حق طلب الزوجة الفرقة بسبب إعسار الزوج بالمسكن
د. هشام السيد عطية
هناك أناس يرون أن كتب التراث لا تصلح لمثل زماننا، ويُكثرون من دعوى ترك تراث أمَّتنا تحت مسمَّى التجديد، وتحت فِرية أن واضعي هذا التراث ذكورٌ يَظلمون المرأة ويسلبونها حقها، بينما الذي يعيش مع كتب التراث - خاصة الفقهية منها - يجد أنها ما تركَت مسألة - خاصة المتعلِّقة بالمرأة - إلا وعالجتها وبيَّنتْها، ومن مسائل التراث التي استوقفَتْني، ووجدتُ فيها عظَمَة هذا التراث: مسألة حق طلب الزوجة الفُرقةَ بسبب إعسار الزوج بالمسكَن.
وهي في الحقيقة مسألة خلافية، شأنها شأن سائر مسائل الفقه، ومن الأمانة العلمية ذكر الأقوال فيها وبحثها قبل بيان الراجح في نظرنا، فلا نفعل كما يفعل مَن يُريد هدم التراث فيذكر جانبًا ويَترُك آخر، قاصدًا الإساءة للمجموع، فأقول:
تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين الفقهاء في أن الإسكان من حقوق الزوجة على زوجها[1].
واختلفوا في ثبوت خيار الفسخ للزوجة إذا أعسَرَ زوجُها بالسكنى، وكان خلافهم على قولين:
القول الأول:لا يثبت لها خيار الفسخفي الإعسار بالسكنى، وإلى هذا ذهب الحنفية، والشافعية في وجه، والحنابلة في وجه[2].
القول الثاني:يثبت لها خيار الفسخفي الإعسار بالسكنى، وهذا مقتضى إطلاقالمالكية، والشافعية في وجه، والحنابلة في الصحيح[3].
الأدلة والمناقشة
أدلة أصحاب القول الأول:
استدلَّ أصحاب القول الأول على عدم ثبوت خيار الفسخ للزوجة إذا أعسر زوجها بالمسكن - بالكتاب، والمعقول:
أولًا: الكتاب:
وكان استدلالهم به من آيات، منها:
1 - قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280].
وجه الدلالة: أن الآية عامة في كل مُعسِر، فيدخل فيها الإعسار بالمسكن، والأمر بالإنظار يُنافي الفرقة بسبب الإعسار بالمسكن[4].
نوقش: لا يصحُّ الاستدلال بهذه الآية؛ لأننا لم نوجب عليه السكنى مع عسرته، وإنما أمرْناه بما يقدر عليه، وهو إطلاقها لمن يُنفِق عليها[5].
أجيب عن هذه المناقشة من وجهين:
الوجه الأول:لا يجوز أن يُكَلَّف الزوج بالفرقة بسبب عجزه عن أمر لا يَجب عليه.
الوجه الثاني:أنه يلزم من قولكم هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن لزوجات أصحابه رضي الله تعالى عنهم - وكان كثير منهم فقراءَ لا يَملكون شيئًا - حق الفرقة بسبب الفقر، وأن لهنَّ المطالبة بذلك، وهذا لم يحدث، فبطل ما أدى إليه من جواز الفرقة بسبب عسر الزوج[6].
2 - قوله تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
وجه الدلالة: أن الله تعالى قد ندب إلى نكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفُرقة وهو مندوب إلى نكاح من يتصف به[7].
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول:أن الأمر في الآية توجه إلى الفقراء؛ مَن يقدر منهم على نفقة الفقير، ولم يتوجه إلى مَن عجز عنها، بل جاءت السنَّة بنهيه عنها، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم البَاءة، فليتزوج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))[8].
الوجه الثاني:ليست هذه الآية حكمًا فيمَن عجز عن النفقة؛ وإنما هي وعْد بالإغناء لمن تزوَّج فقيرًا، أما من تزوَّج موسرًا وأعسر، فإنه يفرَّق بينه وبين زوجته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [النساء: 130]، ورِزق الله تعالى مأمول في كل حال[9].
3 - قوله تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7].
وجه الدلالة: الآية دليل على أن مَن لم يَقدر على النفقة - ومنها أجرة المسكن - لا يُكَلَّف بها، فلا يجب عليه الإنفاق في هذه الحالة[10].
ثانيًا: المعقول:وكان استدلالهم به من وجهين:
الوجه الأول:أن النفس تقوم بدون المسكَن؛ فإن الزوجة لا تعدم موضعًا تَسكُن فيه كمسجد أو موضع مباح[11].
نوقش:
إن إحالة الزوجة في السكنى عند إعسار الزوج بها على المساجد، والأماكن التي يباح لها المكث فيها - كبيت أبيها مثلًا - تكون كإحالتها - أي: الزوجةِ - في النفقة عند إعسار الزوج بها على سؤال الناس، وهذا لا يصحُّ، فكذلك هنا[12].
الوجه الثاني:أنَّ في التفريق إبطال الملْك على الزوج، وفي الأمر بالاستدانة - عند إعسار الزوج - تأخير لحقِّها، وهو أهون من الإبطال، فكان أولى، بالتالي لا يثبت للزوجة خيار الفسخ إذا أعسر زوجها بالمسكن[13].
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدلَّ أصحاب القول الثاني على ثبوت خيار الفسخ للزوجة إذا أعسر زوجها بالمسكن - بالكتاب، والقياس، والمعقول:
أولًا: الكتاب:وكان استدلالهم به من آيات، منها:
1 - قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229].
وجه الدلالة: أن الإمساك مع ترك المسكن ليس إمساكًا بالمعروف، فيتعين حينئذٍ التسريح بإحسان[14].
نوقش: بأن الإمساك بالمعروف لم يَفُتْ بالإعسار بالمسكن؛ لأنَّ كل واحد مخاطب بما عنده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 236]، وليس له قدرة إلا على الالتزام في الذمة، فيجب المصير إليه، فلا يثبت لها حق الفسخ[15].
2 - قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231].
وجه الدلالة: أن زوجة المعسر متضرِّرة، فلم يكن له إمساكها[16].
نوقش: بأن هذه الآية نزلت في المطلَّقة، فقد أمر الله بمراجعتها بالمعروف، وهو أن يراجعها رغبة فيها ويستديم نكاحها، ويُمْنَع من مراجعتها إذا قصد إضرارها؛ بأن يراجعها ثم يُطلِّقها قرب انتهاء العدة؛ لكي تَطُول عليها العدة، فالآية ليست محلًّا للنزاع، فلا يصحُّ الاستدلال بها هنا[17].
ثانيًا: القياس:وتقريره:
القياس على فسخ النكاح بسبب العجز عن الوطْء بالعنة؛ بجامع أن كلًّا منهما - أي: العجز عن المسكن، والعجز عن الوطء - حقٌّ مقصود لكلِّ نكاح، بل الفسخ بسبب العجز عن المسكن أولى؛ لأن البدن لا بدَّ له مِن مسكن يَقيه من الحر والبرد، فلا يبقى البدن بدونه، بخلاف الوطء؛ فإن البدن يبقى بدونه[18].
نوقش: بأن هذا قياس باطل؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:أن التفريق بسبب العنة لا يَثبُت حتى يقع اليأس من الوطء، بخلاف أجرة المسكن لا يقع اليأس بها ابتداءً؛ لأنَّ رِزقَ الله غير منقطع[19].
الوجه الثاني:أن الزوج لو منَعَ زوجته من الوطء بيمين، جاز أن يُستحقَّ التفريق في الإيلاء، كذلك إذا تعذَّر الوطء بغير يمين، بخلاف النفقة - ومنها أجرة المسكن - فإنه لو منعها إياها بيمين لم تَجِب الفُرقة، فكذلك إذا تعذَّرت بغير يمين[20].
الوجه الثالث:أن شهوة الوطء رُكِّبَت في الرجال والنساء، والزوجة لا تتوصل إليها إلا مِن زوجها، فإذا تعذَّر الوطْء ثبَت الخيار؛ لفوات مقصود النكاح، وهو التوالُد، بخلاف النفقة - ومنها المسكن - فيجوز أن يحصل لها مِن غير زوجها، فلم يكن تعذُّرها من الزوج مُثْبتًا للخيار[21].
ثالثًا: المعقول:وكان استدلالهم به من وجهين:
الوجه الأول: أن الإنسان لا بدَّ له من مسكن يقيه من الحر والبرد، وبالتالي يثبت لها الفسخ عند إعسار الزوج بالمسكن[22].
الوجه الثاني: أن في عدم المسكن ضررًا بالزوجة، والضرر يُزال بثبوت حقِّ الفسْخ لها[23].
القول المختار:
بعد عرض قولَي الفقهاء وأدلتهما ومناقشتها، فالذي يترجح اختياره - والله أعلم -: ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، القائلون بأن للزوجة حق طلب الفسخ بسبب إعسار الزوج عن المسكن؛ وذلك لقوة أدلتهم، ولأنَّ فقدان المسكن يؤدي إلى فوات مقصود النكاح، وهو التوالد؛ إذ كيف يجتمع الزوج مع زوجته لتحصيل الولد، فيكون في فقدان المسكن لحوق ضرر بالزوجة، فيُزال عنها بثبوت حقها في طلب الفسخ.
هذا، وإن كان الراجح دليلًا هو ثبوت حق الزوجة في طلب فسخ النكاح بسبب الإعسار بالسكن، إلا أن الأولى إذا كانت الزوجة تَمتلِك مسكنًا، وهذا مُمكن بميراث أو عمل - خاصةً في عصرنا - أن تَصبر على إعسار زوجها بالمسكن، وتُسكنه معها؛ تحقيقًا لمبدأ المعاشرة بالمعروف، والله أعلم بالصواب.
[1] بداية المجتهد (2/ 41).
[2] شرح فتح القدير (4/ 389)، البحر الرائق (4/ 200)، نهاية المطلب (15/ 463)، التهذيب (6/ 356)، العزيز (10/ 53)، المغني (8/ 163)، الشرح الكبير؛ لابن قدامة (9/ 267)، الفروع (5/ 448).
[3] شرح الخرشي على مختصر خليل (4/ 196)، شرح ميارة الفاسي (1/ 422)، العزيز (10/ 53)، روضة الطالبين (9/ 75)، النجم الوهاج (8/ 271)، المغني (8/ 163)، الفروع (5/ 448)، الروض المربع (3/ 233).
[4] أحكام القرآن؛ للجصاص (2/ 194)، التفسير الكبير؛ للرازي (7/ 90)، تبيين الحقائق (3/ 54)، التجريد (10/ 5387).
[5] الفروق؛ للقرافي (3/ 269).
[6] يُنظر الوجهان في التجريد (10/ 5388).
[7] الجامع لأحكام القرآن (12/ 242).
[8] ينظر: الحاوي الكبير (11/ 456)، هذا والحديث المذكور متَّفق عليه؛ أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع؛ منها: كتاب: النكاح، باب: قَول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم الباءة، فليتزوج))، (5/ 1950)، برقم: (4778)، ومسلم في صحيحه كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مُؤَنَهُ، واشتغال من عجز عن المُؤَنِ بالصوم، (2/ 1018)، برقم: (1400).
[9] الجامع لأحكام القرآن (12/ 242).
[10] تبيين الحقائق (3/ 54)، التجريد (10/ 5388).
[11] نهاية المطلب (15/ 463)، المهذب (2/ 163)، العزيز (10/ 53)، مغني المحتاج (3/ 444)، النجم الوهاج (8/ 272)، المغني (8/ 163)، الشرح الكبير؛ لابن قدامة (9/ 267).
[12] العزيز (10/ 53)، مغني المحتاج (3/ 444)، النجم الوهاج (8/ 272).
[13] تبيين الحقائق (3/ 54).
[14] الجامع لأحكام القرآن (3/ 155)، الفروق للقرافي (3/ 271)، الحاوي (11/ 455)، المغني (8/ 163)، كشاف القناع (5/ 476).
[15] تبيين الحقائق (3/ 55).
[16] الحاوي الكبير (11/ 455).
[17] التجريد (10/ 5389).
[18] الحاوي الكبير (11/ 455)، المغني (8/ 163)، كشاف القناع (5/ 476).
[19] التجريد (10/ 5394).
[20] المرجع السابق.
[21] تبيين الحقائق (3/ 55)، التجريد (10/ 5394).
[22] العزيز (10/ 53)، مغني المحتاج (3/ 444)، النجم الوهاج (8/ 271)، المغني (8/ 163)، الشرح الكبير؛ لابن قدامة (9/ 267).
[23] نهاية المطلب (15/ 463)، المهذب (2/ 163).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك