في صلة الرحم
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي
الحمد لله الذي أمر بتقواه وبصلة الأرحام، وقرن صلة الأرحام بتقواه لعظم شأنها وعقب ذلك بأنه رقيب على الأنام، قال تعالى: ﴿ ا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
أحمده - سبحانه - أن قرن حق ذوي الأرحام بحقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلى خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بفعله ونطقه.. أما بعد:
أيها الناس، أوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى وببر الوالدين وصلة الأرحام، روى أبوهريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم وأخذت بحقو الرحمن فقال تعالى: مه فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت بلى، قال: فذاك لك)[1]، فكفى بهذا الحديث زاجرًا عن قطيعة الرحم ما دام أن الله تعالى قد وعد بوصل أهل الملة وقطع أهل القطيعة، ومن وصله الله فاز في الدنيا بالمال والبنين وبطول العمر والحياة السعيدة، وفي الآخرة بالجنة، ومن قطعه الله انقطع من كل خير في الدنيا والآخرة، فإن أعطاه من الدنيا مالًا وأولادًا كانا وبالًا عليه لا يسر بها، ولا يتنعم بها، وكان آخرها الفناء والزوال في وقت قصير وسوء العاقبة في الآخرة، لأن الله - تعالى- قال في قاطعي أرحامهم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]، وقال في الآية الأخرى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25] فحياة عاقبتها اللعنة وسوء الدار لا خير فيها، ويا ليتها لم تكن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من ذنب أجدر أن يتجلى الله تعالى لصاحبه العقوبة قي الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)[2]، فقرن تبارك وتعالى قطيعة الرحم بالفساد في الأرض، كما قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البغي بقطيعة الرحم، لأن قاطع الرحم - والله أعلم - يهون عليه فعل كل محظور ما دام أنه استهان بأمر الله، فقد ضل سواء السبيل.
والأرحام هم الأقارب من النسب، وأولهم وأولاهم الوالدان، لأن الله - تعالى- قد قرن حقهم بحقه في عدة مواضيع من القرآن فقال تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14] وقال: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36] وقال تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الأنعام: 151]، وقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، إلى غير ذلك من الآيات التي قرن الله تعالى فيها الإحسان إليهما بعبادته، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل سأله قائلًا: من أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال: أمك، ثلاثًا، قال: ثم من؟ قال: أبوك، ثم أدناك أدناك[3]. أي الأقرب لك من النسب، وروي أن رجلًا كان يطوف بالبيت حاملًا أمه فسأل ابن عمر: هل جزيتها يا بن عمر؟ فقال: لا ولا زفرة واحدة[4]. فإذا كان يا عبد الله هذا العمل من هذا الرجل الذي حمل أمه يطوف بها لا يقابله زفرة من زفراتها، فكيف بالهفوات المتتالية عند الوضع، ثم الحنان عليك في الصغر، مع ما تلاقيه من الأذى الخارج منك الذي تباشره بيمينها في عدة شهور وهي مسرورة بذلك، تسهر ليلها من أجلك، تغذيك باللبن من ثديها، وتؤثرك على نفسها في المأكل والمشرب، ووالداك هما السبب في وجودك، كما أن والدك يتكبد العناء من أجلك، يتعب لتستريح أنت، ويغضب لترضى، ويشقى لتعيش مسرورًا، فجزاهما الله عنا خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
فيا من غلبته نفسه وهواه، وتساهل في حق أمه أو أبيه ولم يعلم أن عقوقهما سبب لعنائه وشقائه، تب إلى ربك وارجع إليه وتدارك ما فاتك ما دام أن باب التوبة مفتوح، وعليك برهما واطلب رضاهما فإن رضا الله في رضاهما، وسخطه في سخطهما، فإن كانا قد ماتا فاضرع إلى الله بالتوبة النصوح، وأبك على ما فاتك واعمل الصالحات، وأكثر من الاستغفار مما جنيت، والهج إلى ربك بالدعاء لهما عقب الصلوات، وفي أوقات الإجابة، كثلث الليل الآخر وفي يوم الجمعة، وعند طلوع الشمس وغروبها، وأكثر الدعاء لهما بـ ﴿ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، وصل الرحم التي لا توصل إلا بهما، كإخوتك وأخواتك، وأعمامك، وبر صديقهما، وأنفذ وصاياهما، فإن ذلك من حقوقهما، سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)[5]، نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بالهداية إلى ما فيه صلاحنا في الدنيا والآخرة إنه ولي جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
والحمد لله رب العالمين.
[1] صحيح البخاري (4552).
[2] سنن الترمذي وقال حسن صحيح (2700) صحيح ابن حبان (455).
[3] صحيح مسلم (2548).
[4] مكارم الأخلاق (235).
[5] سنن أبي داود (5142).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك