باب زكاة بهيمة الأنعام
زكاة الخلطة
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: (والخلطة - أي: الشركة - تُصَيِّرُ المالين كالمال الواحد، إن كانا نصابًا من ماشيةٍ سواء كانت خلطة أعيانٍ بكونه مشاعًا بأن يكون لكلٍّ نصفٌ أو نحوه، أو خلطة أوصافٍ، واشتركا في مُراحٍ ومسرحٍ ومحلبٍ وفحلٍ ومرعىً...) إلى آخره[1].
قال في ((الإفصاح)): ((واتفقوا على أن الخلطة لها تأثيرٌ في وجوب الزكاة في المواشي[2]، إلا أبا حنيفة[3] فإنه قال: لا تأثير لها في ذلك، ثم اختلف مؤثروها في المواشي، هل تؤثر فيما عدا المواشي:
فقال مالك[4] وأحمد في إحدى روايتيه[5]، والشافعيُّ في أحد قوليه[6]: إنها لا تؤثر.
وقال الشافعيُّ في القول الآخر[7]، وأحمد في الرواية الأخرى[8]: إن لها تأثيرًا في جميع الأموال.
ثم اختلف موجبو التأثير بالخلطة في مقدارها:
فقال مالك[9]: تأثيرها أن يكون لكل واحدٍ من الخليطين نصابٌ.
وقال الشافعيُّ[10] وأحمد[11]: يصحُّ التأثير بذلك، وأن يكون لكل واحدٍ منهما أقل [من] نصاب))[12].
وقال ابن رشد: ((وأكثر الفقهاء على أن للخلطة تأثيرًا في قدر الواجب من الزكاة، واختلف القائلون بذلك، هل لها تأثيرٌ في قدر النصاب؛ أم لا:
وأما أبو حنيفة[13] وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرًا لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب.
وتفسير ذلك: أن مالكًا[14] والشافعيَّ[15] وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد، واختلفوا من ذلك في موضعين:
أحدهما: في نصاب الخلطاء، هل يُعَدُّ نصاب مالكٍ واحدٍ، سواء كان لكل واحدٍ منهم نصابٌ أو لم يكن؟ أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل منهم نصاب؟
والثاني: في صفة الخلطة التي لها تأثيرٌ في ذلك.
وأما اختلافهم أولاً في هل للخلطة تأثيرٌ في النصاب وفي الواجب، أو ليس لها تأثيرٌ؟ فسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يُجمَعُ بين مفترقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مجتمعٍ خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية)[16]، فإن كل واحدٍ من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك أن الذين رأوا للخلطة تأثيرًا إما في النصاب والقدر الواجب، أو في القدر الواجب فقط، قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية)، وقوله: (لا يُجْمَعُ بين مفترقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مجتمعٍ)، يدلُّ دلالةً واضحةً أن ملك الخليطين كملك رجلٍ واحدٍ، فإن هذا الأثر مخصص؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقةٌ)[17] إما في الزكاة عند مالك وأصحابه - أعني: في قدر الواجب - وإما في الزكاة والنصاب معًا عند الشافعيِّ وأصحابه.
وأما الذين لم يقولوا بالخلطة، فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما: خليطان. ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع بين مفترقٍ، ولا يفرق بين مجتمعٍ)[18] إنما هو نهيٌ للسُّعاة أن يقسم ملك الرجل الواحد قسمةً توجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجلٍ يكون له مئة وعشرون شاةً، فيقسم عليه إلى أربعين ثلاث مراتٍ، أو يجمع ملك رجلٍ واحدٍ إلى ملك رجلٍ آخر، حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة. قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب ألا نُخصصَ به الأصول الثابتة المُجْمَعَ عليها، أعني: أن النصاب والحقَّ الواجب في الزكاة يُعتبر بملك الرجل الواحد.
وأما الذين قالوا بالخلطة، فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة، وإذا كان ذلك كذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام فيهما: (إنهما يتراجعان بالسوية)[19] مما يدلُّ على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجلٍ واحدٍ.
وأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنهما يتراجعان بالسوية) يدلُّ على أن الخليطين ليسا بشريكين؛ لأن الشريكين ليس يُتَصَوَّرُ بينهما تراجع إذ المأخوذ هو من مال الشركة.
فمن اقتصر على هذا المفهوم، ولم يقس عليه النِّصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد، إذا كان لكل واحدٍ منهما نصابٌ. ومن جعل حكم النصاب تابعًا لحكم الحق الواجب قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد، وكل واحدٍ من هؤلاء أنزل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يُجْمَعُ بين مفترقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مجتمعٍ)[20] على ما ذهب إليه.
فأما مالك[21] رحمه الله فإنه قال: معنى قوله: (لا يفرق بين مجتمعٍ) أن الخليطين يكون لكل واحدٍ منهما مائة شاةٍ وشاةٌ، فتكون عليهما فيها ثلاث شياهٍ، فإذا افترقا كان على كل واحدٍ منهما شاةٌ.
ومعنى قوله: (ولا يجمع بين مفترقٍ) أن يكون النفر الثلاثة لكل واحدٍ منهم أربعون شاةً، فإذا جمعوها كان عليهم شاةٌ واحدةٌ، فعلى مذهبه النهي إنما هو متوجِّه نحو الخلطاء الذين لكل واحدٍ منهم نصابٌ.
وأما الشافعيُّ[22] فقال: معنى قوله: (ولا يفرق بين مجتمعٍ) أن يكون رجلان لهما أربعون شاةً، فإذا فرقا غنمهما لم يجب عليهما فيها زكاةٌ، إذا كان نصاب الخلطاء عنده نصاب ملك واحدٍ في الحكم.
وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا في ما هي الخلطة المؤثرة في الزكاة، فأما الشافعيُّ[23] فقال: إن من شرط الخلطة أن تختلط ماشيتهما وتُراحا لواحدٍ، وتحلبا لواحدٍ، وتسرحا لواحدٍ، وتسقيا معًا، وتكون فحولهما مختلطةً. ولا فرق عنده بالجملة بين الخلطة والشركة؛ ولذلك يعتبر كمال النصاب لكل واحدٍ من الشريكين كما تقدم.
وأما مالك[24]: فالخليطان عنده ما اشتركا في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل، واختلف أصحابه في مراعاة بعض هذه الأوصاف أو جميعها.
وسبب اختلافهم:
اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم يَرَ قومٌ تأثير الخلطة في الزكاة، وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي[25]))[26].
وقال البخاريُّ: (((باب لا يُجْمَعُ بين مفترقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مجتمعٍ). ويُذكر عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
وذكر حديثَ أنس رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا يجمع بين متفرقٍ، ولا يفرق بين مجتمعٍ خشية الصدقة)[27])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب لا يجمع بين مفترقٍ، ولا يفرق بين مجتمعٍ). في رواية الكُشْمِيْهَني: (متفرق) بتقديم التاء، وتشديد الراء.
قال الزين بن المنيِّر: لم يقيد المصنف الترجمة بقوله: (خشية الصدقة) لاختلاف نظر العلماء في المراد بذلك كما سيأتي.
قوله: (ويذكر عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله) أي: مثل لفظ هذه الترجمة، أورده شاهدًا لحديث أنس الذي وصله في الباب...
إلى أن قال: واختلف في المراد بالخشية.
قال مالك في ((الموطأ)): ((معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحدٍ منهم أربعون شاةً وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاةٌ واحدةٌ، أو يكون للخليطين مئتا شاةٍ وشاتان، فيكون عليهما فيها ثلاث شياهٍ، فيفرِّقونها حتى لا يكون على كل واحدٍ إلا شاةٌ واحدةٌ))[28].
وقال الشافعي[29]: هو خطابٌ لربِّ المال من جهةٍ، وللساعي من جهةٍ، فأمر كل واحدٍ منهم ألاّ يحدث شيئًا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرَبُّ المال يخشى أن تكثر الصدقة؛ فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة؛ فيجمع أو يفرق لتكثر.
فمعنى قوله: (خشية الصدقة)[30] أي: خشية أن تكثر الصدقة، أو خشية أن تقل الصدقة، فما كان محتملاً للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأَوْلَى من الآخر، فحمل عليهما معًا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر. والله أعلم.
واستدلَّ به على أن من كان عنده دون النِّصاب من الفضة ودون النِّصاب من الذهب مثلاً أنه لا يجب ضَمُّ بعضه إلى بعض حتى يصير نصابًا كاملاً، فتجب فيه الزكاة خلافًا لمن قال: يضم على الأجزاء كالمالكية[31]، وعلى القيم كالحنفية[32].
واستدل به لأحمد[33] على أن من كان له ماشيةٌ ببلدٍ لا تبلغ النِّصاب كعشرين شاةً مثلاً بالكوفة، ومثلها بالبصرة أنها لا تضم باعتبار كونها ملك رجلٍ واحدٍ، وتؤخذ منها الزكاة لبلوغها النصاب. قاله ابن المنذر[34].
وخالفه الجمهور، فقالوا: يجمع على صاحب المال أمواله، ولو كانت في بلدان شتى، ويخرج منها الزكاة[35].
واستدلَّ به على إبطال الحِيَل، والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن، وأن زكاة العين لا تسقط بالهبة مثلاً. والله أعلم))[36].
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك