الليبرالية في نسختها العربية
رأفت صلاح الدين
إن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي أحدًا، فما بني على باطل فهو باطل، والله عز وجل هو خالق الإنسان، وهو أدرى بما يصلحه وما ينفعه في دنياه وآخرته، والإنسان مهما ازداد في العلوم والمعارف، ومهما اخترع من قوانين وآليات لإصلاح حال البشر - فجهده قاصر، وسعيه مبتور؛ لأن ما يجهله في هذا الكون أكثر مما يعرفه، وما يغيب عنه أوسع مما يدركه.
بين عشية وضحاها حدث ما لم يكن متوقعًا؛ حيث بدأت سحب الربيع العربي المحملة بسحب الخير تمطر أمنًا وعزًّا على بلادها، ويمسك الإسلاميون زمام الحكم فيها بعد عقود من الاضطهاد والاعتقال والتشريد، وفي نفس الوقت أوشكت حباتُ عقدِ أعتى أيديولوجية على وجه الأرض في الانفراط حبة حبة.
ولعل ذلك يدفعنا دفعًا إلى سبر أغوار الليبرالية في نسختها العربية ومعرفة حقيقتها وآلياتها؛ لنعرف كيف سقط المارد، وكيف هوت تلك الأسطورة التي لن يكون لها على الأقل تلك الهيبة والهيمنة والاحترام والتقديس لدى منظريها قبل شانئيها؟ وهذا يعتبر أعظم مكسب للإسلام والمسلمين[1].
تعريف الليبرالية:
هي مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في السياسة والاقتصاد وكل مناحي الحياة، وينادي بالقبول بأفكار الغير وأفعاله، حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله، وقد اختلفت وتعددت التعريفات لليبرالية؛ وذلك بسبب أنهم لم يتفقوا على آلية محددة لتطبيقها في الواقع.
فالليبرالية: (liberalisme) كلمة لاتينية، اشتقت من كلمة liber، التي تعني الحر، وغير المقيد بقيود، وغير الملتزم بأي التزام، والليبرالية: الحرية المطلقة، غير المقيدة بقيود.
جاء في الموسوعة الميسرة: "الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي".
أي معناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي دولة، جماعة، فردًا، ثم التصرف وَفْق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية (عقدية).
كما جاء في موسوعة لالاند الفلسفية (liberalisme): المعنى الفلسفي الحق للحرية هو الانفلات المطلق، لا بغياب النزوع، بل بالترفع فوق كل نزوع وكل طبيعة (ج.لاشلييه).
ويذكر في الموسوعة الفلسفية العربية: الليبرالية في الفكر السياسي الغربي نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وأن لفظتي "ليبرالي" و"ليبرالية" لم تكونا متداولتين قبل بداية القرن التاسع عشر، وأن كثيرًا من الأفكار الليبرالية موجودة في فلسفة "جون لوك" السياسية؛ فهو أول وأهم الفلاسفة الليبراليين.
وبحسب هذه المفاهيم والمعادلات والنتائج يمكن أن نصل إلى تحديد أدق لحقيقة الليبرالية بأنها تعني: الاستقلالية التامة للفرد، بالانكفاء على النفس، والتحرر من سلطة الغير، ثم الانفتاح على قوانين النفس والانفلات معها.
فتعريفات الليبرالية تُجمع على أنها انكفاء على النفس، مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعًا إلا لنفسه، ولا أسيرًا إلا لهواه[2].
نشأة الليبرالية:
كثر استعمال الكلمة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهما قرنا الصراع بين الكنيسة (السلطة الكهنوتية)، والعلوم المادية والمكتشفات العلمية.
فالحرية التي أرادها القوم هي الحرية من تسلط الكنيسة على الأفكار والمكتشفات؛ فقد كانت الكنيسة تطارد علماء المادة ومكتشفي خصائصها، فحين أتى جاليليو بنظرية كروية الأرض بالأدلة والبراهين المادية، قامت قيامة الكنيسة وقتلَتْه، فكان العلماء وعامة الناس مضطهدين في أفكارهم وفي ممتلكاتهم.
وكان هذا الاضطهاد مبنيًّا على انحراف عقدي، من أن عيسى أحد الأقانيم الثلاثة للإله، وأنه صاحب الصلاحية المطلقة في الكون، وأنه وهب تلك الصلاحيات إلى الكنيسة؛ فهي وريثة المسيح، ولها ما كان لعيسى من القداسة والسلطان[3].
فالغرب أراد التحرر من الكنيسة التي ظلمتهم في كل مناحي الحياة.
فبدأ الفكر الليبرالي في مرحلته المبكرة داعيًا إلى حق التمرد ضد الحكومات التي تقيد الحريات؛ ولهذا أوحت الأفكار الليبرالية بالثورة الإنجليزية عام 1688م، والأمريكية عام 1775م، والفرنسية عام 1789م، وأدت هذه الثورات إلى قيام حكومات تعتمد على دساتير تقدس حق الإنسان في الحرية الشخصية بأوسع دوائرها، دون التزام تجاه شيء، إلا القوانين المصاغة أصلاً لحماية الحريات الشخصية[4].
من هنا ظهرت الليبرالية الغربية التي تعني حقَّ الفرد في الحياة كما يريد، دون التقيد بأي قيد أو شرط، ويعبرون عن ذلك بقولهم: (دعه يفعل ما يشاء، ويمر من حيث يريد)، ولا شك أن هذه المطالبة جاءت للتحرر من قيود الكنيسة، التي حرفت الإنجيل، وأخرجته من وحي إلهي إلى كلام بشري.
ولقد قامت حركة التنوير الأوروبية وَفْق تسلسل مرحلي تلقائي؛ بدءًا من العلمانية ثم الليبرالية وأخيرًا الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى، أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءَه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيدًا عن المسلَّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكُنْ ذلك يعني التملص من الإيمان الديني عند معظم العلمانيين، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة؛ لعدم إمكان الجمع بينهما، ومن ثم عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس.
بناءً على التسلسل المرحلي السابق ذكره، فإن الليبرالية الاقتصادية والأيديولوجية لم تنشأ في الغرب إلا بعد شيوع العلمنة، وتخليص العلم من سلطان الكهنوت، وهكذا فقد كان من الطبيعي أن تثور العقلية العلمانية على أيديولوجيا التسليم بالمطلق، ومنح العلم صفة النسبية، وتزامن ذلك مع تطلع الفرد للتحرر الاقتصادي من نير الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعيًا وثقافة، مما أدى إلى تقلص سلطات الإقطاعيين، ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.
إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحلَّ بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، الذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير، مما أدى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، ومن ثم نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية[5].
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك