09-23-2022, 04:19 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 349,423
|
|
لمحات من سيرة العلامة اللغوي محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى
لمحات من سيرة العلامة اللغوي محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى
مرشد الحيالي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على خاتم رسله، وصفوة خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه ترجمة العلامة اللغوي، النحوي، محمود شكري الآلوسي رحمه الله، وحيد دهره، وفريد عصره، نادرة المثال في مصره، جامع الفضائل في شخصه، مشيت فيها على مسلك الأثري رحمه الله في ترجمته له في أعلام العراق، إلا إني أخرت ما حقه التأخير، وفصلت فيما يحتاج فيه إلى التفصيل، واقتبست كثيرًا من عباراته، ومعاني من مشكاته، وهي أقرب إلى مختصر مستل من موارده، وفيه فوائد وفرائد اقتبستها من علم التاريخ ومصادره، وبالله التوفيق.
مولده ونشأته:
ولد العلامة محمود شكري الآلوسي رحمه الله [1] في التاسع عشر من رمضان عام 1273 في بغداد جانب الرصافة، وفي بيت من بيوت العلم والأدب والمعرفة، وتيمنًا بمعالي الأمور سماه والده [2] (بأبي المعالي) جريًا على العادة المألوفة بين العلماء قديمًا في تكنيه الأبناء ليكونوا أهلًا لتحمل المسؤولية، والاستعداد للرقي في سلم المعارف، حتى نُسيتْ تلك العادة الحسنة، وحل محلها التشبه بعادات اليهود والنصارى، والله المستعان.
دراسته وتحصيله للعلوم:
جرت العادة في المدارس البغدادية أن يبتدئ الطالب الناشئ بعد حفظ كتاب الله، وإتقان تجويده وألفاظه، بتعلم الخط والكتابة في ما يسمى ب(الكتاتيب) التي يتولاها أساتذة مختصون، ثم دراسة النحو والصرف، وفنون العلم الأخرى كالفقه، والتفسير وعلومه على منهج القدماء[3]، والتي تضمنت دراسة كتب الحواشي على المتون في الفنون المختلفة، وقد كان والده الساعد الأيمن في تقريب عويص تلك الشروح والحواشي حتى برع بحفظها وإتقانها، وهي وإن كانت - الحواشي - مشوشة للعقول، وبعيدة عن هدي القرآن والسنة، لكنها كانت كافية لجعل الآلوسي رحمه الله ملمًّا بشكل تام بالعلوم والفنون العقلية والشرعية، يضاف إلى ما وهبه الله من رجاحة العقل، وفهم ثاقب، وبصر نافذ.
شيوخه الذين تلقى عنهم العلم:
تلقى جلَّ العلوم اللسانية والشرعية عن أبيه العلامة عبدالله الآلوسي رحمه الله، وورث منه الأخلاق الفاضلة الكاملة من أدب وفقه وعلم، وتواضع، لكنه ما لبث أن توفي والده وهو لا يزال محتاجًا إلى مزيد من العلم، والأخذ عنه، فكفله عمه العلامة وارث علوم السلف نعمان الآلوسي رحمه الله فرباه وعلمه، وصاغ تفكيره، وحبَّب إليه علم القرآن والسنة، غير أن التعصب والتقليد الذي استقاه من كتب الحواشي المشوشة جعلته ينصرف ويعرض في مقتبل العمر عن عمه نعمان الآلوسي إلى مشايخ التقليد والتعصب بهمة الطالب الذي لا يمل ولا يكسل، فأخذ يرتاد المساجد إلى علماء بغداد، ومن أبرز هؤلاء الشيخ إسماعيل بن مصطفى رحمه الله[4] الذي كان مدرسًا في جامع الصاغة ببغداد، فورث عنه جل العلوم وأغلب الفنون، وبرع فيها، وخاصة علم الجدل والمناظرة، وحاز قصب السبق حتى فاق الأقران، يقول الآلوسي رحمه الله عن نفسه متحدثًا بنعمة الله عليه: (وفارقت أخداني وأقراني، وانزويت عن كل أحد، فأكملت قسمًا عظيمًا من الكتب المهمة في المنقول والمعقول، والفروع والأصول، وحفظت غالب متون ما قرأته من الكتب المفصلة والمختصرة، وأدركت ما لم يدركه غيري، ولله الحمد[5]).
تصدره للتدريس:
واصل الفتى المجدُّ الدرس والمتابعة، والبحث والقراءة، وخاصة كتب الأدب والتاريخ، والشعر والسيرة، مما جعلته أهلًا لأنْ يتصدر المجالس، بل ويباشر بالتأليف وهو في سن العشرين [6]، ويشارك الكبار في التدريس والتعليم، فدرس في جامع عادلة خاتون، وعين مدرسًا في جامع الحيدر خانة، ومن ثم جامع علي سلطان[7]، وأخيرًا في جامع مرجان، وذلك بعد وفاة العلامة علي علاء الدين الآلوسي[8]، فلم يجدوا بعد العلامة علاء الدين من يحل مكانه إلا محمود شكري رحمه الله.
نبوغه واشتهار صيته:
في أوائل القرن الرابع للهجرة اقترحت لجنة اللغات الشرقية بدعوة من ملك النرويج على العلماء والباحثين آنذاك بتأليف كتاب يتناول أحوال العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ونسب من اشتهر من قبائلهم، وأخلاقهم وعوائدهم في الأكل والزواج، والعلوم والصنائع، وما جرى بينهم من حروب ومطاحن، إلى غير ذلك من المباحث، فانبرى العلماء والأدباء، والمؤرخون والمشاهير منهم إلى تقديم عروضهم، وعرض الآلوسي كتابه الشهير (بلوغ الأرب في أحوال العرب)[9]، فأجمعت اللجنة بعد النقاش والحوار أن أجمع المؤلَّفات، وأوسعها علمًا، وأغزرها فائدة، وأقربها للواقع هي ما كتبه الآلوسي رحمه الله في كتابه الموسوم ببلوغ الأرب، وفاز بجائزة الوسام الذهبي، وبعد نشر الكتاب في الآفاق حبرت الصحف والمجلات، والكتب فضل الكتاب، واشتهر الآلوسي فضله في الآفاق، وعُرف بين العام والخاص، وكانت بداية انطلاقه للاتصال بمثقفي العالم الإسلامي وغيرهم من مستشرقين عرب وأجانب[10].
التحرر من ربقة التقليد:
أصيب الآلوسي بما أصيب به علماء الزمان - إلا من عصمه الله - من التقليد والجمود على كتب ألِّفت في غير زمانهم، ودوِّنت في غير أيامهم - أيام ركود العلم -، ينظرون إليها بعين الإجلال والاحترام بل والتقديس أحيانًا، ولا يخرجون عنها قِيدَ أنملة، استمر الآلوسي رحمه الله على هذا النهج والمنوال إلى حين أن تجاوز من العمر الثلاثين، فلاح له بريق، وأبصر عن بعيد علمًا، وانقدح في نفسه إلهام صادق، وذلك من خلال خزانة عمه العلامة نعمان الآلوسي رحمه الله، والتي تحوي ذخائر علم السلف، فرأى فيها ضالته المنشودة، وأمله الذي يتمناه، فكسر قيد التقليد، وتخلص من الجمود العنيد، فأكب على قراءتها، والتمعن فيها وتدبرها، فوجد أنها تخرج من مشكاة النبوة، غير أنه لم يجاهر بآرائه، ولم يفصح عن أقواله، ربما لأنه لم يجد أعوانًا وأنصارًا، وتخفَّى تحت ستار المجاملة برهة من الزمن، ومن الأدلة على ذلك تأليفه كتاب (الأسرار الإلهية شرح قصيدة الرفاعية)[11]، حيث قدَّمه إلى الوالي عبدالحميد، والكتاب شرح فيه منظومة أبي الهدى الصيادي الرفاعي، وعلى الرغم مما حوته الرسالة من إثبات خرافات الصوفية وجهالتهم؛ مثل قصة الرفاعي وتقبيله ليد الرسول المعظم في موسم الحج، إلا أنها حوت مسائل وفرائد في اللغة والأدب والشعر، وكل مؤلفاته رحمه الله لا تخلو من الفائدة، وقد طبعت الرسالة بمصر سنة 1305، وتقع في 45 صفحة، وتكلمت عليها في بحث (جولة حول مؤلفات الآلوسي رحمه الله).
الجهر بالحق:
حتى إذا عُرف فضله بين الأقران، وطار صيته في الزمان، وقوي ساعده بين الخلان، خلع ما كان يستتر به من المجاملة، وهتف بمنابذة أهل البدع، ومقارعة أهل الخرافات، وشن غارات متتالية بالقلم والبنان، وأحدث انقلابًا في عالم الفكر لا تزال آثاره ظاهرة، وثماره يانعة من تلاميذ نجباء، بررة أتقياء، ومؤلفات بديعة، وبحوث متينة [12].
ولما طار صيته، واشتهر علمه، لم يرُقْ ذلك لأصحاب التعصب المقيت، فصاروا يشنعون عليه، ويحذرون منه، بل ويتربصون به الدوائر، ويكيدون له، ولولا معية الله وحفظه، ثم صدقه وإخلاصه، لوقع في مصايدهم وكيدهم، فقد سعوا إلى عبدالوهاب باشا والي بغداد، فكتب على الفور إلى السلطان عبدالحميد بأمره، فنفي هو وابن عمه السيد مثبت بن السيد نعمان الآلوسي وآخرون، وما كاد يصل إلى موصل الحدباء حتى قام أعيان البلد ممن يعرفون فضل الآلوسيين، فأقنعوا السلطان بالعفو [13]، وأعيد مكرمًا معززًا، رغم كيد الحساد إلى بغداد المحروسة.
الآلوسي وبعده عن السياسة:
كان رحمه الله ميالًا للعزلة، مشغولًا بالبحث والقراءة، فلم يكن يرغب في معاشرة الأمراء مع حرصهم على كسب وده، ومنهم والي بغداد سري باشا [14]، حيث كان صاحب أدب وعلم وحوار، فكان يحاور الآلوسي رحمه الله، ويتصل به علميًّا لا سياسيًّا، وقد أعجب الوالي سري بالعلامة الآلوسي رحمه الله، ووضع ثقته به، حتى إنه أناط به إنشاء أول جريدة تسمى بالزوراء، والتي كان إصدارها ما بين عام 1286 إلى 1335، فحبر بها الآلوسي رحمه الله ما شاء من مقالات أدبية، ولغوية وعلمية [15]، وكانت خير معبر عن آرائه وأفكاره.
توفي سري باشا وجاء بعده جمال بك[16]، فكان يشاور الآلوسي فيما يخص بسياسية البلاد، ويستأنس بآرائه، وعرض عليه منصب عضو مجلس الإدارة فاعتذر الآلوسي؛ لأن ذلك مما يعوق مسلكه العلمي، ويبعده عن أجوائه، لكنه قَبِلَه بعد إلحاح، فكان بحق نصيرًا لكل مظلوم، ومعينًا لكل ضعيف، ومنصفًا في حكمه وقوله.
اندلاع الحرب العالمية واحتلال بغداد:
أعلنت الدولة العثمانية بعد اندلاع الحرب العالمية مناصبة العداء للحلفاء، وسيرت بريطانيا جيشًا إلى بغداد [17]، وانتزعت البصرة ثم الفاو حتى دخلت شوارع بغداد تجول بدباباتها وخيولها، فاضطربت الدولة العثمانية، وحاولت الاستنجاد بما حولها من الدول العربية، وخاصة نجد، فلم تجد أكفأ من العلامة الآلوسي رحمه الله لهذه المهمة السياسية، فانتدبته سفيرًا لها إلى الأمير عبدالعزيز آل سعود، فقَبِلَها وهو لها كاره، وصحب معه جملة من خيار أعيان البلد، منهم العلامة علي علاء الدين الآلوسي رحمه الله، فشد الرحال إلى بلاد نجد عام 1333، وكان الترحيب به لدى الأمير لا يوصف، وبعد مشاورات وحوارات أبدى الأمير أسفه عن النجدة، وتعذر بمعاذير وحجج على عدم موافقته لنجدة الدولة العراقية، وتركت بغداد فريسة للاحتلال، فوجد الآلوسي رحمه الله بعد أن أكمل المهمة على أكمل وجه فرصة سانحة للاجتماع بأكابر العلماء، فاستفاد واستفادوا منه علمًا جمًّا، وتوطدت العلاقات بينه وبين علماء نجد، وأثمرت بعد ذلك برسائل ومؤلفات ذكرتها في بحث (مراسلات الآلوسي رحمه الله مع معاصريه)[18].
عودة إلى التأليف والتصنيف:
عاد الآلوسي رحمه الله بعد جولته من نجد، ووصل إلى الشام[19]، لكنه وجد أمامه عقبة أخرى، حيث انبرى له بعض الحاقدين وأغرَوا به جمال السفاح، وحسَّنوا له إيقاع العقوبة به لكونه - على زعمهم - هو من حسَّن لصاحب نجد التقاعس عن نصرة الدولة العثمانية، لكن جمال السفاح ردهم ولم يُبالِ بهم؛ لما يعلم عن الآلوسي رحمه الله من صدق لهجة، وإخلاص لبلده، ولما كان يكنُّه له من مودة وحب، فعاد إلى بغداد واستقر بها، واتجه نحو التأليف والتصنيف والمراسلة، وجمع المخطوطات والبحث عنها.
تاريخ الآلوسيين في مقارعة الاحتلال:
عُرف الآلوسيون بالغيرة على الدين والوطن، وعدم قبول المهانة والذلة ولو كان ببذل المهج والنفوس، ومن الأدلة على ذلك ما قام به العلامة الآلوسي رحمه الله عند احتلال بغداد وسقوطها بيد الإنكليز عام 1335، حيث قام بالتنديد بالاحتلال، والتحريض على مقاومتهم بحسب الإمكان[20]، وعدم قبول شيء من مناصبهم وأموالهم، فقد عرضوا عليه منصب قضاء بغداد فأبى، بل وانقبض من مخالطتهم، وفي أيام تشكيل الحكومة عرض عليه أيضًا منصب الإفتاء، ثم رئاسة التمييز الشرعي، ثم القضاء ثم المشيخة، فرفض كل ذلك بنفس أبيَّة، وأبى إلا أن يخدم العلم، وآثر العزلة، لكنه قَبِلَ عضوية المعارف ليتمكن من توسيع نطاق العلم بين أهله، وقبل عضوية المجمع العلمي العربي اللغوي بدمشق[21]، وقد حبر في مجلة المجمع شتى الرسائل والمباحث النافعة اللغوية والأدبية، ونشرها من بعده تلميذه البار محمد بهجة الأثري رحمه الله.
أخلاقه ومزاياه وفضائله:
عُرف الآلوسي رحمه الله بجملة صفات وأخلاق، تربى عليها ونشأ عليها حتى أصبحت له سجية، وطبيعة ثانية، ومن أبرز تلك الصافات والأخلاق ما يلي:
1- التواضع والحياء: فهو ميال إلى مجالسة الفقراء والمساكين، بعيد كل البعد عن مخالطة أهل الترف والمنصب، ومن تواضعه أنه كان لا يتكلف في أكله أو شربه، ويقول ما أثر عنه: (إنني أقنع بما في يدي يقع)[22]
2- يكره التزلف والنفاق:
فقد كان رحمه الله لا يغشى أبواب الحكام، بل يهرُب من مجالستهم، ويحب من يتخلق بذلك، ويجتنب الشبهات، ويتقي المحارم، وقد حاول كثير من الأمراء والحكام كسب ودِّه، والتقرب إلى مرضاته، فأعرض عنهم وأهملهم، وعرضوا عليه مناصب عدة، فكان يزهد عنها بنفس راضية قانعة بالقليل، ولما سئل عن سبب ذلك، قال: (إنهم لا يريدون باستمالتي إليهم إلا ترويج سياساتهم على العوام؛ لما يعلمون من ثقتهم بالعلماء وتعلقهم بقادة الدين، ويأبى الله لي أن أبيع ديني بدنياي، وأخدع أمتي ووطني!!)[23].
والحديث عن زهده وورعه يطول، وحسبنا أن نذكر في هذه العجالة ما ذكره الأب أنستاس ماري الكرملي حيث قال: (كان الآلوسي وصل إلى حالة قاصية من الحاجة إلى المال في عهد الاحتلال، فلما عرف ذلك المعتمد السامي برسي كوكس أهداه ثلاثمائة دينار ذهبًا إنكليزيًّا، وكلفني بتقديمها إليه، فلما أتيته بها، رفض قبولها بتاتًا، وقال: خير لي أن أموت جوعًا من أن آخذ مالًا لم أتعب في كسبه، فألححت عليه إلحاحًا مملًّا مزعجًا، فأبى، وقال: لا تكثر؛ لئلا أطردك من بيتي طردًا لا عودة إليه)، ثم يتابع فيقول: (إلا أن فاقته كانت وقرًا على محبيه، وطلب إليَّ بعض الأصدقاء أن أجد له منصبًا يُثري منه، فتكلمت مع أولي الأمر، وتمكنت من أن يعين قاضي قضاة المسلمين في العراق، فلما وقف على تنصيبه، أبى، وقال لي: إن هذا المقام يستلزم علمًا زاخرًا، وذمةً لا غبار عليها، ووقوفًا تامًّا على الفقه، وأنا لا أشعر بذلك، ووجداني يحكم عليَّ بأني غيرُ متصف بالصفات المطلوبة لمن يكون قاضي قضاة المسلمين)[24].
3- أما طبعه فقد كان حاد المزاج، شديد الغضب، عظيم التصلب في عاداته، لا يكاد يصبر على صحبته إلا من عاشره وعرف طبعه، أو من كان قريبًا من مزاجه.
أما أخلاقه العلمية، فمنها:
1- كان حريصًا على وقته، جلدًا في البحث والنسخ، والتصنيف، وكل من تتلمذ على يديه يعرف أنه لا يضيع من وقته شيئًا، ولا يكاد يؤجل عملًا إلى وقت آخر، وكان إذا استحسن شيئًا طالعه أو قرأه، ولو مرات مثل كتاب (لسان العرب) لابن منظور، فقد درسه وتمعن فيه ثلاث مرات من أوله إلى منتهاه[25].
2- واسع الاطلاع، غزير المادة، إمامًا في معرفة المقالات العائدة لأصحاب الملل والنحل، عرف ذلك من طالع كتبه، وقرأ مؤلفاته، خاصة فيما يتعلق بالنقل عن أهل اللغة، والشعر والبيان، ومن أبرز كتبه (المسفر عن الميسر)، حيث أكثر فيها النقل عن أئمة اللغة، وتعددت فيها المصادر[26].
3- ومن حيث الدليل كان الآلوسي رحمه الله سلفيًّا أثريًّا، يأخذ بالدليل حيثما لاح له، وبان وجهه، لا يبالي إذا ظهر أيما كان المخالف، فقد كان صريحًا لا يعرف المحاباة، ومن أمثلة مؤلفاته في هذا الجانب التي كشف فيها عن زيف أهل الباطل بالدليل والبرهان كتاب: (الآية الكبرى في الرد على النبهاني في رائيته الصغرى)[27]، ومع تمسكه بالدليل واتباعه للسنة فهو يزن بميزان الشرع والعدل والإنصاف، ويعطي لكل ذي حق حقَّه ولا يخس لأحد علمه، ولا يحط من قدر أحد خاصة أهل العلم من المتقدمين، ممن عرف عنهم الصدق واتباع الدليل، ومن أمثلة مؤلفاته في ذلك كتابه الشهير: (تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان)، فقد وضع فيه قواعد وأصول في الدفاع عن أئمة الهدى، ومصابيح الدجى أمثال أبي حنيفة والشافعي وغيرهم رحمهم الله، على غرار ما كتبه ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
نبوغه في فنون العلم:
النبوغ في عصرنا نادرة النوادر، فلا تكاد تجد أحدًا متفوقًا في جميع العلوم بحثًا وعلمًا واستظهارًا، وهو ما وفق إليه الآلوسي رحمه الله، فهو ضارب في كل سهم من سهام العلوم المختلفة، ففي العلوم الشرعية فهو من المتبحرين بها، الغائصين في أعماقها، أما في العلوم اللغوية فيكاد أن يكون هو فارس ميدانها في عصره، رافع لوائها في مصره، أما في التاريخ والسير فكتابه: (بلوغ الأرب) من الشواهد الواضحة على أنه كان ضليعًا خبيرًا في سبر أغواره، ومعرفة أسراره، ويمكن تقسيم العلوم إلى ثلاثة أقسام:
أولًا:علم الدين والشريعة:
وللآلوسي من تلك العلوم الحظُّ الأوفر، والنصيب الأكبر، حيث احتسب حياته كلها لخدمة علوم الدين، والدفاع عن قضاياه، وخاصة فيما يتعلق بعلم العقيدة، فقد جاهد أهل البدع والخرافات كالجهاد في ساحات الوغى، فأظهر ما في المذاهب الباطلة من فساد، وبين عوار أهل البدع فكشفهم على حقيقتهم، ودعا إلى المحجة البيضاء القائمة على توحيد الله، وإفراده بالعبادة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دحر كيد أهل الضلال، وخفف من تأثيرهم على العوام، ومن أدلِّ الأدلة كتبه ومؤلفاته في بيان المعتقد السليم، والمخطوط منها أكثر من المطبوع.
ثانيًا: علم اللغة:
ففي علم اللغة فهو الفارس في الميدان، وحامل اللواء في الدفاع عن أصالتها، وهو في مقدمة من دعا إلى إحيائها، حيث نظر إلى اللغة نظر الفاحص المدقق العالم بمكنونها وكنوزها، فانبرى ينزهها من المطاعن الموجه إليها، وما ينسب إلى لغتنا العربية من ضيق وإخفاق، فجعل النحت قياسًا لصوغ ألفاظ تسد مسد كثير من الألفاظ الأعجمية الدخيلة، وألَّف في ذلك بحثًا هامًّا لم يسبق على منواله أحد، ولم يؤلف على مثاله أبدًا [28]، وجعل الاشتقاق قياسًا للتعويض عن كثير مما نحتاجه في حياتنا اليومية من أدوات وصنائع، ولم يكن يجوز الإغضاء عن الدخيل من اللغة إلا إذا لم يكن في أصل اللغة ما يرادفه، ومن ذلك التضمين [29]، فبين خاصية لغتنا العربية واحتواءها لكثير من الأدوات، ليهدم بذلك آراء المتطفلين على اللغة، ورد عليهم في مواطن عدة من كتبه، وبين أنهم أحوج إلى تقويم ألسنتهم من الرطانة من انتقادهم لأئمة اللغة واللسان من فطاحل الدهر والزمان.
ثالثًا: التاريخ:
ولا شك أن معرفة التاريخ، وما جرى في الأزمان، وما نتج على إثره من حوادث ووقائع، وما تمخض عنها من تحولات، وما يمكن أخذ العبرة منه والعظات - أصل في معرفة الإصلاح، وإليه يرجع فهم كثير من نصوص الكتاب والسنة، وفي ضوء التاريخ يتمكن المصلح الحاذق من أن يشق طريقه بنجاح وتفوق، وتكون له نبراسًا يهتدي به في ظلمات الحياة، ومن لم يكن له خبرة بالتاريخ قد لا يدرك السر في التحولات، ولا يعرف سبب الانقلابات، لقد كان الآلوسي ومنذ الصغر له الدراية التامة، حيث أكب على تفقه التاريخ العربي في الجاهلية والإسلام، حتى صار أعلم أهل زمانه به، ومن الأدلة على ذلك مؤلفاته مثل: شرح عمود النسب، وأخبار العرب وغيرها.
الأيام الأخيرة من حياته:
أصِيبَ الآلوسي برمل في المثانة، وذلك سنة 1337هـ فأهمله، وتراكم المرض إلى سنة 1341هـ فسدَّ المثانة، وفزع إلى الأطباء فلم يجد عندهم حلًّا، فانقطع عن التدريس، وبعدها سكن المرض ولكن نصحه الأطباء بترك التدريس ولم يأخذ بنصحهم، وعاود التدريس فهُزِل جسمُه، وتَعِب قلبُه، وفي العشر الأواخر من رمضان سنة 1342هـ أُصيب بذات الرئة، وأحسَّ بموته، وفي الرابع من شوال من هذه السنة تُوُفِّي عند أذان الظهر، وحوله كتب العلم[30]
رحم الله الآلوسي، وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقًا، ودُفِن بمقبرة الشيخ الجُنَيْد، وكانت له جنازةٌ مهيبة، وصُلِّي عليه في نجد صلاة الغائب، ورثاه العلماء والأدباء وأهل الفضل والدعاة، وممن رثاه الشاعر الكبير معروف الرصافي في قصيدة رائعة من البسيط، ومما قاله فيها:
أزمعت عنا إلى مولاك ترحالا
لمّا رأيت مناخ القوم أوحالا
كرهت طول مقام بين أظهرنا
بحيث تبصرنا للحق خذَّالا
ولم ترق نفسك الدنيا ونحن بها
لسنا نؤكد بالأفعال أقوالا
وكيف تحلو لذي علم إقامته
في معشر صحبوا الأيام جهَّالا
لذاك كنت اعتزلت القوم منفردًا
حتى أقاربك الأدنَينَ والآلا
وما ركنت إلى الدنيا وزخرفها
ولا أردت بها جاهًا ولا مالا
لكن سلكت طريق العلم مجتهدًا
تهدي به من جميع الناس ضلَّالا
محمود شكري فقدنا منك حبر هدى
للمشكلات بحسن الرأي حلَّالا
قد كنت للعلم في أوطاننا جبلًا
إذا تقسم فيها كان أجبالا
وبحر علم إذا جاشت غواربه
تقاذف الدرّ في لجَّيْه منهالا
يا من بشوّال قد شالت نعامته
نغّصت بالحزن شهر العيد شوّالا
أعظم برزئك في الأيام من حدَث
هزَّت عليَّ به الأيام عسّالا
يتبع
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|