02-01-2016, 03:34 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 349,031
|
|
إنها أزمة أخلاقية!
إنها أزمة أخلاقية!
محمد ناجي بن عطية
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله، وبعد:
تمهيد:
وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاَقُهُمْ ذَهَبُوا
نُلاحظ أنَّ الأمة في وقتِنا الراهن تُعاني من ضعْف، إنْ لم يكن انعدامًا في القِيم والأخلاق على كافَّة المستويات، فهناك أزمةٌ أخلاقية بين الحُكَّام والمحكومين، والرئيس ومرؤوسيه، وبين المدير والعاملين، وبين المعلِّم وطلاَّبه، وبين التاجر والمشتري، وبيْن الرَّجُل والمرأة وأولاده، وأرْحامه وجِيرانه.
تأملتُ في العصر الذي بُعِث فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلاحظت أمرًا عجيبًا، هو أنَّ أكثر الناس لم يكن لديهم دِين ينظِّم حياتهم، لكن كانت عندَهم منظومة مِن مكارم الأخلاق؛ مثل: الصِّدق والأمانة، والوفاء بالعهود والعقود، والكرم والنجدة وغيرها، وقد توارثوها كابرًا عن كابر، فصارتْ ثقافة تتناقلها الأجيال وتعتزُّ بها، وينتقصون مَن لا يُقيمها، بل يُعيِّرون مَن لا يلتزم بها، حتى أحجم أبو سفيان أن يكذبَ على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما لاحتْ له فرصةٌ يريد أن يطعنَ في عِرْضه من خلالها، أو يشوِّه سمعته كخصم لدود، أحجم عن ذلك حتى لا يُؤثر الناسُ عنه كذبًا، وكان حينها على الكُفر ولم يؤمنْ بالله تعالى بعدُ!
وكان أحد أسباب بعثة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يتمِّم تلك المكارم ويربطها بالدِّين، ومعنى الإتمام هنا: الاستكمال والإصلاح لأمرٍ أصلُه موجود، لكن طرأ عليه بعضُ النقص، فكانتْ إحدى أضخم مهامِّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يكمِّل وينظِّم تلك الأخلاقَ ويرفعها إلى مقامِ الشعائر التعبديَّة التي يتقرَّب الناس إلى الله بها، ووعدَهم بالثواب العظيم عليها، وتوعَّد بالشرِّ المستطير لكلِّ مَن مارس مساوئ الأخلاق، إلى درجةِ أنَّه صحَّ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجَد غصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره، فشكَر الله له فغفَر له))، وفي رواية لمسلم: ((لقدْ رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعَها من ظهْر الطريق كانتْ تُؤذي الناس)).
• وقال: ((غُفِر لامرأةٍ مُومِسةٍ مرَّت بكلْب على رأس رَكِيٍّ (بئر) يَلْهث، قال: كاد يقتله العطشُ فنزعت خُفَّها فأوثقتْه بخمارها فنزعت له مِن الماء، فغُفِر لها بذلك)).
• وقال أيضًا: ((دخلتِ امرأةٌ النار في هِرَّة ربطتْها فلم تُطعمْها ولم تَدَعْها تأكُل مِن خشاش الأرض))، وحينما سألوه فقالوا: يا رسولَ الله، وإنَّ لنا في البهائم أجْرًا؟ فقال: ((نعم، في كلِّ ذات كبدٍ رطبة أَجْر)).
وكلها أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم.
هذا الأمر أوجد أرضيةً يمكن أن يتخاطب بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع قومه؛ حتى يوصلَ إليهم ما يريد، ويَحتمي بدعوته مِن بعض شرورهم، قبل أن يعتنقوا الدِّينَ الجديد، بل إنَّه أوجد بيئةً يمكن التعايشُ فيها بين المسلِم وغير المسلِم بما يأمَن كلُّ واحد على نفسه وعِرْضه، ويبلِّغ فيه دِينَه.
وبالمقارنة مع عصرِنا - وخاصَّة في بعض مجتمعاتنا العربية والمسلِمة - نرى أنه قد انعدم عند الكثير كِلا الأمرين، فلا دِين يلتزمون به فيرجعون إليه، ولا قِيم وأخلاق تحكُمهم، حتى يستطيعَ الناس التعايُشَ بالاعتماد عليها.
وقد أثْمرتْ تربية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه الكرام، وفهِموا عنه مقاصدَ ربِّهم، فأقاموا الدِّين الذي عماده التوحيد وإقامة الشعائر التعبديَّة، ثم القِيم الحميدة والأخلاق الإسلامية الحَسَنة، التي أكْملها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيهم، فلا غرابةَ أن يقول عمرُ - رضي الله عنه -: "واللهِ لو عثرتْ دابَّةٌ في العراق لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تمهِّدْ لها الطريقَ يا عمر"! ولا غرابة أن يموتَ جميعُ الجرحى في إحدى الغزوات وشربة ماء واحِدة تدور بينهم، بدأتْ مِن أولهم ورجعتْ إليه ثم إلى إخوانه مِن بعده، ولكن بعد أن فارَقوا جميعًا الحياة، وهم أحوجُ ما يكونون إليها لإنقاذِ حياتهم، لكن خُلُق الإيثار منَعَهم من ذلك، والصور المشرِقة مِن تاريخنا العريق كثيرةٌ ومتعدِّدة.
وبالمقابل، تأملتُ في المجتمعات الغربيَّة، فوجدتُ أنهم يتعايشون (فيما بينهم) بقواسمَ مشتركة من القِيم ومكارم الأخلاق، وهي ما يُطلقون عليها: "مبادئ حقوق الإنسان"، إلى درجة أنَّه لا يمكن تصوُّر أن يُهان منهم فرد في مجتمعهم أو خارجه وفيهم عينٌ تطرف، فتقوم الدنيا ولا تقعُد حتى يأخذوا الحقَّ له، صغيرًا كان أم كبيرًا، ذكرًا كان أم أنثى، ليس ذلك فحسبُ، وإنَّما ألحقوا بهم مَن يحمل جنسياتِهم مِن غيرهم!
وأخْبرني قريبٌ لي عاش زمنًا طويلاً في إحدى تلك البلدان - بل قد تواتَر لديَّ النقل في ذلك - أنَّ نظام تلك البلد يَقضي أنَّ لكلِّ فرد الحقَّ في الحياة الكريمة، وله الحق أن يأكُل ويشرب ويتعالَج ويعيش مكرمًا في بلده، على حسابِ حكومته، فإنْ كان من القادرين على العمل، دفَع ضرائب للحكومة؛ نسبةً معلومة مِن دخله، وإنْ كان عاطلاً، التزمتِ الحكومة بدفْع ما يكفيه مِن معاش حتى يدبِّر نفْسه بعمل، ولو قضى عمرَه كله على تلك الحال.
وأعجب مِن ذلك أنَّ تلك الدول ترعى أناسًا من غير جنسياتِهم، عاشوا فيها منذُ زمن عمالاً، ولما كَبِروا وعجزوا عن العطاء والعمَل، أُحيلوا على المعاش التقاعدي، وألحقوا بهم زوجاتِهم، فيدفعون لهم معاشاتٍ شهريةً بما يكفيهم، حتى يتوفَّاهم الله، وتأتيهم بتلقائية عجيبة، دون الحاجة إلى كثرة إلحاح أو مطالبة أو مماطلة، وهناك حالات (كثيرة) وقفتُ عليها بنفْسي.
نلاحظ أنَّه حتى لو لم يوجدْ دِين، فتوجد قِيم وأخلاق، على الأقل يستطيع الإنسانُ أن يعيش حرًّا كريمًا، لا يُهان ولا يُبخس حقه، فضلاً عن أن يُظلم أو تُؤخذ الحقوق التي هي أصلاً مِلْكٌ له، وقد استحقَّها، فضلاً عن أن يعتدى على حقه أو يُغتصب ملكُه، وأنا أتكلَّم عن ظواهر وقواعد عامَّة وقوانين نافِذة وسارية المفعول، تعيشها أممٌ وشعوب، ولا أتكلَّم عن حالة أو حالات فرديَّة أو جماعيَّة.
مع التحفُّظ الشديد على انعدام خُلق العَفاف وسياسات الدُّول الغربيَّة تُجاه المسلمين، فلديهم أزمةٌ أخلاقيَّة حقيقيَّة، وانحرافات خطيرة، لا سيَّما في سياساتهم الخارجيَّة، فإنها تُبنى على قاعدة المصالح، لكنِّي أعني الحديثَ عن سياساتهم الداخليَّة تجاه رَعاياهم، وكل مَن أقرُّوا له بحق الرعاية.
واليوم وفي هذه القرون، قد داهم أُمَّةَ الإسلام خطرٌ كبير وشرٌّ مستطير، وهو انهيار منظومة الأخلاق التي دعا لها دِينُنا الحنيف، وقرَّرتها الفِطر السليمة حتى في الأمم الكافِرة والشعوب الجاهليَّة، فظهر شرُّ ذلك على كلِّ المستويات، واستفحلتْ وتعمَّقت حتى صارتْ أزمةً حقيقية، تُعاني منها الأمَّة.
وفي تَقديري أنَّ هذا من أكبر المصايب والنكبات التي ابتُليت بها الأمَّة، وباب شر فُتح عليها، دخلتْ عليها منه سائرُ الشرور؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
وقد قرَّر فقهاؤنا - رحمهم الله تعالى - حقيقةً ذكَرها شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "إنَّ الله يُقيم الدولة العادلة وإنْ كانتْ كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإنْ كانت مسلِمة"، وقالوا: "الدُّنيا تدوم مع العَدل والكفر، ولا تدوم مع الظُّلم والإسلام".
إنها منظومةُ الأخلاق التي ذَكرتُ لكم عظيمَ أثرها في بقاء أو زوال الدُّول والأمم والشعوب.
تعريف الأخلاق:
أقصد بالأخلاق: القِيمَ أو المُثُل المحترَمة والمستقرة في الفِطر السليمة، التي فطر الله عليها الإنسان وكرَّمه بها، وقرَّرتها الشرائع السماوية، وهي التحلِّي بكلِّ الفضائل، وتجنُّب كلِّ الرذائل، وتنقسم قسمين:
الأخلاق الحَسَنة: وهي التي تجمع في محتواها شتَّى صنوف الفضائل من كريمِ الصِّفات وطيِّب الأفعال.
والأخلاق السيِّئة: وهي عكس الحَسَنة، وتجمع في محتواها شتَّى صنوف الرذائِل وقبيح الأفْعال.
ومِن أمثلة الأخلاق الحَسَنة: العدْل والصِّدق والكرم، والعفة والحياء، والتواضع والشجاعة، والإيثار والحِلم، والضمير والوفاء بالعهود والعقود.
وأضدادها بالترتيب؛ الظُّلم والكذب، والبخل والخِسَّة، والفجور والكبر، والجبن والأنانية، والغضب وانعدام الضمير، والغدْر ونقض المواثيق.
تعريف الأزمة الأخلاقية:
يُعرِّف بعضُهم الأزمة بأنها: "النقصُ الحاد في عامِل من العوامل، مما يُؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة، تهدِّد القِيم العُليا والأهداف السامية للمجتمع".
وعلى ذلك، فالأزمة الأخلاقيَّة معناها: نقصٌ حادٌّ في القِيم والأخلاق، على مستوى الدول والمجتمعات والأفراد، مما أدَّى إلى نتائجَ مدمِّرة تهدِّد القِيم العليا والأهداف السامية في المجتمَع.
الأسباب الكامنة وراءَ الأزمة الأخلاقيَّة:
قد يتساءَل قائل: لماذا ساءتْ أحوال المسلمين، واشتدَّتْ عليهم المِحن والابتلاءات؟ ولماذا أصبح المسلِمون هدفًا للأعداء؟
والجواب:
قد قرَّره النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما صحَّ عنه مِن حديث ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسولِ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُوشِك أن تداعَى عليكم الأُمم مِن كلِّ أُفق كما تَداعَى الأكَلَة على قصعتِها، قال: قلنا: يا رسولَ الله؟ أمِن قلَّة بنا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغُثاء السَّيْل ينتزع المهابَة مِن قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبِكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: حبُّ الحياة وكراهية الموت)).
أخرجه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط.
فنخلص مِن هذا الحديث بثلاث نتائج:
الأولى: أنَّحبَّ الدنيا وكراهية الموت هي سببٌ لكلِّ بلاء ومُصيبة وقعتْ في الأمَّة، وما أُصيبتْ بالذلِّ إلاَّ نتيجة للذنوب والمعاصي، ونتيجة لحبِّها للدنيا وكراهيتها الموت.
الثانية: تغلغُل وتجذُّر حبُّ الدنيا في النفوس نتج عنه غيابُ الأخلاق الحَسَنة بين الناس، وانتشار ظاهِرة الأخلاق السيِّئة، فغاب التراحُم والنجدةُ فيما بينهم، وظهَر الكِبر والاستعلاء على الناس، وفشَتْ فيهم صنوفٌ غريبة مِن سوء الأخلاق.
الثالثة:تولَّدتِ الأزمة الأخلاقية واستفحلَتْ؛ بسببِ عدم الخوف مِن الآخرة ونسيان الموت وما بعْدَه مِن عذاب القبْر أو ثوابه، ونسيان الحِساب والجنَّة والنار، فصار أكثرُ الناس لا يخافون الله ولا يستحيون منه، واستطاعوا أن يَخدَعوا الناس ويتلاعَبون بهم بكلِّ سُهولة؛ ممَّا شجَّعهم على ممارسةِ المزيد مِن أصناف الأخلاق السيِّئة، وهم يظنُّون أنهم يحقِّقون إنجازاتٍ كبيرة، يستحقُّون الاحترام والتقدير عليها، خاصَّة في ظل سكوت الصالحين، وتشجيع المنتفِعين.
وسبب الأسباب في ذلك: جهلُ الأمة بدِينها، الناشئ عن غيابِ أو تغييب دَور العلماء (بقصْد أو بغير قصْد) عن توجيه الأمَّة، فتسلَّط على قرارها ومقدَّراتها الجهلةُ، فلا هم أداروا شؤونَ الحياة بالمنهج الشرعي السليم الذي ارْتضاه الله تعالى للبشرية، ولا ساسوها على الأقلِّ بمنهج الفِطرة السويَّة في مراعاةِ الآداب المرعيَّة والأخلاق العامَّة، فضلُّوا وأضلوا.
بعض مظاهر الأزمة الأخلاقيَّة:
سأعرِّج على بعض المظاهر التي نعيشها جميعًا - كأمثلة - على مستوى تدنِّي الأخلاق في كافة مستويات المجتمع، إلى المستوى الذي يُمكِن اعتبار أنَّه أزمة حادَّة، ولا يَعني ذِكر هذه المظاهر أنَّه لا يوجد أناس يحملون القِيم والأخلاق الحميدة، فهُم لا يزالون موجودين في كلِّ مجتمع إلى قيام الساعة، لكن القصْد الكَثْرة والغَلَبة الغالبة من الأمَّة الذين وصفهم الله تعالى بأنَّهم (قوم)؛ أي: العدد الأكثر من المجتمع.
فمِن تلك المظاهر ما يلي:
مظهر1: انتشار ظاهرة الكذِب وغياب الصِّدق في الحديث إلاَّ عند القليل ممَّن رحِم الله، وقليل ما هم:
أصبح كثيرٌ من الناس يزيِّنون الكذب، ويلوّنونه، تارةً بالأبيض والأسود، وهو كله كذِب في كذب، أو خِداع في خداع، يُبغِضه الله ولا يحبُّه، والله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، والرسولُ - يقول عن المنافق: ((آية المنافِق ثلاث... وذكر منها: وإذا حدَّث كذَب))، والحديث متَّفق على صحَّته بين البخاري ومسلم مِن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
والعجيب أنَّنا جميعًا - إلا من رحِم الله - نتساهل في هذا الأمر، خاصَّة في المزاح، وقد عَلِمنا أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يمزح، لكنَّه كان لا يقول إلا حقًّا؛ بمعنى أنَّه لم يكن يكذب قطُّ حتى ولو كان مازحًا، ووعد بالجنة مَن ترَك الكذب ولو كان مازحًا، فهل سنُطيعه في ذلك، وأين بَني قومِنا من هذا السلوك القويم؟!
مظهر 2: غياب الوفاء بالوعود والعهود، وقلَّة الوفاء بالمواثيق والعقود:
وظهور ما يُسمَّى باللف والدوران، وبعضهم يُسمِّيه: (شطارة) وذكاءً، وهو في الحقيقة حرامٌ من محرمات الله، ويُبغضه الله ولا يحبه.
والله تعالى يقول: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54]، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، ويقول: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 34]، ويقول: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36].
ويقولُ الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((آيَةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَف، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ))؛ رواه البخاري ومسلم، وفي زيادة عندِهما: ((وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا خاصَم فَجَر)).
مظهر 3: انتشار ظاهرة خيانة الأمانة في الأموال والأعراض:
فتجد كثيرًا من الناس لا تأمنه على شيء، لا مال ولا عِرْض، ولا حتى تأمنه على الكلام والأسرار، وبعضُهم يعطيك من طرَف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ.
والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في الحديث السابق: ((آية المنافِق ثلاث... وذكر منها: وإذا اؤتُمِن خان))، ويقول: ((وأعوذ بك مِن الخيانة؛ فإنَّها بئستِ البطانة))؛ صححه الألباني، ويقول: ((المكرُ والخديعةُ والخيانةُ في النار))؛ حسنه الألباني.
مظهر 4: الغش في البيع والشراء، وظهور الاحتكار ورفْع الأسعار، بقصْد المشقَّة، وكثرة التربُّح على حساب المسلمين:
والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((الراحمون يرْحمهم الرحمن - تبارَك وتعالى - ارْحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء))؛ حديث صحيح، ويقول: ((مَن غشَّنَا فليس منَّا))، صحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط.
ويدخل في معنى الغش - وهو مِن أخطره -: غشُّ الطلاَّب في الامتحانات؛ مِن أجْل النَّجاح الكاذب لنيل المستويات العلميَّة الزائفة، والحصول على الشهادات المزوَّرة.
وأكبر مِن ذلك حينما يُسهِم المعلم والمربِّي، وربما مدير المدرسة، في (تغشيش) الطلاَّب؛ رحمةً بهم (زعموا)، وأحيانًا يكون بمقابل مالي يدفعُه الطلاب.
فماذا يُريد هؤلاء؟ هل هذه تربيةٌ للطلاَّب على الفضيلة أم على الرذيلة؟ إنَّنا بذلك نخادِع أنفسَنا، ونغش دِيننا ووطنَنا، ونخادِع أجيالنا، ونحسب أنَّنا مهتدون! والأمْر يتخذ بُعدًا أكثر خطورة حينما تمارس المؤسِّسات التربويَّة في المجتمع هذا النوعَ مِن التربية، فأحسن الله عزاءَ هذه الأمَّة المقهورة.
مظهر 5: انتشار عقوق الآباء والأمهات:
كثيرٌ من الناس فرَّطوا في هذا الجانب إلى درجة كبيرة، حتى سمعتُ أنَّ بعض الناس لا يزور والديه إلاَّ كل شهر أو أسبوع، زيارةً عابرة، وبعضهم يسبُّ أباه وأمَّه، وبعضهم يضربهما - والعياذ بالله!
والله تعالى يقول: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23 - 24]، فمِن أين تأتي رحمةُ الله إذا لم نرحمِ الأبوين، خاصَّة عند الكبر؟!
ومِن الناس مَن يُسلِّط زوجته عليهما، أو يسكُت عن أخطائها تُجاههما، أو يُطيعها ويلبِّي طلباتها أكثرَ مِن والديه، وبعضهم يتلطَّف معها ويتودَّد لها ويحفظ عهدَها وودَّها وودَّ أهلها، مِن العم والعمَّة وحاشيتهما أكثرَ ممَّا يعمل مع أبويه، ونعوذ بالله مِن الخذلان، وانعكاسِ الإفهام، وفسادِ الموازين.
مظهر 6: انتشار ظاهرة قطيعة الأرحام، وهجران العمَّات والأعمام، والإخوة والأخوات، وسائر الأهل والأقارب والأرحام:
حتى ظهَر مَثَل عند الناس يقول: (احذر مِن الأقارب فإنَّهم عقارب)؛ أيَّ عقارب تعْنون وتقصدون؟ والله تعالى يقول: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [الإسراء: 26]، ويقول تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ﴾ [النساء: 36]؟!
مظهر 7: انتشار الحسَد والحِقد والغِل بيْن المسلمين:
فلا تكاد تجد أحدًا يفرح لنِعمة أخيه ويبارك له مِن قلْبه، بل تجد أكثرَهم يبارك بلسانه، وقلبُه مليءٌ بالغيظ على نِعمة الله التي أنعمها على عبده.
وبعضُهم وهم كثير - لا كثَّرهم الله - يتمنَّى زوال النِّعمة عن إخوانه، والله تعالى يقول: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 1 - 2] إلى آخر السورة، والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ولا يجتمعان في قلْبِ عبدٍ الإيمانُ والحسد))؛ حسنه الألباني.
مظهر 8: انتشار ظاهرة أكْل أموال الناس بالباطل:
عن طريق الرِّشوة واغتِصاب الحقوق، والسطو على أموال المساكين والأيتام والضعفاء، ربَّما عن طريق السَّرِقة أو الاحتيال، أو باتباع كلِّ وسيلة حرام تؤدِّي إلى ذلك.
والله تعالى يقول: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، ويقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كلُّ جسَدٍ نبَت مِن سُحت فالنار أوْلى به))؛ صحَّحه شعيب الأرناؤوط.
مظهر 9: انتشار ظاهرة شهادة الزُّور:
وأسْهل شيء اليوم الشهادة الكاذبة، إمَّا لصالِح شخص أو ضدَّ شخص، وهو أمرٌ خطير؛ نظرًا لأثره البالِغ في انتهاك الحقوق والحُرمات.
والله تعالى يقول: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]، ويقول: ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ألا أنبِّئكم بأكبرِ الكبائر - ثلاثًا - قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: الإشراكُ بالله وعقوق الوالدين، وجَلَس وكان متكئًا، فقال: ألاَ وقول الزور، وما زال يُكرِّرها حتى قالوا: ليتَه سكت))؛ قال الشيخ الألباني: صحيح.
مظهر 9: الحلف بالأيمان الكاذِبة لإحقاق باطلٍ أو إبطال حق:
وأحيانًا يتمُّ الحلف بالطلاق زورًا وبهتانًا، وما أكثرَ الذين يحلفون بالحرام والطَّلاق، وأقلُّ شيء فيه كفَّارة يمين، عن كلِّ مرَّة حلَف فيها.
والله تعالى يقول: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89]، ويقول تعالى: ﴿ وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 224]، وقد ذكَر بعض أهل التفسير أنَّ معناها: تجنيب اسم الله كلَّ شيء حتى لا يتعرَّض للمهانة.
ويقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ [التحريم: 1]، والرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مِن الكبائر: الإشراكُ بالله، وعقوق الوالدَين، وقتْل النفس، واليمين الغموس)).
ويقول: ((وما حلَف حالفٌ بالله يمين صبْر، فأدْخل فيها مِثل جناح البَعوضة إلاَّ جعلتْ نكتة في قلْبه إلى يوم القيامة))؛ حديث حسن.
واليمين الغموس: هو الذي يقتطع به الرجلُ أموالَ الناس بالباطِل، وسمِّي غموسًا؛ لأنَّه يغمس صاحبه في النار إلا أن يتوبَ توبةً صحيحةً بشروطها المعروفة.
مظهر 10: التهاون بالصلاة: والتهاون بأمْر الله ونهيه:
فترَى المساجد خاويةً على عروشها، خاصَّة صلاة الفجْر، والناس إمَّا في نوم أو لهو أو غفْلة، والمنادي يُنادي: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وكأنَّ المقصود أناس مِن كوكب آخر، ولسنا نحن - معاشرَ المسلمين.
والله تعالى يُحذِّرنا من ذلك ويقول: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [الأعراف: 50 - 51]، ويقول تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238].
ويقول الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أثْقَل الصلاة على المنافقين العِشاء والصبح))؛ حديث صحيح.
لكن، ما عَلاقة الصلاة بالأخلاق الحَسَنة؟
إنَّ للصلاة تأثيرًا كبيرًا في حياة المسلم، مِن حيث إنَّه إذا حافظ على الصلاة في أوقاتها ومع جماعة المسلمين، يتهيَّأ له المناخ الملائم؛ ليكون دائمَ التذكُّر لقُدرة الله وعظمته، فينمو خوفُ الله في قلْبه، ويعظُم حياؤه مِن الله، ويَكفي في ترسيخِ هذا المعنى قول الله تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
مظهر 11: غياب خُلُق التراحُم بين المسلمين:
فترَى الزعماءَ لا يرحمون شعوبهم، وأكثر الرِّجال لا يرْحمون نِساءَهم ولا أبناءَهم، والمديرون وأصحاب الأعمال لا يَرْحمون عمَّالَهم وموظَّفيهم، والأطبَّاء اليوم لا يرْحمون مرضاهم، والمدرِّسون اليوم لا يَرحمون طلاَّبَهم، والجيران لا يَرحمون جيرانهم، والتجار لا يرحمون زبائِنَهم وعملاءَهم، والموظَّفون لا يرحمون مراجعيهم فيعقدون قضاياهم ومعاملاتهم، إلا مَن رحِم الله، وقليل ما هم.
والسبب في كلِّ ذلك: أنَّه قد اهتزَّ في القلوب خُلُق عظيم؛ إنَّه خُلق الرحمة، والله تعالى يقول: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم، مَثَل الجسدِ إذا اشْتكى منه عضو تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمَّى))، ويقول: ((مَن لا يرْحم الناس لا يَرْحَمه الله))؛ حديث صحيح.
فمن أين تأتي لنا الرحمةُ ونحن بأيدينا نُغلِق أبوابها، ونمنع نزولها؟! وإنما كانت رحمة الله مشروطة بالتراحُم بيْن عباده.
مظهر 12: عدم توقير الصِّغار للكِبار، وعدم عطْف الكِبار على الصِّغار:
فتجد سوءَ الأدب مِن الأطفال على كِبار السن، تقابلها سوءُ معاملة وقَسْوة مِن الكبار، سبحان الله حتى لاحظتُ أنَّ الأب الرَّحيم والأم الحنون، وحتى المدرِّس في مدرسته، والمعلِّم في حلقته، في أغلب معاملتهم للأبناء، تخلَّوا عن العطف والحنان، بل تجد الغالب الأعم هو: القَسوة والغِلظة، وشتَّى أنواع الإهانات والشتائم، وكل ذلك تحت شعار: (تربية الأبناء)، حتى ظهَر لنا جيلٌ فاقد المشاعِر، ضعيف المسؤولية، قليل التمسُّك بأصولِ التعامل الأخلاقي ومبادئه، وما ذاك إلا نتيجة حتمية لما يَغرِسه المربُّون في أجيال الأمَّة المقهورة.
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن لم يرحمْ صغيرَنا، ويعرِف حقَّ كبيرنا، فليس منَّا)).
ويقول: ((مَن لا يَرْحم لا يُرحَم، ومَن لا يَغفر لا يُغفر له))؛ حديث صحيح.
مظهر 13: الكِبر والغرور:
فالكِبر بلاءٌ وشر، والتواضُع نِعمة وخير، وهو خُلُق الأنبياء والصالحين، والتكبُّر يؤدِّي إلى الافتخار بالنفْس الأمَّارة بالسوء واحتقار الآخَرين، والكِبر يُغضِب الله؛ لأنَّه هو وحْده الكبير المتكبِّر - سبحانه وتعالى - ولم يأذنْ لأحدٍ مِن عباده بالتكبُّر على عباده بالباطل.
قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ [الإسراء: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول عن ربِّ العزة والجلال: ((العِزُّ إزاري، والكبرياء رِدائي، فمَن نازَعَني فيهما عذَّبْتُه))؛ صحَّحه الألباني، ويقول: ((لا يدخُل الجَنَّة مَن كان في قلْبه مثقال ذرَّة مِن كِبر))؛ صحيح ابن حبَّان للأرناؤوط.
مظهر 14: عدم مراعاة مشاعِر الآخَرين، وعدم الاهتمام بحقوقِ الإنسان، فضلاً عن حقوق المسلِم المؤمن:
ومِن نتائج ذلك الاستهانةُ بالآخرين، واستِصغار الآخَرين، وصعوبة الاعتراف بحقوق الآخَرين، مهما كانوا على الحقِّ وكنت على خِلافهم.
بعض الناس يرَى لنفسه الحقَّ والأولوية في كلِّ شيء حتَّى في الطريق أو في طابور الخُبز والخضروات، فلا يحبُّ أن يكون مِثلَ عباد الله المسلمين، وإذا ناقَشه أحد أهانه وجرَح مشاعره كبرًا وعلوًّا، والله المستعان.
فتراه يمارس الإقصائيَّة وعدم الاعتراف بالآخَرين، ويمجِّد نفْسه وأهله وأولاده وكلَّ شيء يُنسب إليه، وبالمقابل يحتقِر الآخرين وكلَّ ما يملكون، وحتى ما يقولون أو يفكِّرون.
والله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، ويقول تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53].
ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيارُكم أحاسنُكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، وشراركم الثرثارون المتفيهِقون المتشدِّقون))، قالوا: يا رسولُ الله، ما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبِّرون))؛ صححه الألباني.
وبعد: فما هو المخرَج من هذه الأزمة المطبقة؟
المخرَج موضَّح في كتاب الله تعالى، وفي سُنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ملخَّصه في ثلاثة نصوص: آيتين وحديث:
1- قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، فإنْ غيَّروا أنفسهم نحوَ الخير، غيَّر الله حالهم نحوَ الخير، وإن غيَّروا أنفسهم نحو الشرِّ غيَّر الله حالهم نحو الشر.
إذًا: الأمر بأيدينا، بأيدي الشعوب، بأيدِي الحكَّام والمحكومين، إذا أردْنا أن يغيِّر الله حالنا إلى أحسن حال علينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا إلى ما يُرضي الله، ونغيِّر أبناءَنا إلى ما يُرضي الله، ونشيع الأخلاقَ الحَسَنة بيننا وفي أُسَرنا وأعمالنا، ومدارسنا وجامعاتنا، حتى يغيِّر الله حالَنا إلى أحسنِ حال، ولا بدَّ مِن ابتكار كل الوسائل وسلوك كلِّ سبيل يؤدِّي إلى تغيير الأخلاق السقيمة إلى أخلاقٍ سليمة، ومهما كانتِ الخسائر، فإنَّ المكاسب والفوائد لا تُقارن بثمن.
2- قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
إذًا ما أصابنا وأصاب العالَم مِن خير فمِن الله، وما أصابنا مِن سوء فبما كسبتْ أيدي الناس، وبسببِ بُعدهم عن تعاليم خالِقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى - هو يُريد لهم الخير، وهم يُريدون لأنفسهم الشرَّ.
3- قول الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احفظِ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تُجاهَك))؛ حديث صحيح.
إنَّه وعْد من الله تعالى على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والله لا يُخلف الميعاد، فإذا حافظ الفردُ على أوامر الله ونواهيه، وحافظتِ الأسرة على أوامرِ الله ونواهيه، وحافظ أهلُ المسجد على ذلك، وحافظتِ المدرسة على ذلك، وحافَظ أفرادُ المجتمع، وموظَّفو الدولة، والمسؤولون، والحكَّام والمحكومون، إذا حافَظ الجميع على أوامر الله، حَفِظهم الله تعالى مِن بين أيديهم ومِن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وإنْ ضيَّعوا الله تعالى وضيَّعوا حدودَه ضيَّعَهم الله كما ضيَّعوا أوامرَه ونواهيَه، ونسيهم كما نسُوا أمرَه ونهيَه، جزاء وفاقًا، وسيعلم الذين ظلَموا أيَّ منقلب يَنقلبون.
والله المستعان، وعليه وحده التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|