أسباب الاختلاف في التفسير
محمد بن عبدالله العبدلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
لا يخفى على أحد الخلاف الواقع بين المفسرين، ومن طالع في كتبهم يدرك ذلك، ولكن الخلاف بينهم على نوعين اختلاف مذموم واختلاف سائغ وبعضهم يسميه "خلاف محمود"، ولكليهما أسباب، وقبل الكلام على الأسباب لا بد من الكلام على بعض المقدمات، وهي تعريف الاختلاف، فالاختلاف هو ضد الاتفاق، وقال الراغب: "الاختلافُ والمخالفة: أن يأخذ كلّ واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخِلَاف أعمّ من الضّدّ، لأنّ كلّ ضدّين مختلفان، وليس كلّ مختلفين ضدّين، ولمّا كان الاختلاف بين النّاس في القول قد يقتضي التّنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة"[1]، الاختلاف: لغة ضدّ الاتفاق، قال بعض العلماء: إنّ الاختلاف يستعمل في قول بني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه"[2].
ونبدأ بالاختلاف المذموم وهو اختلاف التضاد قال السيوطي: "الِاخْتِلَافُ عَلَى وَجْهَيْنِ اخْتِلَافُ تَنَاقُضٍ وَهُوَ مَا يَدْعُو فِيهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إِلَى خِلَافِ الْآخَرِ"[3]، وهذا الاختلاف محمول على الاختلاف في الأصول دون الفروع[4].
فهذا النوع مثل اختلاف الفرق المبتدعة المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يفسرون القرآن بما يوافق أهوائهم ومعتقداتهم الفاسدة، كما هو الحال في تفاسير الرافضة والباطنية والصوفية والمعتزلة والأشاعرة، يقول محمد السيد الذهبي رحمه الله: " الكتب التي جَدَّت بعد ذلك -يعني بعد الصحابة والتابعين- فإن كثيراً منها، كتفاسير المعتزلة والشيعة، مليئة بأخطاء لا تُغتفر، حملهم على ارتكابهم نُصرة المذهب والدفاع عن العقيدة.
أما هاتان الجهتان اللتان يرجع إليهما الخطأ في الغالب فهما ما يأتي:
الجهة الأولى: أن يعتقد المفسِّر معنى من المعاني، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذي يعتقده.
الجهة الثانية: أن يفسِّر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه مَنْ كان مِنَ الناطقين بلغة العرب. وذلك بدون نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به.
فالجهة الأولى: مراعى فيها المعنى الذي يعتقده المفسِّر من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والجهة الثانية: مراعى فيها مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والمخاطَب، وسياق الكلام.
ثم إن الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الأولى يقع على أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون المعنى الذي يريد المفسِّر نفيه أو إثباته صواباً، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى المعنى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل لا في المدلول، وهذه الصورة تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية والوعَّاظ الذين يفسِّرون القرآن بمعان صحيحة في ذاتها ولكنها غير مرادة.
الصورة الثانية: أن يكون المعنى الذي يريد المفسِّر نفيه أو إثباته صواباً، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويُراد به، ويحمله على ما يريده هو، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل لا في المدلول أيضاً، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير بعض المتصوفة الذين يفسِّرون القرآن بمعان إشارية صحيحة في حد ذاتها، ومع ذلك فإنهم يقولون: إن المعاني الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء أقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية.
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسِّر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل والمدلول معاً، وهذه الصورة تنطبق على ما ذكره بعض المتصوفة من المعاني الباطلة، وذلك كالتفسير المبنى على القول بوحدة الوجود، كما جاء في التفسير المنسوب لابن عربي عندما عرض لقوله تعالى: ﴿ واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [سورة المزمل:8] من قوله في تفسيرها: واذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي اعرف نفسك ولا تنسها فينساك الله.... إلخ.
الصورة الرابعة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسِّر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويُراد به، ويحمله على ذلك الخطأ دون الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ في الدليل والمدلول معاً، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير أهل البدع، والمذاهب الباطلة، فتارة يلوون لفظ القرآن عن ظاهره المراد إلى معنى ليس في اللفظ أي دلالة عليه، كتفسير بعض غلاة الشيعة: "الجبت والطاغوت" بأبي بكر وعمر، وتارة يحتالون على صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى فيه تكلف غير مقبول، وذلك إذا أحسوا أن اللفظ القرآني يصادم مذهبهم الباطل، كما فعل بعض المعتزلة ففسَّر لفظ "إلى" في قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ بالنعمة، ذهاباً منهم إلى أن "إلى" واحد الآلاء، بمعنى النعم، فيكون المعنى: ناظرة نعمة ربها، على التقديم والتأخير، وذلك كله ليصرف الآية عما تدل عليه من رؤية الله في الآخرة.
وأما الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الثانية فهو يقع على صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي ذكره المفسِّر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ الذي يُطلق في اللغة على معنيين أو أكثر، والمراد منه واحد بعينه، فيأتي المفسِّر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد، وذلك كلفظ "أُمَّة" فإنه يُطلق على معان، منها: الجماعة، والطريقة المسلوكة في الدين، والرجل الجامع لصفات الخير، فحمله على غير معنى الطريقة المسلوكة في الدين في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف:22] غير صحيح وإن احتمله اللفظ لغة.
الصورة الثانية: أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنى بعينه، ولكنه غير مُراد في الآية، وإنما المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلاً، فيخطئ المفسِّر في تعيين المعنى المراد، لأنه اكتفى بظاهر اللغة، فشرح اللفظ على معناه الوضعي، وذلك كتفسير لفظ "مبصرة" في قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً ﴾ [الإسراء:59] بجعل "مبصرة" من الإبصار بالعين، على أنها حال من الناقة، وهذا خلاف المراد، إذ المراد: آية واضحة"[5].
ومن أسباب الاختلاف اعتماد بعض المفسرين على الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك الروايات الإسرائيليات التي تخالف العقل والنقل واعتبار ذلك أصلا في التفسير وهو مناقص لما ثبت في تفسير القرآن.
ومن أسباب الاختلاف اعتماد البعض على مجرد المعرفة باللغة وتفسير القرآن بظاهر العربية دون الرجوع إلى أصول التفسير وأدواته.
وأما الاختلاف المحمود فهو اختلاف التنوع، وهو الذي يمكن الجمع بين الأقوال فيه، كأن يعبر كل مفسر عن المعنى الواحد بعبارات شتى تدور كلها حول هذا المعنى، أو تكتمل بها صورته ويستقر المعنى في الأذهان، أو أن يفسر بعضهم اللفظ بمعان متنوعة لكنها تدور في محور واحد: وبعض المفسرين قد يفسر المعنى بمثال عليه أو بلازمه، ومن أسباب الاختلاف هذا:
1- أن يكون في الآية أكثر من قراءة فيفسر كل منهم الآية على قراءة مخصوصة.
2- ومنها الاختلاف في الإعراب، فإن للإعراب أثره في تفسير الآية: ومثاله اختلافهم في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [سورة آل عمران:7]، فقد اختلفوا في ﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾ فقيل: عطف نسق على لفظ الجلالة، وقيل: مبتدأ والخبر في قوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ فعلى القول الأول أن الراسخين يعلمون تأويله وعلى القول الثاني لا يعلمون، وسبب هذا الاختلاف، الاختلاف في الإعراب.
3- ومن أسباب الاختلاف احتمال اللفظ أكثر من معنى كالاشتراك اللغوي، فإن بعض الكلمات لها أكثر من معنى في اللغة كلفظ "قسورة" الذي يطلق على الرامي وعلى الأسد، ولفظ "النكاح" الذي يطلق على العقد وعلى الوطء، ولفظ "القرء" الذي يطلق على الحيض وعلى الطهر، وهناك أسباب أخرى غير ذلك[6].
4- ومن أسباب الخلاف أيضاً الخلاف في تصحيح رواية وتضعيفها، وكذلك الاختلاف في سبب نزول بعض الآيات بحيث قد يكون في سبب نزول آية قولين أو أكثر.
5- ومن أسباب الاختلاف هذا هو مذهب المفسر الفقهي.
6- ومن أسباب الاختلاف أيضا الاختلاف في الإطلاق والتقييد، فقد يري بعض المفسرين بقاء المطلق على إطلاقه، وقد يقول بعضهم بتقييد هذا المطلق بقيد ما، فقد ورد عتق الرقبة في كفارة اليمين وكفارة الظهار فقد وردت مطلقة في سورتي المائدة والمجادلة، ووردت مقيدة كما في سورة النساء، فحمل بعض المفسرين المطلق علي المقيد وقالوا لا تجزئ الرقبة الكافرة، وأبقى بعضهم المطلق على إطلاقه، وكذلك الاختلاف في العموم والخصوص[7].
7- ومن أسباب الاختلاف، الاختلاف في فهم حروف المعاني، من ذلك الباء في قوله عز وجل: ﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَين ﴾ [سورة المائدة:6]، هل هي للملاصقة أم للتبعيض؟ فقيل إنها للملاصقة وقيل للتبعيض والخلاف في ذلك موجود في كتب التفسير والفقه[8].
فهذه أبرز الأسباب للاختلاف في تفسير كتاب الله تبارك وتعالى نسأل الله الكريم الرحمن أن يفقهنا في الدين ويعلمنا الكتاب ويجعله هادياً لنا ويجعلنا من العاملين به، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
[1]المفردات في غريب القرآن (ص: 294).
[2]كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانوي (1/ 116).
[3] الإتقان في علوم القرآن (3/ 100).
[4] انظر: تفسير الألوسي (2/ 240).
[5] التفسير والمفسرون (1/200-202)، بتصرف يسير.
[6] انظر: دراسات في علوم القرآن - فهد الرومي (ص: 153-154).
[7] انظر: اختلاف المفسرين أسبابه وضوابطه لأحمد محمد الشرقاوي، بحث محكم منشور على الشبكة، بتصرف يسير.
[8] المصدر السابق.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك