التعصب
د. بليل عبدالكريم
حينما يبزغُ نجمُ أيِّ أمَّة، وتأخُذ في صُعود مَقامات القوَّة والتحضُّر، تدرج الأمَّة مدارج النَّشأة والتكوين، فتستنفد طاقات أفرادها فُرادَى وجماعات، فنجدها "وقد استفزَّت أحسن ما في أفرادها من الإمكانات والمواهب والقُدرات، في كافَّة المجالات السلوكيَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة، كما نجدُها كذلك وقد أماتت ما بين أفرادها من نزعات هدَّامة، تخرج بها عن طريقها المرسوم، فنجدها تشقُّ طريقها بقوَّةٍ، وبسرعة حتى تظهر على مسرح الحياة قويَّة فتيَّة، لا مجالَ للضعف والتفرُّق بين أبنائها، ثم لا تلبث أنْ تصل إلى طور الاستقرار والتوسُّع، الذي غالبًا ما يصحَبُه الغنى بعدَ الفقر، والترف بعدَ الخشُونة، والحضارة بعدَ البَداوة، فتُستَبدل شيئًا فشيئًا بمشاعر القوَّة والاندِفاع؛ مشاعر الترف والتَّنعُّم، ويبدأ أفرادها في الانشِغال بما بين أنفسهم، بدلاً من الانشِغال بِمَن هم خارج كيانهم من أعداء مُتربِّصين، فقد أمنت حُدودهم وتوسَّعت رُقعتهم، فإذا حدَث ذلك وابتدع صاحب هوى بدعةً، اتَّبعه عليها فريقٌ، فيتعادون ويتخاصَمون، ثم يتَنافَرون ويتحاربون"[1].
وقيام الأمَّة الإسلاميَّة لم يخشَ عليه الفقر، بل أنْ تُبسَط الدنيا لأفرادها كما بُسطت لمن قبلَهم، فتُهلكهم كما أهلكَتْ مَن قبلهم، وسِرُّ الله في العلم قيامُ الحضارة الحاضنة له، والحضارة مَبلَغُ العلم والمال، والحضر من تجمُّع البشر، وتطوُّر عمران الحجر.
وأُسُّ قيام الجدل التَّرف المادي، ثم التَّرف الفكري، فحين تتشعَّب العلوم، وتتشعَّب الفنون، وتبحث كل شاردة وواردة، تميلُ النُّفوس للطرائف واللطائف، ثم للغَرائب وكل مخالف، وكلَّما بعُد الزمن عن عصر النبوَّة خفَت نور المشكاة الربانيَّة، وقَلَّ مَن يُحيي السنن ليُضِيء الدُّروب إلا ونشب الخلاف، فما نسي قومٌ حظًّا ممَّا ذُكِّروا به من وحي ربهم إلا قامت بينهم العَداوة والبغضاء، فيتَّسع الخرق على الراقع، ويَكثُر الشقاق، ويتشعَّب الخلاف، ويتداعَى الناس على الأدعياء، ولو قام فيهم مَن يَزعُم النبوَّة لزحف معه رهطٌ منهم.
وتوسع المعايش، وتنوع الأعراف والأعراق، في مدار الحضارة الممتدَّة الأطراف، يكثر مَشاغلها، ومَشاكلها، وتتعدَّد نوازلها، وتتكاثَرُ قضايا الناس ومسائلهم، واختلاف الزمان والمكان، وتبدل الأحوال من فقر وشظف إلى غنى وترف، ومن مُشاكَلة طائفة من الناس، إلى قضايا أمم، يورد التنوُّع في الحلول، والاختلاف في الفتوى، وهذا خاضعٌ للمفتي والمستفتي، وزمان ومكان الفتوى؛ فتكثُر الأقوال وتتنوَّع الآراء، وكلُّها ناشبٌ عن أمورٍ اقتضَتْها طبيعةُ اجتماع الناس، وطبيعةُ الإنسان المختلفة التركيب بين الواحد والآخَر.
والاختلاف يحلقُ من حوله مَن يَنصُرُه، ويعصبُ رأسه، ويعضد رأيه، ويُناصر مَن معه، ويُكاسر مَن عليه؛ ولذا النازع غريزة الأنا بالفرد، وغزيرة نحن للجماعة، فالتعصُّب باستِبداد الرأي يفرزُ العصبيَّة بالغلوِّ في تقليد صاحب الرأي.
والتعصُّب له دواعٍ نفسيَّة واجتماعيَّة؛ أمَّا النفسيَّة فهي العصبيَّة السيكولوجيَّة للفرد نفسه، ثم التقليد وهو تعصُّب الجماعة لرأي فردٍ دُون غيره، أمَّا الاجتماعيَّة فهي عقليَّة القطيع ونفسيَّة الرقيق، بِحُبِّ الانقياد بلا قيدٍ، وما مال نعجة لوجه إلا مال الكلُّ معها، وهنا يكون دِين الأكابر وقول الملوك، يسوقُ رأس الطائفة قومه، حيثما ولى ولوا، فتنشأ الطائفيَّة بعقليَّة الأقليَّة المتعاضدة ضد الخطَر الخارجي، المتعصِّب على رأي أو رجل كمركزٍ محوري وجودي لها، إن سقط هدم الهيكل العام للطائفة وتلاشت.
و"التعصُّب ظاهرةٌ اجتماعيَّة شديدة الخطورة، وبخاصَّة عندما يتَّخذ أشكالاً عدوانيَّة عنيفة سافرة.
وهو قديمٌ في التاريخ البشري، ومستمرٌّ في أيَّامنا، في أثناء العلاقات بين الأمم والقوميَّات، والعلاقات بين الأديان والطوائف الدينيَّة، والعلاقات بين المذاهب والتنظيمات السياسيَّة، والعلاقات بين الجماعات الصُّغرى والمحليَّة"[2].
وللتعصُّب صُوَرٌ ودَواعٍ، فهنالك التعصُّب العِرقي، والتعصُّب الطائفي الدِّيني أو السياسي، والتعصُّب الفكري أو العقدي:
• والتعصُّب العرقي نشَأ عنه الدول القوميَّة، والطائفي الفرق الدينيَّة والتكتُّلات الحزبيَّة السياسيَّة، والتعصُّب الفكري المذاهب والمدارس.
• والتعصُّب العرقي يُعرَف بالعصبيَّة والعنصريَّة والقوميَّة، والتعصُّب الحزبي الديني يُعرف بالطائفيَّة، والفكري يُعرف بالتعصب والغلوِّ والتطرُّف.
العصبيَّة والتعصُّب:
كان عرب الجاهليَّة على قبيلَيْن عظيمَيْن؛ قحطاني وعدناني، والعدناني على فِرْقين؛ ربعي ومُضَري، كلٌّ حربٌ على الآخَر لا يُسالمه، وقتالٌ عليه لا يُهادنه، وعراكًا معه لا يُساكنه، حتى إذا طلع فجرُ الإسلام، سكنت نعرات الجاهليَّة، وتركها المسلمون لنتَنِها، واستبدلتْ رابطة القبيلة بأسمى منها، ألا وهي أُخوَّة الإسلام، ومِعيار العُلا هو التُّقى، غير أنَّ قومًا خمدَتْ فيهم نعرات الجاهليَّة حينًا من الدهر، وما إنْ ولى عهد النبوَّة حتى طلعت بقَرْنِها مع مُسَيلمة الكذاب، كذَّاب ربيعة، أيَّام الرِّدَّة، ثم طفأت نارها، غير أنَّه كثُر رمادُها، فاشتعلت بعدَ الخِلافة الرَّاشِدة، وكان للفِرَقِ نعراتٌ قبليَّة عصبيَّة، صاغَتْ أفكارًا بلبوس دِيني، ومن هؤلاء الخوارج؛ فجلُّهم من بني ربيعة، وعلي - رضي الله عنه - والأمويون من مضر، والرافضة الباطنيَّة معظمهم فُرس، وطوائف أُخَر مثلهم؛ كالبابكيَّة والمخرميَّة وغيرها.
و"التعصُّب العِرقي كان وما زال ذا أثَر كبيرٍ في حياة الإنسان، وقد يكونُ تأثيرُه في أحيانٍ كثيرةٍ أخطر من التعصُّب الفكري، أو الحِزبي، أو النِّقابي، أو الرياضي؛ لأنَّ كثيرًا من الناس لا يهتمُّون بالمبادئ الفكريَّة، ولا ينتَمُون إلى أحزابٍ أو نقابات أو أندية رياضيَّة، في حين أنَّ لكل البشر دوائر عرقيَّة من أسر وعائلات وقبائل وشُعوب وقوميَّات وأجناس، وكثيرٌ من مفاهيم هذه الدوائر فيها تعصُّب عرقي.
ويُوجد التعصُّب العِرقي في دُوَلٍ متقدمة تكنولوجيًّا، وفي دول نامية، وفي مجتمعات إسلاميَّة، وفي مجتمعات علمانيَّة، ويتمُّ تجسيده في مَفاهيم، وشعارات، وأقوال، وأعمال، وقوانين، وأعراف، وأهداف مُعلنة أو سريَّة.
وهو أحدُ مَنابع الغُرور، والظُّلم، والحسد، والكراهية... إلخ.
وهو فوق كلِّ هذا أحد معوقات التنمية على المستوى المحلِّي والقومي والعالمي، فأغلب خطط التنمية تعيشُ في دوائر عرقيَّة وطنيَّة، ممَّا يمنعُ تحقيق القفزات القوميَّة والكبيرة، سواء كانت اقتصاديَّة، أو سياسيَّة، أو تكنولوجيَّة، أو إداريَّة، أو ثقافيَّة.
ويتنكَّر التعصُّب العرقي أحيانًا في ثوب المصلحة الوطنيَّة، ويتكلَّم أحيانًا أخرى باسم مصلحة القبيلة أو العائلة أو الأسرة.
ولعلَّ أخطر ما في التعصب العرقي أنَّه عدو مجهول؛ أي: لم يُدرِك الكثيرون إلى الآن خُطورته وآثاره المدمِّرة، فالكثيرون يعتَبِرُونه جُزءًا من الانتماء الوطَني، أو القَبَلي، أو القومي؛ ولهذا يتمسَّكون به، بل يُدافِعون عنه، وهم لا يَشعُرون أنهم يُدافِعون عن الباطل، والتخلُّف، والجهل!"[3].
مفهوم التعصُّب والعصبيَّة:
قال ابن فارس: "(عصب): العين والصاد والباء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على ربط شيءٍ بشيء، مستطيلاً أو مستديرًا.
ثم يُفرِّع ذلك فُروعًا، وكلُّه راجعٌ إلى قياسٍ واحد، من ذلك العصب...
ومن الباب: العُصبة، قال الخليل: هم من الرجال عشرة، ولا يُقال لما دون ذلك عُصبة.
وإنما سميت عُصبة لأنها قد عصبت؛ أي: كأنها ربط بعضها ببعض.
والعُصبة والعِصابة من الناس، والطير، والخيل...
قال أبو زيد: كلُّ شيءٍ بشيءٍ، فقد عصب به، يُقال: عصب القوم بفلان"[4].
والعُصبة: جماعةٌ مُتعصِّبة متعاضدة؛ قال تعالى: ﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ [القصص: 76]، ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ [يوسف: 14]؛ أي: مجتمعة الكلام مُتَعاضِدة.
واعصوصب القومُ: صاروا عصبًا، وعصبوا به أمرًا[5].
ويحمل المدلول المعجمي لمفردة العصب مَفاهيم الاكتناز، والشدَّة، والإجماع على أمر، والإحاطة بالرأس، والطواف الدائري، واللزوم.
فالعصبيَّة من الربَّط بشدَّة على موضوعٍ رئيسٍ عينًا أو صفةً، مع لزومه دُون غيره.
و"العصبيَّة بداية نعرة فئويَّة، دمويَّة، رحميَّة ملازمة لنموِّ النوازع الأوليَّة، يتربَّى عليها الطفل، وتبدأ مع الأمِّ في الأسرة"[6].
أمَّا التعصُّب الفكري هو تغَلُّب فكرةٍ ما على عقل إنسان، يجعلُها تسيطِرُ على تفكيرِه، فتدرأ مُناقَضاتها، وتمنعُ مُضادَّاتها، والبعض يصلُ به الحال إلى أنْ تسيطرَ عليه، وتجتاز الإدراك إلى الأعصاب، فيَثُورُ كلَّما عرض غيرها، ويغلق عليه كلَّما رُوجِع فيها، فلا يقبل حتى النظَر فيما دُونها، لا يُقلب النظَر في دليلها، ولا يقبل نظرًا في دليلٍ لغيرها، ولا يتمعَّن في رأي مخالف، وتأخُذه روح عدائيَّة إلى درجة الانفجار على خَصمه، ومنشأ هذا التعصُّب، ودافعه تهيج في الأعصاب.
و"التعصُّب: قيامٌ بالعصبيَّة، والعصبيَّة من المصادر النَّسَبيَّة، نسبةً إلى العصبَّة، وهي قوم الرجل الذين يُعزِّزون قوَّته، ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصُّب وصفٌ للنفس الإنسانيَّة تصدر عنه نهضة لحماية مَن يتَّصل بها، والذود عن حقِّه، ووجوه الاتِّصال تابعةٌ لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها"[7].
وهذا المفهوم هو الشائع في سنن العرب بأرض بالجزيرة "وقد تركت العصبيَّة أثرًا مهمًّا في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة عند العرب قبل الإسلام.
وقد كانت إذ ذاك ضَرورة من الضَّرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهليَّة؛ لأنها الحائلُ الذي يَحُولُ بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنعُ الصَّعاليك والخُلَعاء والمستهتِرين بالسنن من التطاوُل على حقوق الناس؛ إذ لا حكومة قويَّة رادعة، ولا هيئة حاكمة في استِطاعتها الهيمنة على البوادي، وعلى الأعراب المتنقِّلين.
بل هنالك قبائل مُتَناحِرة، وإماراتٌ مُتنافِرة، إذا ارتكب إنسانٌ جريمةً في أرضها، وفرَّ إلى أرض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك، ولكنَّه كان يخشى من شيءٍ واحد، لم يكن لأحدٍ فيه عليه سلطان، وهو "العصبية"، وسنَّة "الأخْذ بالثأر"، وهي العصبيَّة في ثوبها العملي.
كان يخشى من سُلطان الأخْذ بالثأر، حيث يتعقَّبه أهلُ الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة، ولو بعدَ مُضِيِّ عشراتٍ من السنين، حتى يُقتَل أو يُقتَل أقرب الناس إليه.
وبذلك صارت العصبيَّة ضرورةً من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكَّان جزيرة العرب؛ لحمايتهم، وصِيانتهم من عبَث العابثين"[8].
وفي الأكثر يَنقاد المتعصِّب إلى التطرُّف في رأيه ومعتقده على جانبين؛ إمَّا الإفراط، وإمَّا التفريط، والحسنة بين سيِّئتين، فلا يقبل أهل الترف غير التعصُّب لموروثاتهم، ولا أهل الغلوِّ الرجوع عن حميَّتهم؛ فالأوَّل تطرُّف سالب، والثاني تطرُّف موجب.
"وحَدُّ التعصُّب عند أهل الحِكمة العصريَّة: غلوُّ المرء في اعتقاد الصحَّة بما يَراه، وإغراقه في استِنكار ما يكون ضد ذلك الرأي حتى يحمله الإغراق والغلوُّ على اقتياد الناس لرأيه بقوَّةٍ، ومنعهم من إظهار ما يعتقدون، ذهابًا مع الهوى في ادِّعاء الكمال لنفسه، وإثبات النَّقص لِمُخالِفيه من سائر الخلق"[9].
والتطرُّف هو: "التنطُّع في أداء العبادات الشرعيَّة، أو مُصادَرة اجتهادات الآخَرين في المسائل الاجتهاديَّة، أو تجاوُز الحدود في التعامُل مع المخالف، والتنطُّع في أداء العبادات هو التعمُّق، أو مُجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، ويدخُل فيه الزيادة على المشروع، والتِزام ما لم يلزم به الشارع، والورع الفاسد، ونحوه"[10].
ويُقابل التعصُّب الاعتصام، ودافعُه قوَّة الإيمان بالفكرة لدرجة انعِقاد القلب عليها، فلا يُزاحمها غيرها، فيبني إيمانه على يقين، ويُدافع عن يقين، مع فسحةٍ في الذهن للنظَر للقول الآخَر.
والاعتِصام غالبُه مبنيٌّ على أدلَّةٍ واضحة لصاحبها مبلغ اليقين، لا يوهمه كثرةُ المخالفين ولا قلَّة الموافقين.
وقد يكونُ مَن ابتُلِي بالعصبيَّة النفسيَّة معتصمًا على حقٍّ ويقين، كما للمُعتصِم فسحةُ فكرٍ ونظر، تجعَلُه يرقب غير ما يعتقد.
وفارق التعصُّب والاعتصام رفيع، وإنْ كان الأوَّل غالبًا ما يكون عن غير دليلٍ بل تقليدًا، فتجد المتعصِّب يميلُ لقول قومه أو طائفة أو مذهبه، حتى دون أنْ ينظُر للدليل، يكفيه أنَّ القول من جماعته العرقيَّة أو الدينيَّة أو السياسيَّة، ولا يألوا في رَدِّ غيرها، فقائد عقل المتعصِّب هوى نفسه، ومِعيار النظر منظار جماعته، فيُصغِّر العظيم ويُعظِّم الصغير؛ لاختلاف وسائط الرؤية، وقد يُدافِعُ عمَّا هو يعلم أنَّه باطلٌ؛ لحاجةٍ في نفسه، وأمرٍ وافَق هوى به، فيكون مِعيار صدق القضيَّة، وميزان أحقيَّة النظريَّة اللذَّة الذاتيَّة الأنانيَّة، والراحة النفسيَّة الآنية، ولو كان بذاك فساد السَّموات والأرضين.
وكثيرٌ من أهل التعصُّب هو ممَّن يُسارِعُ برمي غيره بتهمة العصبيَّة، مثلما يُرى بجلاءٍ في العلمانيين والمتغرِّبين، فأوَّل سِهامهم لِمَن يُخالف إفراطهم في تبجيل الغرب وما له، القذف بشُبهة التعصُّب، وهم جماعة "هم"، لسان ببغائي للمستشرقين والمنصِّرين وفلاسفة الغرب، لم يعلمْ منهم جديد فكر، ولا عبقريَّة صِياغة، ولا رونق نقد، بل تراهُم بين مذاهب الغرب مُتمرِّغين، بعقليَّة زِئبقيَّة، كل يوم هي في شأن، ومَقالهم وعقيدتهم أنَّ مَن قال بالدين فهو بين التعصُّب والتطرُّف لا مفرَّ، ومَن طعن في الدِّين فهو منهم، ولا يلت أحدٌ من عمله، ولا يتر من عقلِه.
والمتبصِّر في حالهم قديمًا وحديثًا وعصرًا، يرى منهم تعصُّبًا وحنقًا من أهل الدِّين والحق، فهو الأكثر إكراهًا للناس على مُعتَقدهم، والأكثر بطشًا وظُلمًا لغيرهم، والأكثر عداءً وتشهيرًا بِمُخالِفيهم، وسِيَرهم في الدولة الإسلاميَّة جهارًا نهارًا باديةٌ، فهم أكرهوا مجتمعات إسلاميَّة على ركب يخوت الإفرنج عنوةً، ونزع حجاب المرأة قسرًا، وحجروا على الدُّعاة، والنَّشاطات الإسلاميَّة، وحاصروا الكتب والمؤلَّفات، فأيُّ الفريقين أحق بالأمن؟ أيهم أحقُّ بالذَّمِّ؟
فمُصطلح التعصُّب تجدُ هذه الطائفة "تَلُوكُه الألسن، وترمي به الأفواه في المحافل والمجامع، حتى صار تكأة للمُتَكلِّمين، يلجأ إليه العَيِيُّ في تهتهته، والذملقاني في نفيقهته.
أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير، فقلَّما تكونُ عبارة إلا وهو فاتحتها، أو حشوها، أو خاتمتها.
يعدون مسماه علَّة لكلِّ بلاء، ومنبعًا لكلِّ عناء.
ويزعُمونه حجابًا كثيفًا، وسدًّا منيعًا بين المتَّصِفين به، وبين الفوز والنجاح، ويجعَلُونه عنوانًا على النَّقص وعلمًا لرَذائل.
والمتسربِلون بسَرابيل الإفرنج، الذاهبون في تَقلِيدهم مَذاهب الخبط والخلط، لا يميزون بين حَقٍّ وباطل، هم أحرصُ الناس على التشدُّق بهذا البدع الجديد.
فتراهُم في بيان مَفاسد التعصُّب يهزُّون الرُّؤوس، ويعبَثُون باللِّحى، ويبرمون السبال.
وإذا رموا به شخصًا للحَطِّ من شأنه؛ أردَفُوه للتوضيح بلفظٍ إفرنجي "فناتيك"، فإنْ عهدوا بشخصٍ نوعًا من المخالفة لمشربهم عدوه متعصبًا، وهمزوا به، وغمزوا، ولمزوا، وإذا رأوه عبسوا، وبسروا، وشمخوا بأنوفهم كبرًا، وولوه دبرًا، ونادوا عليه بالويل والثُّبور.
ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ، وماذا اتَّصل بعُقولهم من معناه، حتى خالوه مبدأ لكلِّ شناعة، ومصدرًا لكلِّ نقيصة؟
وهل لهم وقوفٌ على شيءٍ من حقيقته؟"[11].
وكثيرًا ما يغلب الطبع النفسي على الطبع الفكري، فصاحب الأنا نادرًا ما يرجعُ أو يُراجع، ولا يتقبَّل التصويب من البعيد أو القريب، وهذا يخلقُ شحنةً نفسيَّة تدفع الطاقة الفكريَّة كلها لنُصرة مُعتَقده ورأيه، ويغلق فكره عن تبصُّر أدلَّة الخصم، حتى لو كانت جليَّةً قويَّةً، وإن بهت فلت، وتلمَّس مخرج المِراء.
ومثال ذاك الخوارج؛ إذ "إنهم يشبهون في استِحواذ الألفاظ البرَّاقة على نُفوسهم، واستيلائه على مَداركهم اليعقوبيِّين، الذين ارتكبوا أقسى الفظائع في الثورة الفرنسيَّة، فقد استولت على هؤلاء ألفاظ الحريَّة والمساواة والإخاء، وباسمها قتَلُوا الناس، وأهرقوا الدِّماء، وأولئك استولت عليهم ألفاظ "لا حكم إلا لله" و"البراءة"، وباسمها أباحوا دِماءَ المسلمين، وخضبوا البلاد بها، وشنوا في كلِّ مكان غارات، وكانت الحماسة وقوَّة العاطفة ميزة اليعقوبيين والخوارج..."[12].
فرفعهم لشعار "لا حُكم إلا لله" قديمًا أيَّام الإمام علي وحاليًّا، كلمةُ حقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ، وقَرار أنفسهم، ما تبديه أعمالهم أنَّ دعواهم "لا حُكم إلا لنا"، إذا أعطوا من الدُّنيا رضوا، وإن لم يُدرِكهم نصيبٌ إذا هم يسخَطون، وإنْ وجد فيهم ذو مال فإنما يبغي الرياسة.
يقول المفكِّر جوستاف لوبون في وصْف نفسيَّة اليعقوبيين العصبيَّة وأمثالها: وتُوجد النفسيَّة اليعقوبيَّة خاصَّة عند ذوي الأخلاق المتحمِّسة الضَّيِّقة، وتتضمَّن هذه النفسيَّة فكرًا قاصرًا عنيدًا، وكل شيء خارجٌ عن الإيمان بالفكرة غير مُؤثِّر فيها، وما تغلب على الروح اليعقوبيَّة من العناصر العاطفيَّة؛ تجعلُ اليعقوبي كثيرَ السَّذاجة، ولَمَّا كان بهذا لا يُدرك من الأمور إلا علائقها الظاهريَّة، فإنَّه يظنُّ أنَّ ما يتولَّد في رُوحه من الصور الوهميَّة حَقائق، ويفوته ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وما ينشأ عن ذلك من النتائج لا يحول بصره عن خياله أبدًا؛ إذًا فاليعقوبي لا يقترفُ الآثام لتقدُّم منطقه العقلي؛ إذ لا يملك منه إلا قليلاً، وإنما يسيرُ مُستَيْقِنًا، وعقله الضعيف يخدم اندِفاعاته؛ حيث يتردَّد ذو المدارك السامية فيقف.."[13].
وكثيرٌ من هذه الصفات النفسيَّة تلمسها عند الخوارج عبر تاريخهم، من أشعارهم إلى عَقائدهم إلى آرائهم الكلاميَّة إلى جَرائمهم، فالحماسة والجرأة - بجرعةٍ من الوقاحة - سمتهم جِيلاً بعد جيل، وكانت لهم مواقف عدَّة؛ مثل مقاطعة الخليفة علي - رضي الله عنه - في خُطَبِه، بل حتى في صَلاته، وتحدِّي بعضهم فُرادى للمسلمين جهارًا نهارًا، والعناد في قتلهم للصحابي عبدالله بن خبَّاب بن الأرت، ولَمَّا طالب الخليفة بتسليم القتلة قالوا بأنَّ الكلَّ شارَك في قتل ابن خبَّاب، فقاتَلَهُم عليٌّ - رضِي الله عنه - حتى كاد يَفنِيهم، ولم يَثنِيهم ذاك عن الرُّجوع عن موقفهم، أمَّا السذاجة فلهم مواقف تُضحِك؛ ولكنْ ضحكٌ كالبكاء، فبعدَ قتلهم لابن خبَّاب وبقر بطن جاريته، وقتل طفلها، تورَّعوا في تمرةٍ مُلقاة في قارعة الطريق! وكم لهم من قصص مع الكفار؛ فقد كانوا يُؤَمِّنون حياةَ الكافر، ويُبيحون دم المسلم، حتى إنَّ لهم لقاءً مع واصل بن عطاء رأس المعتزلة وجماعة من أصحابه، فلمَّا سألوهم عن معتقدهم أجاب واصل بأنهم أهلُ كتاب، فأخذوه وأصحابه وقرؤوا لهم آياتٍ من كلام الله ثم أبلغوهم مأمنهم![14].
ولو أعلمهم بإسلامه لجزوا عُنقَه، فعهدُهم قتلُ أهل الإسلام وتأمين أهلِ الأوثان، فكان فيهم التعصُّب للفِكرة لدَرجة الهوَس، مع التشدُّد في مُعامَلة المخالف، والخشونة في الدعوة والمعاملات، والجفاء في السُّلوك، والدِّفاع عن آرائهم بحدَّة وعَصبيَّة، فلا رفقَ في ما يصدرُ عنهم ولا أدب، ولعلَّ السببَ الجليَّ في ذلك أنَّ أكثرهم من أعراب البادية، ومَن بدا جفا، وقليلٌ فيهم أهل الحضر؛ وإن وجدوا فسِيماهم حدَّة الطَّبع والجَفاء؛ لأنَّ أفكارَ وعقائد وسلوكيَّات الخوارج لا تُوائم الطِّباع اللينة أو المتَّزنة والهادئة، فالخوارج واللين من الألفاظ المتناقضة لا تجتمعُ.
وهنا فرقٌ بين مَن قد يحرجه مجلس المناظرة، أو مقامه أمام المُناظِر، فيتفلَّت من رد الأدلَّة؛ كيما ينجو من حرج المقام، وبين مَن ينصر أقوالاً ويلزم غيره، ويُوالِي ويبرأ عليها، من غير برهان ولا أثارة من علمٍ، بل لا يرعي سمعه من قبل أنْ يدلي بقوله بالمنع.
يتبع
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك