نقد ابن الجوزي لشُبَهِ وضلالاتِ المبطلين (1)
الهادي الشرقي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فإنَّ الناظر في كتب العالم المحقِّق ابن الجوزي رحمه الله يَستحسِن الفوائد واللطائف التي يستخلصها، وبخاصة في التربية وأعمال القلوب والوعظ والإرشاد، وقد استوقفَني ردوده على الشُّبهات ونقده لها؛ لما اتَّسمت به من قوة الحجَّة وحسن العبارة ووضوحها، ورغبةً مني في تقريبها إلى القارئ وتيسير الوصول إليها، رأيتُ أن أجمع تلك الفوائد المتعلِّقة بردوده على شُبهات وافتراءات المُبطِلين، مِن عبَدةِ الأوثان المشركين، واليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالين، وكذا أهل الأهواء المنحرفين، والجهَلة أهل الغفلة مِن عوامِّ المسلمين.
ولم أتبع في جمع هذه الردود ترتيبًا معيَّنًا؛ بل جعلتْها متفرِّقة، معتمدًا في ذلك على كلامه مِن مصدره وعزْوِه إلى مكانه، مع شيء من التعليق إن اقتضى الأمر ذلك.
والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن أجده ذخرًا لي يوم ألقاه، وأن ينفَع به مَن قرأه، آمين.
نقد الصوفية:
يقول ابن الجوزي رحمه الله في الرد على الصوفية في مسألة التخلي عن المال والقعود عن الكسب: "تفكرتُ فرأيت أنَّ حِفظَ المال من المتعيِّن، وما يسميه جهلة المتزهدين توكُّلاً من إخراج ما في اليد - ليس بالمَشروع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: ((أمسك عليك بعض مالك)) أو كما قال له، وقال لسعد: ((لأن تترك ورثتك أغنياء، خير مِن أن تتركهم عالةً يتكفَّفون الناس)).
فإن اعترض جاهل فقال: فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ ماله؟
فالجواب: أن أبا بكر صاحب معاش وتجارة، فإذا أخرَجَ الكل أمكَنه أن يستدين عليه فيتعيَّش، فمَن كان على هذه الصفة لا أذمُّ إخراجَه لماله، وإنما الذم متطرِّقٌ إلى مَن يُخرِج ماله وليس من أرباب المعايش.
أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش، فيَبقى كَلاًّ على الناس، يستعطيهم ويَعتقد أنه على الفتوح، وقلبه متعلِّق بالخَلقِ، وطمعُه ناشب فيهم، ومتى حُرك بابه نهض قلبه، وقال: رِزقٌ قد جاء!
وهذا أمر قبيح بمَن يقدر على المعاش، وإن لم يقدر كان إخراج ما يَملك أقبح؛ لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس.
وربما ذلَّ لبعضهم، أو تزيَّن له بالزهد، وأقلُّ أحواله أن يُزاحم الفقراء والمكافيف والزَّمْنى[1] في الزكاة.
فعليك بالشرب الأول، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهِّدين؟
وقد أشرتُ في أول هذا إلى أنهم كسَبوا وخلَّفوا الأموال.
فرِدْ إلى الشِّرب الأول الذي لم يُطرَق؛ فإنه الصافي، واحذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة، مدَّعية بلسان حالها أن الشرعَ ناقص يَحتاج إلى ما يتمُّ به.
واعلم - وفَّقكَ الله - أن البدن كالمطية، ولا بدَّ مِن علف المطيَّة والاهتمام بها، فإذا أهملت كان ذلك سببًا لوقوفك عن السير، وقد رُئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعامًا على عاتقه، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "إنَّ النفس إذا أحرزتْ قوتَها، اطمأنَّت"، وقال سفيان الثوري: "إذا حصَّلتَ قُوتَ شَهر، فتعبَّد".
وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوى، فقالوا: هذا شكٌّ في الرازق، والثقة به أولى، فإياك وإياهم!
وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف، فلا يعوَّل عليه، ولا يهولنَّك خلافُهم؛ فقد قال أبو بكر المروذي: "سمعتُ أحمد بن حنبل يُرغِّب في النكاح، فقلتُ له: قال ابن أدهم.. فما تركني أتمِّم حتى صاح عليَّ، وقال أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأتيني ببنيات الطريق؟!
واعلم - وفقك الله - أنه لو رفض الأسبابَ شخصٌ يدَّعي التزهُّد، وقال: لا آكل ولا أشرب، ولا أقوم مِن الشمس في الحرِّ، ولا أستدفئ مِن البرد، كان عاصيًا بالإجماع.
وكذلك لو قال وله عائلة: لا أكتسب ورزقُهم على الله تعالى، فأصابهم أذى، كان آثمًا، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت)).
واعلم أنَّ الاهتمام بالكسب يجمع الهمَّ، ويُفرِّغ القلب، ويقطع الطمع في الخلق، فإن الطبع له حق يَتقاضاه.
وقد بيَّن الشرع ذلك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا)).
ومثال الطبع مع المريد السالك، كمثل الكلب لا يعرف الطارق؛ فكل مَن رآه يَمشي نبَح عليه، فإن ألقى إليه كسرة سكَتَ عنه.
فالمراد مِن الاهتمام بذلك جمْعُ الهمِّ لا غير، فافهم هذه الأصول، فإنَّ فهمها مهمٌّ"[2].
ينحصر نقد ابن الجوزي رحمه الله من كلامه المتقدِّم على هذا الانحراف فيما يلي:
حفظ المال مُتعين، والاستغناء عنه كليةً غير مشروع، وأنه ليس من الزهد المَمدوح المرغَّب فيه، وذلك:
1- للأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها أمر بإبقاء شيء من المال.
2- أنَّ هذا الفعل محدَث لم يكن عليه السلف الصالح في خير القرون بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنهم أنهم كسبوا الأموال وخلفوها لمن بعدهم، والمُحدِث لسان حاله استدراك على الشرع ببدعته، وأنَّ الشرع ناقص يَحتاج إلى إتمامه.
3- الإنسان بحاجة إلى المال لا مَحالة؛ ليتقوَّى به على فعل الخير، وبدنه كالدابة التي تتَّخذ للركوب، إن لم يُهتمَّ بها وتُعطَ حقَّها مِن العلف ونحوه، كفَّت عن السير.
أما ما تمسَّكت به الصوفية مِن فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يدلُّ على طريقهم؛ لأنه محمول على مَن كان قادرًا على تحصيل المال من جهة أخرى، ولا يضرُّه إنفاقه لجميع ماله، كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فمَن كان حاله كذلك، لم يضرَّه ذلك.
أما مَن قعَد عن طلب العيش مُعتمدًا على الناس، طامعًا ومتعلِّقًا بما في أيديهم، زاعمًا أنه التوكُّل، فهذا من أقبح الأفعال، ناهيك عما يترتَّب عليه مِن الذلِّ لفاعله ومشاركته لأصناف الضعفاء في أموال الزكاة.
ثم بيَّن ابن الجوزي أنَّ صدور هذا الفعل مِن بعض زهاد السلف لا يُلتفت إليهم في هذا الفعل ما داموا جانبوا الصواب فيه، فلا ينبغي التردُّد في مخالفتهم.
كما أن الاشتغال بالكسب وتحصيل المال يعود على المرء بالمنافع الجمَّة في الدنيا والآخِرة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الضُّعفاء لمرض أو كِبَر.
[2] صيد الخاطر (ص: 118)، ط1 / 1997، دار ابن خزيمة الرياض، تحقيق: عامر ياسين.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك