الاستئجار على حمل الخمر
أ. د. عبدالله بن مبارك آل سيف
صورة المسألة: أن يستأجره على حمل محرم كالخمر ونحوه، فهل يصح العقد أو لا؟ ثم هل يطيب له أكله أو لا؟ محل خلاف.
اختيار ابن تيمية:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه يقضى له بالأجرة، وأنها لا تطيب له إما كراهة تنزيه أو تحريم، خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1].
تحرير محل النزاع:
أ - إذا كان حمل المحرم لمقصد شرعي معتبر كالإراقة والإلقاء فيجوز أخذ الأجرة عليه، وليس هذا محل البحث [2].
ب- إذا كانت الإجارة لفعل محرم كالزنا فلا يجوز، ولم يخالف في هذا أحد من العلماء [3].
ج - ومحل الخلاف: فيما كان جنسه مباحاً كالحمل، لكن اقترن به محرم مثل حمل الخمر لمن يريد شربها، وهذا محل خلاف بين العلماء.
أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول:
أنه لا يصح العقد ولا تحل الأجرة.
وهذا مذهب المالكية [4]، والشافعية [5]، والحنابلة [6]، وقول أبي يوسف ومحمد من الحنفية [7].
القول الثاني:
أنه يجوز والأجرة حلال.
وهذا مذهب أبي حنيفة [8].
القول الثالث:
يصح العقد ويقضى له بالأجرة، لكن لا تطيب الأجرة للآخذ: إما كراهة تنزيه، أو كراهة تحريم. وهذا قـول ثانٍ عن الإمام أحمـد [9]، ورجحه ابن تيمية وابن القيم [10].
أدلة القول الأول:
1- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] [11].
وهذا من التعاون على الإثم وتيسير أسبابه.
2- عن ابن عمر مرفوعاً: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها وآكل ثمنها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» أخرجه وأحمد أبو داود وابن ماجه [12]، وصححه ابن السكن [13].
ونوقش:
أن الحديث محمول على المقرون بقصد المعصية [14].
وأجيب:
أنه لو ثبت أنه أراد غير ذلك لعمل به لكن الغالب الشرب، ثم عينها غير محترمة يشرع إراقتها.
3- القياس على ما سلموا به من تحريم الاستئجار على ما كان جنسه محرماً، كالغناء والزنا [15].
4- أن ذريعة المحرم محرمة، وهذا ذريعة قوية لذلك.
أدلة القول الثاني:
1- أن نفس الحمل ليس بمعصية، بدليل جواز حملها للإراقة، وما دام حمل الخمر له مقاصد مباحة، فهذا يعني أن جنس الحمل ليس محرماً، ولا يتعين أن يكون لمحرم[16].
ونوقش:
أنه لو ثبت أنه أراده لمباح لجاز، لكن الكلام هنا فيما لو أراده للشرب فيحرم؛ لأنه ذريعة متيقنة لمحرم.
2- أن ذلك سبب للمعصية وهي الشرب؛ لأن الشرب يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحمل من ضرورات الشرب، فكانت سبباً محضاً، فلا حكم له كعصر العنب وقطفه [17].
3- أن هذا التعيين - أي للشرب - لا يتعين، فهو كإجارة مطلقة مستحقة الأجرة، ولذا يجوز له أن يحمِّله بدله عصيراً [18].
4- أن هذا الخلاف وارد في نقل خمر لذمي، وهم قد أقروا على شربها في منازلهم، وقد يريدونها للتخليل أو علاج أو غيره، فجاز أخذ المسلم أجرة على ذلك [19].
ونوقش:
أن محل البحث في حملها لمحرم لا لمباح.
أدلة القول الثالث:
1- أن فاعل المحرم إذا منعه حقه كان فاعلاً للمحرم بالشرب، وظالماً للحامل بمنعه أجرته، لأنه من الغدر والظلم المحرم [20].
2- وإنما حكم بصحة العقد؛ لأنه عقد على عمل جنسه مباح، فاستحق أخذ الأجرة عليه، لكن لم يطب له لأنه من التعاون على الإثم والعدوان فاقتضى كراهة ذلك أو تحريمه.
ونوقش:
أن هذا فيه نوع تناقض، فإما أن يمنع أو يصحح، ولذا لو قال أحد: يجوز أخذ الأجرة على الغناء لكن لا تطيب له، لعد تناقضاً، نعم يزيد الإثم على الشارب بمنعه الأجرة، لكن ذلك لا يعني صحة العقد، ثم إذا قيل بتحريم الأجرة فإعطاؤه إياها إعانة له على المحرم.
وأجيب عن المناقشة:
أن فائدة قولنا: لا يطيب له، أنه إن قلنا بالكراهة وهو محتاج زالت الكراهة، وإن قلنا بالتحريم وهو فقير جاز له أخذه لفقره كأجرة الغناء ونحوها [21].
الترجيح:
والراجح - والله أعلم - هو القول بالمنع إذا تبين أنه لقصد الشرب؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان. أما إن كان غير ظاهر، فإنه يحرم أيضاً لأنه الغالب، ووجه الترجيح:
1- قوة أدلة المانعين وصراحتها وظهورها، ولا مخصص لها.
2- ضعف أدلة المخالفين، وهي أقيسة في مقابلة النص، فلا يعتد بها.
3- موافقته للقاعدة الشرعية المعتبرة " سد الذرائع ".
ولعل سبب الخلاف: هو التردد في درجة إفضاء هذا السبب للمعصية هل هو أغلبي باعتبار أن أكثر من يحمله لذلك فيمنع، أو غير أغلبي فلا يمنع باعتبار خفاء القصد، ووجود نوع مباح منه فيجوز؟ [22].
وتظهر ثمرة الخلاف: في تأجير الدابة لمن يحمل عليها خمراً، فيتخرج فيه قولان أو ثلاثة، [23] والله أعلم.
[1] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 209)، (29/ 309)، (22/ 141)، اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 533)، زاد المعاد: (5/ 785).
[2] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 209)، اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 533)، الإنصاف: (6/ 24)، شرح المنتهى: (2/ 358)، مطالب أولي النهى: (3/ 607)، مواهب الجليل: (5/ 409).
[3] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 209)، (29/ 309)، إعلاء السنن: ( 16/ 182).
[4] انظر: مواهب الجليل: (5/ 409)، حاشية الخرشي: (6/ 122).
[5] انظر: مغني المحتاج: (2/ 456)، أسنى المطالب: (2/ 413)، تحفة المحتاج: (6/ 137)، حاشية قليوبي: (3/ 70)، نهاية المحتاج: (5/ 274).
[6] انظر: المغني: (8/ 131)، الفروع: (4/ 427)، زاد المعاد: (5/ 785)، أحكام أهل الذمة: (1/ 570)، الإنصاف: (6/ 23)، شرح المنتهى: (2/ 358)، كشاف القناع: (3/ 559)، مطالب أولي النهى: (3/ 607).
[7] انظر: المبسوط: (16/ 38)، بدائع الصنائع: (4/ 190)، تبيين الحقائق: (5/ 125)، درر الحكام: (1/ 320)، حاشية ابن عابدين: (6/ 415)، البحر الرائق: (8/ 231).
[8] انظر: مصادر الحنفية السابقة.
[9] انظر: المغني: (8/ 131)، اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 533)، أحكام أهل الذمة: (1/ 570).
[10] انظر: زاد المعاد: (5/ 785).
[11] سورة التوبة، من الآية: ( 2 ).
[12] مسند أحمد: (2/ 25، 71، 97)، سنن أبي داود: (3/ 326)، كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر، رقم (3674)، سنن ابن ماجه: (2/ 1121، 1122)، كتاب الأشربة، (30)، باب (6)، حديث رقم (3380)،وفي الباب عن أنس بن مالك وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة. انظر: التلخيص الحبير: (4/ 73).
[13] أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن، المصري، البزاز، إمام حجة، حافظ محدث، توفي سنة 353هـ.انظر: سير أعلام النبلاء: (16/ 117)، تذكرة الحفاظ: (3/ 937)، هدية العرفين: (1/ 389).
[14] انظر: المبسوط: (16/ 38)، بدائع الصنائع: (4/ 190)، درر الحكام: (1/ 320).
[15] انظر: تبيين الحقائق: (5/ 125)، حاشية العطار: (2/ 180).
[16] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 190)، درر الحكام: (1/ 320)، المبسوط: (16/ 38).
[17] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 190)، عقود الإجارة الفاسدة: ( 187).
[18] انظر: المغني:(8/ 131)، اقتضاء الصراط المستقيم:(2/ 533)، أخذ الأجرة على أعمال الطاعات والمعاصي (122).
[19] انظر: حاشية ابن عابدين: (6/ 415).
[20] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 209).
[21] انظر: مجموع الفتاوى: (29/ 309).
[22] انظر: بدائع الصنائع: (4/ 190).
[23] انظر: درر الحكام: (1/ 320)، الفتاوى الهندية: (4/ 413).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك