12-14-2020, 02:48 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 349,658
|
|
قوله: يشرع العمل بالمصالح المرسلة ما لم تخالف نصا
قَوْلُهُ: (يُشْرَعُ العَمَلُ بِالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ مَا لَمْ تُخَالِفْ نَصًا)
د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
قَوْلُهُ: (يُشْرَعُ العَمَلُ بِالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ مَا لَمْ تُخَالِفْ نَصًا): أي: يجوز العمل بالمصالح المرسلة إذا لم تخالف نصًّا شرعيًّا، فإذا خالَفها نصٌّ شرعي لم يُشرعِ العملُ بها[1].
ومن الأمثلة على المصالح المرسلة:
مثال [1]: تسجيل العقود؛ كعقد البيع، والإجارة، ونحوه.
مثال [2]: قوانين تنظيم المرور.
مثال [3]: وثائق النكاح، والمواليد، والوَفيات.
وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بالمصالح المرسلة في وقائع كثيرة مشتهرة؛ منها[2]:
[1]: نقْطُ المصحفِ، وشكْلُه، وكتابتُه؛ لأجلِ حفظه في الأوَّلَيين من التصحيفِ، وفي الثالثِ من الذَّهاب والنِسيان.
[2]: حرْقُ عثمانَ رضي الله عنه للمصاحفِ وجمْعُ الناسِ على مصحفٍ واحدٍ خوفَ الاختلاف.
[3]: توليةُ أبي بكر لعمرَ رضي الله عنهما؛ لأنه لا مُستنَد له فيها إلا المصلحة المرسلة.
[4]: ترْكُ عمرَ رضي الله عنه الخلافةَ شورى بين ستَّة؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وهو عنهم راضٍ.
[5]: هدْمُ عثمانَ وغيرِه الدورَ المجاوِرةَ للمسجد عند ضِيقِ المسجدِ لأجل مصلحة توسعته.
[6]: الأذانُ الأولُ للجُمُعة على عهدِ عثمانَ رضي الله عنه.
[7]: اشتراءُ عمرَ رضي الله عنه دارَ صفوانَ بنِ أُميَّة واتخاذُها سِجنًا لمعاقبةِ أهلِ الجرائمِ.
فائدة [1]: تنقسم المصالح من حيث اعتبارُ الشرع لها وعدمُ اعتبارِها ثلاثةَ أقسام[3]:
أحدها: مصالح معتَبَرة شرعا: هي التي دل دليل خاص من الشرع كالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس على اعتبارها، وعدم إهدارها، وهذا مجمَعٌ عليه.
مثال [1]: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
مثال [2]: العَدْل، والزواج.
مثال [3]: الوِلاية على المال؛ لأجل الصِّغر.
مثال [4]: منع القاضي من القضاء في حالة الغضب.
القسم الثاني: مصالح مُلْغاة شرعًا: هي التي يراها العبد مصلحة، ولكن دل دليلٌ خاص من الشرع على إهدارها وعدم اعتبارها، وهذا لا خلاف في بُطلانه.
والشرع الكريم لا يَلغِي اعتبارَ مصلحة ويَحكُم بإهدارها إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم في نظر الشرع منها.
مثال [1]: إيجابُ العتقِ أو الإطعامِ على مَن ظاهر من امرأته - أو من جامع في نهار رمضان - وكان غنيًّا دون إيجاب الصوم، هذه المصلحة ألغاها الشرع؛ لأننا لو أوْجبنا العتقَ أو الإطعام لسهُل عليه، فلا ينزجر، والكفارة وُضِعَت للزجر؛ لأن الصوم هو الذي يردَعُه عن العود إلى مثل ذلك، أما الإِعتاق والإطعام فهو أسهلُ شيء على الأغنياء.
مثال [2]: بيع الخمر فيه مصلحة، وهو الربح، وهذه المصلحة ألغاها الشرع وأهدرها.
مثال [3]: تسوية الأنثى بالذكر في الميراث، هذه المصلحة ألغاها الشرع وأهدرها.
مثال [4]: ترك الجهاد لحفظ النفوس، هذه المصلحة ألغاها الشرع وأهدرها.
القسم الثالث: مصالح مسكوت عنها: هي التي لا يدل على اعتبارها، ولا على إبطالها دليلٌ خاص، ولكن تدل عيها مقاصد الشريعة، وتسمَّى بالمصلحة المرسلة.
وإنما قيل لها: مصلحة؛ لأنها تجلب نفعًا، وتدفع ضررًا، وقيل لها: مرسلة؛ لإرسالها؛ أي: إطلاقها عن دليل خاص يُقيِّد ذلك الوصف بالاعتبار، أو بالإهدار.
فائدة [2]: تنقسم المصالح من حيث أهميتُها ثلاثة أقسام[4]:
أحدها: المصلحة الضرورية: هي التي يترتب على تفويتها تفويتُ شيءٍ من الضروريات، هي خمسة [حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال]، وتسمَّى بدَرْء المفاسد.
مثال [1]: إيجاب القصاص من القاتل العامِد؛ لحفظ نفوس الناس.
مثال [2]: إيجاب قطع يد السارق والسارقة؛ لحفظ أموال الناس.
مثال [3]: إيجاب جلد الزاني، والقاذِف؛ لحفظ أعراض الناس، والأنساب.
مثال [4]: إيجاب جلد شارب الخمر؛ لحفظ العقول.
مثال [5]: إيجابُ قتلِ الكافر المضِلِّ، وعقوبةُ المبتدعِ الداعي إلى بدعته؛ لصيانةِ الدِّين.
القسم الثاني: المصلحة الحاجية: هي التي يترتب على تفويتها تفويت حاجة، وليست ضرورة، ويترتب على تحصيلها تحصيل حاجة، وتسمى بجلب المصالح، وهذه لا خلاف فيها.
مثال [1]: تسليط الولي على تزويج الصغيرة، فذلك لا ضرورة فيه، لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفؤ؛ خِيفَةً من الفوات، واستقبالًا للصلاح المنتَظر في المآل.
مثال [2]: مشروعية عقود الإجارة، والمساقاة، والمضاربة؛ لأن صاحب المال قد يحتاج إلى إجارته، أو سقايته والقيام بمصالحه إن كان شجرًا، أو العمل فيه بجزء مشاع منه، فهذه الأشياء لا يلزم من فواتها فواتُ شيءٍ من الضروريات.
مثال [3]: القصر في السفر.
مثال [4]: رخص المرض.
القسم الثالث: المصلحة التحسينية: هي ما ليس ضروريًّا ولا حاجيًّا، وهي الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وتسمى التتميمات، وهذه لا خلاف فيها.
مثال [1]: تحريم النجاسة، لنُفْرة الطِّباع السليمة منها.
مثال [2]: اعتبار الولي في النكاح؛ صيانةً للمرأة عن مباشرة العقد؛ لكونه مشعِرًا بتَوقانِ نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمُروءة، ففُوِّض ذلك إلى الولي؛ حملًا للخَلْق على أحسنِ المناهج.
مثال [3]: استحباب أخذ الزينة.
مثال [4]: خصال الفطرة، وآداب الأكل والشرب.
مثال [5]: وجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء كالآباء والأبناء.
فائدة [3]: المصالح المرسلة ليست تشريعًا جديدًا:
العمل بالمصالح المرسلة ليس تشريعًا جديدًا خاليًا عن دليل أصلًا، بل مَن يعمل بها من العلماء يستند في ذلك إلى أمورٍ[5]:
[1]: عَمْل الصحابة رضي الله عنهم بها من غيرِ أن يُنكِر منهم أحد وهم خير أسوة.
[2]: أنه قد عُلِمَ من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها، ولا سيما إن كانت المصلحةُ متمحِّضَةٌ لم تستلزم مَفسدة، ولم تعارِض مصلحةً راجحةً، ولم تصادمْ نصًّا من الوحي.
[3]: أن بعض النصوص قد يدل لذلك مثل انتهار عائشة رضي الله عنه بريرةَ لتصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإيذاء المسلم بالانتهار من غير ذنبٍ حرامٍ، وقد استباحته عائشةُ رضي الله عنها للمصلحة المرسلة، وهي تخويف بَرِيْرةَ حتى تقولَ الحقَّ، ولم يُنْكرِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها[6].
فائدة [4]: شروط العمل بالمصالح المرسلة:
يُشترط للعمل بالمصالح المرسلة أربعة شروط[7]:
أحدها: ألا تخالِف نصًّا شرعيًّا.
الثاني: ألا تكون في الأحكام التي لا تتغيَّر؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يُتَطرق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالِف ما وُضع عليه.
الثالث: أن تَرْجع إلى مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة.
الرابع: ألا تعارِض مصلحةً أرجحَ منها، أو مفسدةً أرجحَ منها، أو مساويةً لها، وألا تؤدي إلى مفسدة في ثاني حال.
مثال معارضتها لمصلحة أرجح منها: غرس شجر العنب، فإنَّ مَنع وجوده في الدنيا يستلزم مصلحة هي السلامة من عصْر الخمر منه، ولكنْ مصلحةُ السلامة من عصر الخمر من العِنَب بإعدَامه من الأرض معارضة بمصلحة أرجح منها، وهي انتفاع الناس بالعنب والزبيب، فهذه المصلحة الراجحة تُقدم على تلك المصلحة المرجوحة.
ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية: ما إذا طلب المسلمون فِداء أساراهم من الكفار، فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يُعلم به أن ذلك السلاح يُيَسِّر لهم قتلَ عدد الأسارى، أو أكثر من المسلمين، فإن كان يُيَسِّر لهم قتْل قدر الأسارى فالمفسدة مساويةً، وإن كان يُيسِّر لهم قتل أكثر منهم، فالمفسدة راجحة.
ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال: أي: متجدِّدة في المستقبل؛ كما وقع من مؤمني قوم نوح عليه السلام، فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين في حالته الأولى مصلحة، وهي التي قصدوها بتصويرهم؛ لأنهم إذا رأوا صورهم تذكَّروا صلاحهم وعبادتهم نشِطوا في الطاعة، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد، وهي أن ذلك التصوير وسيلةٌ للشرك بالله؛ لأنهم لما مات أهل العلم زَيَّن لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبَدوها، وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة[8].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (11 /342-343).
[2] انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي، صـ (11-13).
[3] انظر: روضة الناظر (2 /437-438)، وشرح مختصر الروضة (3 /205-206)، وشرح الكوكب المنير (4 /432-433)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (201-202)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي، صـ (8-10).
[4] انظر: روضة الناظر (2 /438-452)، وشرح مختصر الروضة (3 /206-209)، وشرح الكوكب المنير (4 /159-170)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (202)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي، صـ (8-10).
[5] انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي، صـ (21).
[6] صحيح: رواه مسلم (1504)، عن عائشة رضي الله عنه.
[7] انظر: مجموع الفتاوى (11 /342-343)، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1 /330-331).
[8] انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي، صـ (22-23).
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|