الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي
علي محمد سلمان العبيدي
إن الأخوة الإيمانية ثابتةٌ مع المعاصي، ونرى الصلاة خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر، والصلاة على مَن مات منهم، ولزوم الجُمعة والجماعات، والاجتماع في الدين وعدم التفرق فيه، والسمع والطاعة لولي الأمر وإن جار، والحج والجهاد معه.
عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفةَ، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إنه يُستَعمَل عليكم أمراء، فتعرفون وتُنكِرون، فمَن كرِه فقد برئ، ومَن أنكر فقد سلِم، ولكن مَن رضي وتابع))، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة))؛ رواه مسلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 9 - 11].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرَّب بَدَنة، ومَن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرَّب بقرة، ومَن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضَرتِ الملائكةُ يستمعون الذِّكر))؛ رواه البخاري ومسلم.
عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الجماعة تفضلُ صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجةً))؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيدِه، لقد هممتُ أن آمُرَ بحطبٍ فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيُؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأُحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيدِه، لو يعلم أحدُهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مِرْمَاتينِ حَسَنتين، لشهِد العِشاء))؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حبوًا، لقد هممتُ أن آمر المؤذِّن فيقيم ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأُحرِّق على مَن لا يخرج إلى الصلاة بعد))؛ أخرجه البخاري.
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاًّ أو غاويًا وأمكن أن يهديَه ويُرشِدَه، فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وُسْعَها، وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاَّه، وإن قدر أن يمنع مَن يُظهِر البدع والفجور منَعه، وإن لم يقدر على ذلك، فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، الأسبق إلى طاعة الله ورسوله - أفضلُ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((يؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلَمُهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً، فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سنًّا)).
وإن كان في هجرِه لمُظهِر البدعة والفجور مصلحةٌ راجحة، هجَره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولى غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كان تفويتُ هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعةً ببدعة، حتى إن المُصلِّي الجُمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: مَن أعادها فهو مبتدع، وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يُعِيدون الصلاة إذا صلَّوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدًا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته، أن يعيد الصلاة؛ ولهذا كان أصح قولي العلماء أن مَن صلى بحسب استطاعته ألا يعيد، حتى المتيمِّم - لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب - إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس، وذوو الأعذار النادرة والمعتادة، والمتصلة والمنقطعة، لا يجب على أحدٍ منهم أن يُعِيد الصلاة إذا صلَّى الأُولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلَّوا بغير ماء ولا تيمُّم، لما فقدت عائشة عقدَها، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن مَن كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاءِ، فعمر وعمَّار لما أجنبا، وعمر لم يصلِّ وعمار تمرَّغ كما تتمرغ الدابَّة، لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي، لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضةً شديدةً منكرةً منعتْها الصلاة والصوم، لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود، لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187] هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هو سواد الليل وبياض النهار))، ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلَّوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت (بالأمر بالصلاة إلى الكعبة، وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ)، لم يأمرهم بإعادة ما صلَّوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم؛ لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟
على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره؛ قيل: يثبت، وقيل: لا يثبت، وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ.
والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وقوله: ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين))، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والاجتماع في الدين وعدم التفرق فيه:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 102، 103].
عن عبدالله هو ابن مسعود: "﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكَر فلا ينسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر"؛ وهذا إسناد صحيح موقوف، وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود.
وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبدالأعلى، عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن زبيد عن مرة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، قال: ((أن يطاع فلا يعصى، ويُشكَر فلا يكفر، ويُذكَر فلا ينسى)).
وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعًا، فذكره، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كذا قال، والأظهر أنه موقوف، والله أعلم.
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي نحوه عن مرة الهمداني، والربيع بن خثيم، وعمرو بن ميمون، وإبراهيم النخعي، وطاوس، والحسن، وقتادة، وأبي سنان، والسدي، نحو ذلك.
وروي عن أنس أنه قال: لا يتَّقِي العبدُ اللهَ حق تقاته حتى يخزن من لسانه.
وقد ذهب سعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، والسدي وغيرهم، إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، قال: "لم تنسخ، ولكن ﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم".
وقوله: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه مَن عاش على شيء مات عليه، ومَن مات على شيء بُعِث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا شعبة قال: سمعت سليمان عن مجاهد أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه مِحْجَن، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ولو أن قطرةً من الزَّقُّوم قطرت لأمرَّت على أهل الأرض عيشتَهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزَّقُّوم؟!)).
وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من طرق عن شعبة به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبدرب الكعبة، عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحب أن يُزَحزَح عن النار ويدخل الجنة، فلتُدرِكه منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)).
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدَّثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل))؛ ورواه مسلم من طريق الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لَهِيعة حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله قال: أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله)).
وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله - عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي)).
وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: حدثنا محمد بن عبدالملك القرشي، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت - وأحسبه عن أنس - قال: كان رجل من الأنصار مريضًا، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوافقه في السَّوْق فسلَّم عليه، فقال له: ((كيف أنت يا فلان؟))، قال: بخير يا رسول الله، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه مما يخاف)).
ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان، وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديثه، ثم قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلاً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام، قال: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أخر إلا قائمًا، ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به، وترجم عليه، فقال: (باب كيف يخر للسجود)، ثم ساقه مثله - فقيل: معناه: على ألا أموت إلا مسلمًا، وقيل: معناه: على ألا أقتل إلا مقبلاً غير مدبر، وهو يرجع إلى الأول.
وقوله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾، قيل: ﴿ بِحَبْلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: بعهد الله، كما قال في الآية بعدها: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: بعهدِ وذمَّة، وقيل: ﴿ بِحَبْلِ اللَّهِ ﴾؛ يعني: القرآن، كما في حديث الحارث الأعور، عن علي مرفوعًا في صفة القرآن: ((هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم)).
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك