تفسير قوله - تعالى -: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)
محمد بن عبد الله العبدلي
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[سورة ص: 29]، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى عليه الرحمن وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله- تبارك وتعالى -بين في كتابه كل شيء ومن ذلك مصير الناس في القيامة، وما يمرون به من المراحل حتى آخر مستقر لهم، ومن ذلك ما قاله في كتابه الكريم: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)[سورة مريم: 71]، ففي إشارة إلى أن الناس في هذه الحياة مسافرون ومنتقلون إلى دار أُخرى، ولا بد للمسافر أن يأخذ ما يحتاج إليه في سفره، والسفر هذا يحتاج زاد واحد هو تقوى الله - عز وجل - والأعمال الصالحة، فهذا الزاد به تكون سعادة المرء في الدنيا وفي الآخرة، فوعد الله من تزود بالتقوى بجنة عرضها السماوات والأرض، ولا شيء يخلص ويُنجي من أعظم موقف وهو الورودعلى النار إلا تقوى الله - عز وجل -، ولذلك قال - سبحانه - بعد هذه الآية: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[سورة مريم: 72]، قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "يقول - تعالى -ذكره: وإن منكم أيها الناس إلا وارد جهنم، كان على ربك يا محمد إيراهموها قضاء مقضيا، قد قضى ذلك وأوجبه في أمّ الكتاب"([1])، قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله -: " وهذا خطاب لسائر الخلائق، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، أنه ما منهم من أحد، إلا سيرد النار، حكما حتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد من نفوذه، ولا محيد عن وقوعه"([2])، وقد اختلف المفسرون عليهم رحمة الله في معنى الورود في الآية إلى عدة أقوال:
الأول: أن المراد بالورود الدخول، ولكن الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.
الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط; لأنه جسر منصوب على متن جهنم.
الثالث: أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها.
الرابع: أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا"([3]).
القول الخامس: قال آخرون: بل الورود: هو الدخول، ولكنه عنى الكفار دون المؤمنين، وممنقال بهذا عكرمة وغيره([4]).
القول السادس: الورود عام لكلّ مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن المرور، وورود الكافر الدخول، وممن قال بهذا ابن زيد فقال في قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن يدخلوها"([5]).
القول السابع: يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم([6])، وهذا القول قال به عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، واستدل لهذا القول بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن أناسا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوء ليس فيها سحاب))، قالوا: لا، قال ((وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها سحاب؟)): قالوا: لا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تضارون في رؤية الله - عز وجل - يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر، وغبرات أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فكذلك مثل الأول حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر، أو فاجر، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: فارقنا الناس في الدنيا على أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لا نشرك بالله شيئا، مرتين أو ثلاثا))([7]).
واستدل له أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يرد الناس النار كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم))([8]).
وذهب للقول الأول وهو أن المراد بالورود الدخول ابن عباس رضي الله عنهما([9])، وروي عنه - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "الورد" في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[سورة هود: 98]، وفي مريم: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا)[سورة مريم: 71]، وورد في "الأنبياء": (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)[سورة الأنبياء: 98]، وورد في "مريم" أيضًا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[سورة مريم: 72] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[سورة مريم: 86]"([10]).
وذهب لهذا القول أيضاً ابن جريج حيث قال: "الورود الذي ذكره الله في القرآن: الدخول، ليردنها كل برّ وفاجر في القرآن أربعة أوراد(فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ)[سورة هود: 98]، و(حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)[سورة الأنبياء: 98]، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)، وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا)"([11]). وابن مسعود رضي الله عنه([12])، وقال قيس: بكى عبد الله بن رواحة في مرضه، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك، قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إني قد علمت إني وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟ "([13]).
وذهب للقول بالقول الثاني وهو المرور عليه، أو العبور عليها أي: من على الصراط فروي عن قتادة قوله: "يعني جهنم مرّ الناس عليها"([14])، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم([15]).
وروى أبو الأحوص، عن عبد الله في قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: "الصراط على جهنم مثل حدّ السيف، فتمرّ الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرّون والملائكة يقولون: اللهمّ سلم سلم"([16]).
وذهب للقول الرابع وهو ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمَّى ومرض بعض العلماء فروي عن مجاهد أنه قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا)([17]).
قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - مبيناً الراجح من تلك الأقوال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون، فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم ومكدس فيها"([18]).
واستدل لذلك بما رُوي عن جابر، عن أم مبشر، امرأة زيد بن حارثة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة، فقال: ((لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية))، قالت حفصة: أليس الله - عز وجل - يقول: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمه، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)))([19]).
وقال الشنقيطي عليه رحمة الله: "قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة، الأول: هو ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما - من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
الدليل الثاني: هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه - تعالى -لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا)، أي: نترك الظالمين فيها، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: (وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا)بل يقول: وندخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى، وكذلك قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)، دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: وإن منكم إلا واردها قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)"([20]).
فالذي يظهر من تلك الأقوال هو ما رجحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقال به الشنقيطي أيضاً لصراحة النصوص في ذلك.
فعلى الإنسان أن يكون مراقباً لله- تبارك وتعالى -عاملاً بطاعته تاركاً لمعصيته، مستعداً لملاقاة الله- تبارك وتعالى -في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فتقوى الله هي خير زاد يتزوده العبد في هذه الحياة، وهي التي يكون بها نجاة العبد عند الورود على النار، لقول الله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)، سواء قلنا بأن معنى الورود بمعنى الدخول أو المرور على الصراط أو غيرها من الأقوال، فعليكم بتقوى الله فهي السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عبادة المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1])تفسير الطبري (18/229).
([2])تفسير السعدي (ص: 498).
([3]) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/477-478).
([4]) انظر: تفسير الطبري (18/232).
([5]) انظر: تفسير الطبري (18/233-232).
([6])المصدر السابق (18/233)، وانظر: تفسير ابن كثير (5/253).
([7])رواه البخاري، برقم (4581)، ومسلم، برقم (183).
([8]) رواه أحمد في المسند، برقم (4142)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وهو في السلسلة الصحيحة، برقم (311).
([9]) انظر: تفسير الطبري (18/230).
([10]) انظر: تفسير الطبري (15/467).
([11]) تفسير الطبري (18/230).
([12]) انظر: تفسير الطبري (18/231).
([13]) المصدر السابق (18/231).
([14]) المصدر السابق (18/232).
([15]) انظر: تفسير ابن كثير(5/256).
([16]) تفسير الطبري (18/232)
([17]) انظر: تفسير الطبري (18/233).
([18]) تفسير الطبري(18/234).
([19]) رواه أحمد في المسند، برقم (27042)، وقال محققوه: "صحيح".
([20]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/479).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك