09-18-2022, 08:42 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 349,031
|
|
خطبة: الاستقامة مفهومها ومجالاتها
خطبة: الاستقامة مفهومها ومجالاتها
يحيى سليمان العقيلي
معاشر المؤمنين:
آية في كتاب الله لا تمرُّ على مسلم تلاوةً أو سماعًا، إلا وتمنى أن يجعله الله ممن ذكرتهم الآية، أتدرون أي آية هي عباد الله؟
إنها قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 - 32].
جعلنا الله وإياكم منهم، ورزقنا الاستقامة إلى يوم لقائه، فما هي الاستقامة عباد الله؟ ولأي شيء تكون؟ وكيف تتحقق للمرء؟
نقول وبالله التوفيق:
إن الاستقامة: هي لزوم المرء لدين الله، والتزام أحكام الشرع، وثباته على صراط الله المستقيم، اعتقادًا وعملًا، وسلوكًا ومنهجًا للحياة؛ كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية".
وللاستقامة - عباد الله - مجالات لا تتحقق إلا إذا شملتها كلها، وأول تلك المجالات استقامة الاعتقاد والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13].
وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله الوصية: ((قل: آمنتُ بالله ثم استقم)).
فالمرء إذا لم يستقم إيمانه، وتصح عقيدته، فيسلم من الشرك والزيغ، ويأمن من الضلالات والبدع والانحرافات - لن يستقيم على صراط الله المستقيم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15].
عالم برز في الجزيرة العربية القرن الماضي، وألَّف مصنفات في التوحيد والعقيدة والدفاع عن الإسلام، والحرب على الإلحاد والبدع، ثم سافر لبعض البلاد العربية، وانبهر بأجواء الانفتاح على الغرب، فانكب على كتب الفلسفة والماديات والشبهات على الدين والإيمان، وانغمس فيها حتى آلَ به الأمر إلى الإلحاد، فأصبح ملحدًا بعد أن كان عالمًا، بل وصنف كتبًا دفاعًا عن الإلحاد، وتشكيكًا في الدين والإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معاشر المؤمنين:
ومن مجالات الاستقامة استقامة القلب، واستقامة اللسان؛ وتأملوا هذا الحديث عباد الله، فيما رواه الإمام أحمد بسند ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))، فهاتان قاعدتان لا بد منهما للاستقامة: استقامة القلب، واستقامة اللسان.
أما استقامة القلب عباد الله، فبعمارته بالإيمان بالله، والخوف منه، ورجائه تبارك وتعالى، وحسن التوكل عليه، والثقة به، ومحبته جل وعلا، ومحبة ما يحبه من الأعمال والأقوال، وإذا استقام القلب على هذه الحال، تبِعته الجوارح كلها في الاستقامة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ألَا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))، فوجب على كل مسلم - عباد الله - أن يُعنَى بقلبه إصلاحًا له، وتنقية له، واجتهادًا في تزكيته وتطهيره؛ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، واستقامة القلب تتم بسلامته من أمراضه وآفاته؛ من النفاق، والرياء، والحقد، والحسد، وغيرها من الآفات.
أما استقامة اللسان، فتتم بصيانته وحفظه من الآفات، وعن كل أمر يسخط الله جل وعلا، وإشغاله بكل نافع مفيد، وبكل قول سديد: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
وإذا استقام اللسان تبعته الجوارح؛ لأنها فرع عنه، وتتأثر به؛ ولهذا صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان - أي: يخضعون ويتذللون له، من التكفير الذي هو انحناء الرأس وطأطأته قريبًا من الركوع - تقول: اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإذا استقمت استقمنا، وإذا اعْوَجَجْتُ اعوججنا)).
رزقنا الله وإياكم الاستقامة على صراطه المستقيم، والثبات على دينه القويم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
معاشر المؤمنين:
ومن مجالات الاستقامة استقامة العقل والفكر بما يكمل استقامة الاعتقاد والإيمان، فيسلم المرء من ضلالات الإلحاد والتغريب، والأفكار الشاذة والمنحرفة، كما نرى ونسمع اليوم من سعي المفسدين لترويجها؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161].
ومن أهم دلائل استقامة العقل والفكر اليوم - عباد الله - ثبات المرء على المبادئ والثوابت، لا سيما في قضايا الأمة وحقوقها الثابتة كقضية فلسطين والمسجد الأقصى، فإن الدعوات لتضييع حق الأمة فيها بدعوى التطبيع والسلام الموهوم مع الصهاينة انحرافٌ عقدي وخيانة للدين وللأمة، وظلم وبغي؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].
ومن مجالات الاستقامة استقامةُ الأخلاق ورسوخها في سلوك المرء وتعاملاته؛ من الصدق، والأمانة، والعفة، وحفظ الحقوق، والتواضع، وسلامة الصدر، وحسن الظن؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم))؛ [الترمذي، حسن صحيح].
تلكم - عباد الله - الاستقامة في معناها ومجالاتها، أما كيف تتحقق؟ وكيف ينالها المرء؟ فهذا هو حديثنا القادم بإذن الله.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|