التحذير من المعاصي والحث على الطاعات
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي
الحمد لله العزيز الوهاب، الحليم الذي يستر على العصاة ويتوب على من تاب، أحمده سبحانه أن سبقت رحمته نقمته وأشكره شكر معترف بنعمه وعظيم مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى التوحيد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعل آله وأصحابه ومن تبعهم من صالح العبيد.
أما بعد:
أيها الناس، أوصيكم وإياي بطاعة الله فإنها سبب للسعادة في الدنيا والآخرة فما استجلبت نعم الله ولا استرفعت نقمه إلا بطاعته، واعلموا أن المعاصي سبب لكل بلاء في الدنيا مع ما يضاف إلى ذلك من عذاب الآخرة، وقد كان في لعنة الله فيمن مضى من الأمم التي تجرأت على معصيته عبرة لذوي الألباب، فقوم نوح فتح الله عليهم السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيونًا حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال، هلك جميعهم بالغرق إلا من أمر الله عبده نوحًا بحمله في السفينة، وعاد لما تجبروا وقالوا من أشد منا قوة أهلكهم الله بالريح العقيم عن آخرهم ولم يبق لهم باقية، وقوم صالح لما كذبوه وقالوا أتينا بما تعدنا إن كنت من المرسلين أهلكهم الله بالصيحة في لحظة واحدة، وقوم لوط لما تمردوا عليه وعملوا أعمالًا لم يسبقوا إليها وكانت غاية في القبح والشناعة قلب الله بهم مدائنهم وجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل أي حجارة مطبوخة بالنار مسجلة عليها أسماؤهم، وفرعون لما طغى وادعى ما لا يصح لبشر أن يدعيه، حيث قال أنا ربكم الأعلى أغرقه الله في البحر هو وجنوده الذين اغتر بهم.
وكل من تجبر على الله وتجرأ على معاصيه ومخالفة ما جاء به أنبياؤه ورسله أنزل الله به عقوبته العاجلة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب والنكال في نار جهنم، وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وما عذابه من العصاة ببعيد إلى قيام الساعة.
فيا أمة محمد:
قص الله علينا أخبار من عصاه، وما أحله بهم من العذاب لنعتبر بحالهم، ونبتعد عن مثل أفعالهم لئلا يحل بنا مثل ما حل بهم، ومن أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - "أن أخبر أن لا يهلكهم بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وأن لا يجعل بأسهم بينهم فاستجاب الله له في الأولى والثانية ومنعه من الثالثة"[1] فكان الأمر في هذه الأمة أن إذا تراخت في دينها وخرجت عن حدوده التي رسمها الكتاب والسنة جعل الله بأسها بينها وسلط بعضها على بعض بالقتل والأسر وانتهاك الحرمات جزاء وفاقًا، وابتلاهم بضيق العيش، والخوف، وجور الولاة، حتى يراجعوا دينهم ويحاسبوا أنفسهم، ويغيروا ما فسد من أحوالهم التي استحقوا بها العقوبة، ويتوبوا إلى الله توبة صادقة، عند ذلك يبدل الله سيئاتهم حسنات ويبدلهم بعد الخوف أمنًا، وبعد الذلة عزًا، وما أصاب المسلمين اليوم في أرجاء المعمورة من تسلط أعداء الله وأعداء رسله عليهم بأنواع العذاب من القتل وانتهاك الحرمات والإهانة غير المتناهية شيء يسير من العقوبة العاجلة بسبب ما أضاعوا من أوامر الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11] ولو يؤاخذهم بجميع ما كسبوا لما ترك على ظهرها من دابة قال تعالى: ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. قال السلف: كلما أحدث الناس ذنبًا أحدث الله لهم من سلطانه عقوبة ليذيقهم بعض الذي عملوا، قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تبعد العبد عن ربه وتحول بينه وبين رحمة الله وتضعف في قلب العبد تعظيم الرب- جل جلاله - وتضعف وقاره في قلب العاصي وأنه لو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله وتعظيم حرماته ويهون عليه حقه، يرفع الله مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم فيستخفون به كما هان عليه أمر الله واستخف به، وكيف ينتهك عبد حرمات الله ولا يهونه على الناس وكيف يستخف بمعصية الله ولا يستخف به الخلق".
عباد الله كيف المخرج مما أحاط بالمسلمين اليوم؟ وما السبل التي لو سلكوها ارتفعت رؤوسهم وهدوا إلى سواء السبيل؟ أهي كثرة المؤتمرات وتداول الرأي؟ أظن- ويظن غيري - أنها لا تجدي! ولو كان يكفي لما تمكن اليهود والنصارى والمشركون من النيل من المسلمين في قديم الزمان وحديثه
لأن هذا العمل ليس بجديد، ولا أظن أن هناك طريقًا يمكن إذا سلكه المسلمون أن يستعيدوا قوتهم ومجدهم إلا سبيلًا واحدًا ألا وهو الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقها قولًا واعتقادًا وعملًا في عباداتهم ومعاملاتهم، في أخلاقهم وسلوكهم، فإذا أخذوا بالكتاب والسنة بصدق وإخلاص وعمل توحدت كلمتهم ورفعوا راية الإسلام واستضاؤوا بهدى سيد الأنام وجعلوا شعارهم لا إله إلا الله محمد رسول الله فالنصر حليفهم لأنهم بذلك يكونون مؤمنين بالله ورسوله، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر - وهو لا يخلف الميعاد - بقوله تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47] أما إذا كانت الأمور على ما هي عليه من التشتت والتفرق في المذاهب والمعتقدات، وتعاليم الإسلام مهجورة بين الجماعات، والإسلام محصور في بطاقات الجنسيات عند الغالب من الدول والهيئات، فحظهم من النمو مثل حظهم من الإسلام، فالإسلام مبدأ واحد ومسمى واحد ومعتقد واحد وغاية واحدة، هدف واحد هو إفراد الله بالعبادة، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم وأتباع أتباعهم لم يظهر فيهم التفوق في مذاهبهم ولم يحكموا بقانون ولم يتلقبوا بألقاب غير الإسلام والإيمان، لم يتلقب أحد منهم بالقومية ولا بالتقدمية ولا بالبعثية ولا بالعلمانية فكل مدع للإسلام وهو لا يطبق تعاليمه على نفسه ومجتمعه فليمس بمسلم حقًا والإسلام بريء منه؟ لأن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159] ويقول: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44] فعلى المسلمين جميعًا أن لا يحبوا إلا في الله ولا يبغضوا إلا في الله ولا يوالوا إلا في الله ولا يعادوا إلا في الله، فهذه ملة إبراهيم الخليل - عليه السلام - التي أمر الله نبيه محمدًا باتباعها بقوله: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].
والحمد لله رب العالمين.
[1] صحيح مسلم (2889).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك