العام الهجري الجديد وآفاق التطوع
أحمد فتحي النجار
أيام تلو أيام، وأعوام تلو أعوام، وقرون كثيرة مرَّت من بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونشر رسالة الإسلام والخير والسلام للعالمين، واليوم تستقبل الأُمَّة عامًا جديدًا من أعوام تتطلَّع فيها لخدمة الإنسانية، ومواصلة عملها المشروع والجليل في خلافة الله في أرضه، وعمارة كونه، وتقديم النفع لكافة خلقه، عام جديد لا بد أن يبدأ بحسابات مغايرة وسط متغيرات وتحديات عالمية وإقليمية لا تتوقف؛ حسابات تنطلق من قواعدَ راسخة، مفادها تحقيق رضا الله ورسوله، ومبنية على خُطط محكمة، وعمل احترافي متخصص، تتجنب فيه ما وقعت فيه من أخطاء، وما واجهتْه من عثرات سابقة، لا سيما في منظومتها الإنسانية والخيرية، فهذه الأمة أثبتت أنها أمة الخير، وأهل لكل خير، والتطوع - كثقافة إسلامية، بل كسُنَّة من السنن الإسلامية الجليلة التي حض عليها الإسلام في غير مكان - يحتاج إلى المزيد من الجهود الدعوية التوجيهية؛ لجعل العمل التطوعي جزءًا من النشاط اليومي للفرد المسلم، واستقطاب المزيد من المتطوعين في كافة المجالات؛ للارتقاء بالمنظومة الأخلاقية والإنسانية، والخيرية والاجتماعية، ثم الوصول لميادين ومجالات متعددة ومتنوعة، أكثر نفعًا وإفادة، فما هي الميادين والآفاق التي نتطلع أن ينطلق العمل التطوعي بصفته الخيرية والإنسانية نحوها، في كافة بلدان دولنا في الخليج، والشرق الأوسط، لهذا العام؟
أولاً: إحياء سنة العمل التطوعي؛ لتكون جزءًا من النشاط اليومي للمسلم:
لقد أدرك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن للعمل التطوعي الميداني في الإسلام أهميةً كبيرة؛ فحض المسلمين، بل كلفهم وأمرهم بالتطوع بالمال والجهد على الدوام، ودعاهم لأن يتصدقوا ويتطوعوا، في كل يوم، ما تعاقبت الأيام، فعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على كلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ صدقة))، فقال رجلٌ: مَن يُطيقُ هذا يا رسولَ الله؟! قال: ((إماطتُك الأذَى عن الطريقِ صدقة، وإرشادُك الرجلَ الطريقَ صدقة))[1]، وفي رواية ابن مسعود أنه قال: ((وعونك الصانع صدقة))[2]، وعن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على كل مسلم صدقة))، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فيعمل بيديه، فينفع نفسه، ويتصدق))، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: ((فيعين ذا الحاجة الملهوف))، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فليأمر بالخير - أو قال: بالمعروف -))، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فليُمسك عن الشر؛ فإنه له صدقة))[3].
والأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث والآيات تؤكد أن التطوع من تكليفات الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، التي أوكلها وكلف بها أمَّته، وجعلها من أسباب بلوغ الجنة، بل هي من الضرورات والتكليفات اليومية التي أمر بها الله ورسوله عمومَ المؤمنين والمسلمين.
والعمل التطوعي يجازي به الله عباده جزاءات عظيمة، أخبر عنها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في غير موطن، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلَق الله كلَّ إنسانٍ مِن بني آدَمَ على ستِّينَ وثلاثمائة مَفصِلٍ، فمَن كبَّر الله وحمِده، وهلَّل الله، وسبَّح الله، واستغفَر الله، وعزَل عظْمًا عن طريقِ النَّاسِ، وعزَل حجَرًا عن طريقِهم، وأمَر بمعروفٍ، ونهى عن منكَرٍ، عددَ تلك السِّتينَ والثَّلاثِمائة، فإنَّه يُمسي يومَئذٍ وقد زحزَح نفسَه عن النَّارِ))[4]، فالعمل التطوعي - إذًا - زكاة للجسد، ومرضاة للرب، وسبب من أسباب العتق من النيران، وبلوغ الجنة، فذلك المقابل هو أعظم جزاء، وأعظم أجر.
والتطوع من هذا المنظور ضرورة يومية إسلامية، وسنة تحتاج منا في الوقت الحاضر إلى الترويج لها، وتعميمها؛ لتكون بالشكل الذي يُرضي الله ورسوله، ويجب أن يكون جزءًا من عقيدة المسلم وثقافته، ومن أنشطته وجهوده اليومية، أينما كان، وأينما حلَّ، وأينما كان دوره وعمله، وهو ما تؤكد عليه الأحاديث السابقة أيضًا، فميادين التطوع في الإسلام متعددة، بل إنها ميادين لا متناهية، ما دامت مشروعة، وتحتاج فقط لتفعيلها بالشكل الذي يليق بالأمة الإسلامية، التي سبقت الإنسانية في شتَّى الميادين، ثم عادت لتبحث لها عن أدوار، رغم أن العقيدة واضحة، والمنهج به من الموضوعية والعلمية ما يتفوق على الأنظمة والقوانين والتشريعات العالمية، والعمل التطوعي على رأسها.
ثانيًا: التركيز على فئات الشباب، ودمجهم في المنظومة الخيرية والتطوعية:
شباب الأمة هدف، تسعى الكثير من القوى الكارهة للإسلام وللمسلمين - وللعرب عمومًا - للسيطرة عليهم، وتوجيه أفكارهم بشكل سلبي، وتعمل بحرفية وتقنيات متنوعة، من أجل تفريغهم وتشتيتهم؛ ليتمردوا على الثوابت، ويتعلقوا بالمتغيرات، وإدخالِهم في غياهب الجهل والضياع، باستخدام وسائل متنوعة لدرجة بها من الخطورة ما قد تتعاظم به المخاطر، وعلى رأسها المنظومة الاحترافية لترويج المخدرات، بل إن هناك آراء بها من التطرف والتحريض ضد المسلمين ما لا يمكن استيعابه ولا توقُّعه، ولكنها آراء مطروقة من حولنا، ولعل أكثرها عنفًا ما يدعو إلى القضاء النهائي على المسلمين[5].
والشباب هم ضمانة استقرار المجتمعات، وتقدمها، والنهوض بها؛ فهم يدها البنَّاءة، وقوتها الكبرى، في الحاضر والمستقبل؛ ومِن ثَم لا بد أن يكون الشباب هم الهدف الأكبر للاستقطاب والتجنيد، والاستفادة من طاقاتهم وأفكارهم في كل الخطط التطوعية لهذا العام، من خلال خَلْق مجالات للتطوع تجذبهم، بل تجبرهم على الاندماج في الأنشطة التطوعية، واستخدام وسائل التحفيز والتشويق المبتكرة؛ ومنها: وسائل التواصل الاجتماعية، ومنها: المواقع الإلكترونية؛ كفيس بوك، وتويتر، ويوتيوب، وغيرها، وهي إحدى الوسائل المستخدمة في الكثير من الدول الغربية، حيث يتيح التواصل إشباع رغبة الشباب، في طرح أسئلتهم الاستيضاحية عن ماهية التطوع، وما قد يتيحه لهم التطوع من خبرات معرفية وعملية، وهي بلا شك من المكاسب التي يسعى إليها الشباب، وتساعد إجابات المستقطبين على وجه السرعة، وتحفيزهم باستخدام لغة جذابة وموضوعية، على المشاركة والانخراط في البرامج التطوعية، لا سيما إن كانت مبتكرة وغير تقليدية، وبها من التميز ما قد يوسع مداركهم، ويزيد خبراتهم وإمكاناتهم.
ثالثًا: التطوع من أجل تحقيق التنمية:
التوطئة المبدئية والتمهيد الفعلي لترسيخ قواعد التنمية المؤقتة، أو التنمية المستدامة، تعتمد على استغلال كل الطاقات المهدرة، لا فرق بين نوع وآخر، ومن المعروف أن العمل التطوعي - بوجه عام - هو استغلال للطاقات البشرية المهدرة، أو الخاملة، أو الزائدة، لإعادة تدويرها، من خلال المؤسسات والهيئات والمنظمات الخيرية والتطوعية، بما يخدم القطاعات المختلفة داخل الدول والمجتمعات، وعلى رأسها القطاع الاقتصادي، الذي يُعتبر التقدم فيه أحد أهم مقاييس تقدم الدول، وتحقيق التنمية والرفاهية، ومن الطبيعي جدًّا عدم الاعتماد الكامل على العمل التطوعي والخيري كأهم سبل تحقيق التنمية المؤقتة، والتنمية المستدامة، ولكن عندما يكون الهيكل الوظيفي للمجتمع يعتمد على كوادر لديهم خبرات عملية ميدانية، من خلال اندماجهم في منظومة التطوع، فإنه سيرقى بالمنظومة الإدارية، ويجعلها تُحقِّق القدرة القصوى من الأداء والعمل وبذل الجهد؛ وبالتالي النتائج بدلائلها الاقتصادية، لا سيما أن الموظف الذي تعتمد عليه سَبَقَ له العمل كمتطوع، واكتسب الكثير من الخبرات، وصَقَلَ تجربته العملية مبكرًا، كما أنه سيوفر الكثير من الاعتمادات المادية والمالية التي تنفق مقابل التدريب، لا سيما إن كان الموظف لم يتمتع بالمؤهلات الإضافية التي يتطلبها دوره ووظيفته، والتي قد تتغاضى عنها الدول مؤقتًا قبل التعيين؛ لضرورات اجتماعية، أو لغيرها، ولكن متطلبات العمل في مراحله المتقدمة لن تسير بالتغاضي عنها.
وللوصول لهذا الهدف، ولغيره من الأهداف، فإن حكوماتنا ودولنا بحاجة فعلية إلى إعادة الوقوف أمام الكثير من المقترحات والمطالبات التي تنادي بإعادة النظر للعمل التطوعي كداعم لاقتصادات الدول، واعتماد ودعم برامج ومشروعات تطوعية تُحقِّق لبلادنا التقدم، والمنافسة، والارتقاء الذي يليق بنا.
والله من وراء القصد
[1] مجمع الزوائد؛ للهيثمي: 3/ 107.
[2] حلية الأولياء؛ لأبي نعيم: 7/ 120.
[3] صحيح البخاري (6022).
[4] صحيح ابن حبان (3380)، صححه الألباني بصحيح الجامع (2391).
[5] راجع http://www.lewrockwell.com/2014/10/william-norman-grigg/the- final-solution-to-the-muslim-problem/
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك