الأربعون القضائية (1)
أ. محمد خير رمضان يوسف
مقدِّمة
الحمدُ لله العدلِ الحقّ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ الذي بُعِثَ بالحقِّ وقضَى بالعدل، وعلى آلهِ وأصحابهِ الفاتحين بالعدلِ والحقّ، وبعد:
فقد جمعتُ في هذه الأربعينَ حديثًا ما قضَى به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وحكم، أو حكَى قضيَّة، أو تحدَّثَ عن القضاءِ في الإسلامِ كيف يكون، أو ما قُضيَ به فأقرَّهُ عليه الصلاةُ والسلام، ليكونَ نهجًا للمسلمين يقتدون به ويحكمونَ كما أمرهم الله ورسوله، وليكونَ تأكيدًا على أن دينَ الإسلامِ شرعٌ يُحكَمُ به، لا يُستبعَدُ ولا يُستبدَل.
وكلُّها من أحاديثِ الصحيحين، البخاريِّ ومسلم.
واستعنتُ بكتبِ شروحِ الأحاديثِ لتقريبِ مفهومِ الأحاديثِ أو مضمونها، وكتبُ الفقهِ تجمعُ وتفرِّع، وتبيِّنُ المطلقَ من المقيَّد، والناسخَ من المنسوخ، وما استقرَّ عليه العمل.
وفسَّرتُ الألفاظَ الغريبة، وأوجزتُ في إيرادِ ما تتوضَّحُ به المسائلُ القضائية، وتفصيلها طويل، وفروعُها تُبحَثُ في كتبِ الفقهِ والفروعِ ودواوينِ القضاء.
ومن الله أستمدُّ العونَ والتوفيق.
محمد خير يوسف
17/ 3/ 1437 هـ
(1)
الحجة في الخصومة
عن أمِّ سلمةَ رضيَ الله عنها، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال:
"إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحُجَّتهِ من بعض، وأقضي له على نحوٍ مما أسمع، فمن قضَيتُ له من حقِّ أخيهِ شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار".
متفق عليه: صحيح البخاري (6566) واللفظُ له، صحيح مسلم (1713).
قوله: "قطعةً من النار" أي: الذي قضيتُ له به بحسبِ الظاهر، إذا كان في الباطنِ لا يستحقُّهُ فهو عليه حرام، يؤولُ به إلى النار.
وقوله: "قطعةً من النار" تمثيل، يُفهَمُ منه شدَّةُ التعذيبِ على من يتعاطاه، فهو من مجازِ التشبيه، كقولهِ تعالَى: ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ﴾ [سورةُ النساء: 10].
وفي هذا الحديثِ من الفوائد:
• إثمُ مَن خاصمَ في باطلٍ حتى استحقَّ به في الظاهرِ شيئًا هو في الباطلِ حرامٌ عليه.
• وفيه أنَّ من ادَّعَى مالًا ولم يكنْ له بيِّنة، فحلفَ المدَّعَى عليه، وحكمَ الحاكمُ ببراءةِ الحالف، أنه لا يَبرأ في الباطن، وأن المدَّعي لو أقامَ بيِّنةً بعد ذلك تنافي دعواه، سُمِعتْ وبَطلَ الحُكم.
• وفيه أن من احتالَ لأمرٍ باطلٍ بوجهٍ من وجوهِ الحيلِ حتى يصيرَ حقًّا في الظاهر، ويُحكَمُ له به، أنه لا يحلُّ له تناولهُ في الباطن، ولا يرتفعُ عنه الإثمُ بالحكم.
• وفيه أن المجتهدَ قد يخطئ، فيُرَدُّ به على مَن زعمَ أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب.
• وفيه أن المجتهدَ إذا أخطأ لا يَلحقهُ إثم، بل يؤجر[1].
(2)
أهمية القضاء
عن ابنِ عباس رضيَ الله عنهما، أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال:
"لو يُعطَى الناسُ بدعواهُم، لادَّعَى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهُم، ولكنَّ اليمينَ على المدَّعَى عليه".
رواه الشيخان: صحيح البخاري (4277)، صحيح مسلم (1711) واللفظُ له.
قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله تعالَى: هذا الحديثُ قاعدةٌ كبيرةٌ من قواعدِ أحكامِ الشرع، ففيه أنه لا يُقبَلُ قولُ الإنسانِ فيما يدَّعيهِ بمجرَّدِ دعواه، بل يحتاجُ إلى بيِّنة، أو تصديقِ المدَّعَى عليه، فإنْ طلبَ يمينَ المدَّعَى عليه فله ذلك.
وقد بيَّن صلَّى الله عليه وسلَّمَ الحكمةَ في كونهِ لا يُعطَى بمجرَّدِ دعواه؛ لأنه لو كان أُعطيَ بمجرَّدها لادَّعَى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالَهم واستُبيح، ولا يمكنُ المدَّعَى عليه أن يصونَ مالَهُ ودمه. وأما المدَّعي فيمكنهُ صيانتهما بالبيِّنة.
وفي هذا الحديثِ دلالةٌ لمذهبِ الشافعيِّ والجمهورِ من سلفِ الأمةِ وخلَفِها، أن اليمينَ تتوجَّهُ على كلِّ من ادُّعيَ عليه حقّ، سواءٌ كان بينه وبين المدَّعي اختلاطٌ[2] أم لا.
وقال مالكٌ وجمهورُ أصحابهِ والفقهاءُ السبعة، فقهاءُ المدينة، إن اليمينَ لا تتوجَّهُ إلا على من بينه وبينه خلطة، لئلّا يَبتذلَ السفهاءُ أهلَ الفضلِ بتحليفهم مرارًا في اليومِ الواحد، فاشتُرطتِ الخلطةُ دفعًا لهذه المفسدة.
واختلفوا في تفسيرِ الخلطة، فقيل: هي معرفتهُ بمعاملتهِ ومدينتهِ أبشاهدٍ أو بشاهدين.
وقيل: تكفي الشبهة.
وقيل: هي أن تليقَ به الدعوَى بمثلها على مثله.
وقيل: أن يليقَ به أن يعاملَهُ بمثلها.
ودليلُ الجمهورِ حديثُ الباب، ولا أصلَ لاشتراطِ الخلطةِ في كتابٍ ولا سنَّةٍ ولا إجماع[3].
(3)
يمين وشاهد
عن ابنِ عباس:
أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قضَى بيمينٍ وشاهد.
صحيح مسلم (1712).
فيه جوازُ القضاءِ بشاهدِ ويمين، واختلفَ العلماءُ في التفاصيل.
قالَ الخطّابي: يريدُ أنه قضَى للمدَّعي بيمينهِ مع شاهدٍ واحد، كأنه أقامَ اليمينَ مقامَ شاهدٍ آخر، فصارَ كالشاهدَين[4].
(4)
الاجتهاد في القضاء
عن عمرو بن العاص، أنه سمعَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول:
"إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهدَ ثم أصابَ فلهُ أجران، وإذا حكمَ فاجتهدَ ثم أخطأ فلهُ أجر".
رواهُ الشيخان: البخاري (6919)، ومسلم (1716) ولفظهما سواء.
قال العلماء: أجمعَ المسلمون على أن هذا الحديثَ في حاكمٍ عالمٍ أهلٍ للحكم، فإن أصابَ فله أجران: أجرٌ باجتهاده، وأجرٌ بإصابته، وإن أخطأ فله أجرُ اجتهاده.
وفي الحديثِ محذوف، تقديره: إذا أرادَ الحاكمُ فاجتهد.
قالوا: فأما من ليس بأهلٍ للحكمِ فلا يحلُّ له الحكم، فإن حكمَ فلا أجرَ له، بل هو إثم، ولا ينفذُ حكمه، سواءٌ وافقَ الحقَّ أم لا؛ لأن إصابتَهُ اتفاقةٌ ليست صادرةً عن أصلٍ شرعي، فهو عاصٍ في جميعِ أحكامه، سواءٌ وافقَ الصوابَ أم لا، وهي مردودةٌ كلُّها، ولا يعذرُ في شيءٍ من ذلك[5].
(5)
القضاء عند الغضب
عن عبدالرحمن بن أبي بَكرة قال:
كتبَ أبو بَكرةَ إلى ابنِه، وكان بسِجِسْتان، بأنْ لا تقضيَ بينَ اثنينِ وأنتَ غَضبان، فإنِّي سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول:
"لا يَقضِيَنَّ حَكَمٌ بينَ اثنينِ وهو غَضبان". هذا لفظُ البخاري.
وهو عند مسلم: "لا يَحكمْ أحدٌ بين اثنينِ وهو غَضبان".
صحيح البخاري (6739)، صحيح مسلم (1717).
أبو بكرة هو نُفيع بنُ الحارث الثقفيّ، من خيارِ أصحابِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلام، ورضيَ الله عنه. وابنهُ عُبيدالله كان قاضيَ سجستان[6].
قال المهلَّب: سببُ هذا النهي أن الحكمَ حالةَ الغضبِ قد يتجاوزُ بالحاكمِ إلى غيرِ الحقّ، فمُنع. وبذلك قال فقهاءُ الأمصار.
وقال ابنُ دقيق العيد: فيه النهيُ عن الحكمِ حالةَ الغضب، لما يحصلُ بسببهِ من التغيُّرِ الذي يختلُّ به النظر، فلا يحصلُ استيفاءُ الحكمِ على الوجه.
قال: وعدّاهُ الفقهاءُ بهذا المعنَى إلى كلِّ ما يحصلُ به تغيُّرُ الفكر، كالجوعِ والعطشِ المفرطَين، وغلبةِ النعاس، وسائرِ ما يتعلَّقُ به القلبُ تعلُّقًا يَشغلهُ عن استيفاءِ النظر. وهو قياسُ مظنَّةٍ على مظنَّة، وكأن الحكمةَ في الاقتصارِ على ذكرِ الغضبِ لاستيلائهِ على النفس، وصعوبةِ مقاومته، بخلافِ غيره[7].
[1] باختصار من فتح الباري 13/ 173.
[2] في الأصل: اختلاطًا.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 3.
[4] عون المعبود 10/ 21.
[5] شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 14.
[6] تهذيب الكمال 30/ 5.
[7] فتح الباري 13/ 137.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك