القرى وغارة أبرهة عليها:غزاكم أبو يكسومَ في أمِّ داركم *** وأنتم كفيض الرمل أو هو أكثر[17]
وحتى سمّوا المرء هو الأمّ لأنه هو مركز شخصيته فقال أوس بن حجر:ففاءوا ولو أسطو على أمِّ بعضهم *** أصاخَ فلم يُنصِتْ ولم يتكلّم[18]
وأما "هوتْ أمّه" فهذا تعبير عربي شائع للدعاء على الميّت فإذا سقط أحدٌ أي مات فكأن أمّه ثكلته.[19] قالت الشاعرة الجاهلية أمّ الصريح الكندية:هَوَتْ أمُّهم ما ذابهم يومَ صُرِّعُوا *** بجَيشانَ من أسبابِ مجدٍ تصرّما[20]
وقال محمد بن كعب الغنوي:هوتْ أمُّه ما يبعث الصبحَ غاديا
وماذا يؤدّي الليلُ حين يؤوب
هوتْ أمُّه ماذا تضمّن قبرُه
من المجد والمعروف حين يؤوب[21]
وكذا الأمّ هو القدر والنصيب فقال أبو ذويب الهذلي:فقال له وقد أوحتْ إليه *** ألا لله أمُّك ما تعيف[22]
و"أوحتْ إليه": أخبرته.وقال عوف بن الأبرص الجاهلي:فلم يهُلْه ولكن خاض[23] غمرتَه
يشفي الغليلَ بعذبٍ غير مِدَّان
ويلُ امِّ قومٍ رأينا أمسِ سادتَهم
في حادثاتٍ ألمَّتْ خيرَ جيران[24]
وقال أبو النجم العِجلي:ويل امِّ دورِ عزّةٍ ومجد
دورِ ثقيفٍ بسَواءِ نجد
أهلِ الحصونِ والخيول الجرد[25]
وقال أوس بن حجر:فعَضَّ بإبهامِ اليمين ندامةً *** ولَهَّفَ سرًّا أمَّه وهو لاهف[26]
وقال كعب بن زهير:يعضّ بإبهام اليدين تندّمًا *** ولهَّف سرًّا أمَّه وهو نادم[27]
وقال الشمّاخ بن ضرار الشيباني:فلهَّفَ أمَّه لما تولّتْ *** وعضَّ على أناملَ خائباتِ[28]
وقال حميد بن ثور الهلالي عن امرأة قبيحة:فلما تجلّى الليلُ عنها وأبصرتْ
وفي سُدَفِ الليل الشُخُوصُ الأباعدُ
يُقال لها جِدّي هويتِ وبادريْ
غِناءَ الحمام أنْ تميعَ المَزائدُ[29]
"غناء الحمام" أي قبل غناء الحمام. فـ"فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ" أي ضلّ نصيبه.وأمّا فعل "هوى يهوي" فيعني الميل والسقوط معًا ولكنه يعني هنا السقوط كما قالت الخنساء:كأنّ جمانًا هوَى مرسلًا *** دموعَهما أو هما أسرع[30]
وقال الحكم الخضري:فلما ساتقت طارت، وقد تلع الضحى
بشِربٍ قرتْه في زهيدٍ مُحَبَّب
فكرّتْ فأمّتْ حيث جاءت كأنها
دلاةٌ هَوَتْ من كفِّ ساقٍ ومُكرِب[31]
يتبع