الشهداء وأفضل العطاء
خميس النقيب
رحلوا عنا بأجسادهم، لكنهم ظلوا فينا بأرواحهم وبعبَقِهم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 169 - 171].
نعم، شهداء يزرعون الإيمان، ويُعطِّرون الميدان، ويُجاوِرون الرحمن!.
في يوم تذوب فيه العواطف الإنسانية، وتتفكَّك فيه العلاقات الأسرية، وتتقطَّع فيه الروابط الاجتماعية، ويتبرأ الكل من الكل: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)[المؤمنون: 101].
في يوم الزلزلة تَذهل فيه المُرضِعة، وتضع فيه الحُبلى، وترى الناس سكارى وما هم بسُكارى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1، 2].
في يوم تدكُّ فيه الأرض دكًّا، ويؤتى بالملَكِ صفًّا صفًّا، ثم يجاء بجهنم بارزة يشاهدها الجميع: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)[الفجر: 21 - 23].
يؤتى يوم القيامة بجهنم، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملَكٍ يَجرُّونها))[الحديث في صحيح مسلم].
وفي تلك الساعات الرهيبة مَن يُنجيه الله، ومن يَحميه الله، ومن يُدنيه الله! في هذا اليوم للشهيد مكانة خاصة، ومعاملة مميزة، لهم كرامات عظيمة، ومنازل كريمة، كيف؟
الناس يوم القيامة في كربٍ شديد، وفي ضيق أشد، أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنهم يرشحون، يعرقون، يسيل منهم العرق؛ كما في الحديث: ((يوم يقوم الناس لرب العالَمين حتى يغيب أحدهم في رَشحِه إلى أنصاف أذنيه))[الحديث أخرجه البخاري ومسلم].
فهذا حال الناس: أنهم يَغيبون في عرَقهم - في رَشحِهم - إلى أنصاف آذانهم، أما الشهيد فله أمر آخَر وشأن ثانٍ، كيف؟
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لا يُكلَم أحدٌ في سبيل الله - لا يُكلم يعني: لا يُجرَح - والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة: اللون لون الدم، والريح ريح المسك))[الحديث أخرجه البخاري ومسلم].
الناس في حالة عرق، وفي حالة رشْح، ويَغيبون في رشحِهم إلى أنصاف آذانهم، يأتي الشهيد يوم القيامة ودمه يَسيل ورائحته مسْك، بل يقول المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن قاتل في سبيل الله فَوَاق ناقة - يعني: مقدار ما بين الحلْبتَين - فقد وجبَت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقًا ثم مات أو قُتِل، فإنَّ له أجر شهيد، ومن جُرِح جرحًا في سبيل الله أو نُكِب نكبةً، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك))[أخرجه أبو داود، وهو حديثٌ صحيح].
الشهداء يوم القيامة لا يَعرقون إذا عرق الناس، ولا يُصعقون إذا صعق الناس؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سأل جبريل - عليه السلام - عن هذه الآية: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)[الزمر: 68]، فسأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جبريل: ((مَن الذين لم يشأِ الله أن يَصعقهم؟)) قال - أي جبريل -: هم شهداء الله)) وهو حديثٌ صحيح؛ كما في "صحيح الترغيب والترهيب".
ويوم القيامة: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34 - 37].
فيفرُّ الأقارب بعضهم من بعض، الأخ من أخيه، والأم من ابنها، والابن من أمه وأبيه، يفرُّون من بعضهم، لا يريدون أن يَلقَوْهم أصلاً، بل إنَّ بعض الناس يودُّ يوم القيامة لو أن يقدِّم أهله وذريته وأقاربه في النار؛ ليَنجو هو من عذاب الله؛ قال الله -تبارك وتعالى-: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى)[المعارج: 11 - 15].
أخبر الله -تبارك وتعالى- عن هذا المُجرم أنه يود أن يفتدي من العذاب ببَنِيه، يدخل بَنُوه النار وهو ينجو، صاحبته زوجته، أخوه، قبيلته، عشيرته، من في الأرض جميعًا يُلقي بهم في النار؛ لينجو هو من عذاب الله -تبارك وتعالى- لكن الشهيد له شأن آخر، كيف؟
الشهيد يَنتفع به أهله يوم القيامة؛ عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إنَّ للشهيد عند الله سبع خصال: أن يُغفر له في أول دفعةٍ من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُحلَّى حلَّة الإيمان، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحُور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه))[الحديث أخرجه أحمد وهو حديثٌ حسن، وحسَّنه ابن حجر في فتح الباري].
إذًا الناس يفرون من أهلهم يوم القيامة، ولكن الشهيد ينفع أهله وأقاربه ويُشفِّعه الله -تبارك وتعالى- في سبعين إنسانًا من أهل بيته.
ومِن أفضل منازل الشهيد عندما يضحك إليه ربه ولا يُحاسبه، عن نعيم بن هَمَّار أنَّ رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أي الشهداء أفضل؟ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((الذين إن يلقوا في الصف لا يَلفِتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبَّطون في الغرف العلا مِن الجنة - يتلبطون أي: يتمرَّغون - ويَضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربُّك إلى عبدٍ في الدنيا فلا حساب عليه))؛ [الحديث أخرجه الإمام أحمد، وهو حديثٌ صحيح].
جمعَنا الله مع الصِّديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك