تذكير الأحباء بفوائد وحكم الابتلاء
مصطفى مهدي
تعريف الابتلاء:
أ- من الناحية اللغوية:
قال ابن فارس في مقاييسه (1 - 293): "بُلِيَ الإنسانُ وابْتُلِيَ، وهذا من الامتحان، وهو الاختبار، وقال:
بُلِيتُ وَفِقْدَانُ الحَبِيبِ بَلِيَّةٌ ** وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ
وقال الجعديُّ في البلاء أنّهُ الاختبار:
كَفَانِي البَلاءُ وَإِنِّي امْرُؤٌ ** إِذَا مَا تَبَيَّنْتُ لَمْ أَرْتَبِ".
ب- من النَّاحية الشَّرعيَّة:
النَّاظر في المدارك الشَّرعيَّة يجد أنَّ الابتلاء لم يَخرج في المفهوم الشَّرعي عن المعنى اللغويّ من الاختبار والامتِحان، فمن ذلك قولُ الله - تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124].
قال ابن جرير (1 - 571): وإذ اختبر، وقال القرطبي (2 - 93): الامتحان والاختبار.
ومن ذلك قوله - سبحانه -: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ﴾ [الأعراف: 249]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ﴾ [النساء: 6]؛ قال السعدي (1 - 164): الابتلاء: هو الاختبار والامتِحان.
وقال - جلَّ ذِكرُه -: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، قال ابن جرير (6 - 104): "واختبرْناهم بالرَّخاء في العيش والخفْض في الدّنيا والدَّعة والسَّعة في الرّزق، وهي (الحسنات) الَّتي ذكرَها - جلَّ ثناؤُه - ويعني بـ (السيّئات) الشّدَّة في العيش والشَّظف فيه، والمصائب والرَّزايا في الأموال، (لعلَّهم يرجعون) يقول: ليرْجِعوا إلى طاعة ربّهم، وينيبوا إليْها، ويتوبوا من معاصيه".
ولكن ليس من صريح الابتِلاء - أي: الاختِبار - قولُه تعالى: ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 163]؛ لأنَّه هنا بمعنى العقوبة، وقد يستشْعر منه ذلك المعنى أيضًا، ولو حُمِل على الاختِبار والامتحان؛ لأنَّه - تعالى - اختبرَهم بما يعلم أنَّهم لن يستقيموا فيه على أمر الله تعالى، فهو في حقيقتِه عقوبة وإن كان ظاهرُه الاختِبار والامتحان، وعلَّل الله - تعالى - ذلك بفسقهم وخروجهم عن الطاعة.
وأمَّا من السنَّة، فقد روى البخاري (ح 1352) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت امرأةٌ معها ابنتان لها تسأل، فلم تجِدْ عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتُها إيَّاها، فقسمتْها بين ابنتيْها ولم تأكُل منها، ثمَّ قامتْ فخرجت، فدخل النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- علينا فأخبرتُه، فقال: ((مَن ابتُلي من هذه البناتِ بشيء كُنَّ له سترًا من النَّار)).
وروى أيضًا (ح5329) أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الله قال: إذا ابتليْتُ عبدي بحبيبتَيْه فصبر، عوَّضته منهما الجنَّة)).
حقيقة الابتِلاء وتوْصيفه:
الله - تبارك وتعالى - يعلم كلَّ شيء، ومُحيط بكلّ شيء، ولا يَغيب عنه شيء، ولا يَخرج عن علْمِه شيء، وهذا من المسلَّمات والمعلومات من الدّين بالضَّرورة، والله - تعالى - لا يظلِم أحدًا؛ فالاختِبار حينئذٍ من باب إقامة الحجَّة، وعدم مؤاخذة العباد بِما في علم الله تعالى، ولكن ليخرج علْمه إلى المشاهدة، وتشْهد عليهم أنفسهم وأيديهم وأرجلُهم وألسنتُهم، ويشهد عليهم الخلقُ من الثَّقلَين والملائكة، وتشهد عليهم صحائف الأعمال؛ إقامةً للحجَّة، ودفعًا للمجادلة والمخاصمة بين يدَي الله - تعالى.
فالابتِلاء كائن ليتحقَّق ما في علم الله - تعالى - في المشاهدة، ولتوفَّى كلّ نفس ما عملتْ، وتُجازى بِما كسبتْ من ردّ فعل تجاه الابتلاء والاختِبار، الَّذي وُضِع للمرْء في مُختلف أمور حياتِه.
قِسما الابتلاء:
عندما أطلقتُ نظري وفكري - الكليلَين - في النّصوص، وتدبَّرت أمر الاختِبار والابتِلاء والامتِحان، هداني التدبّر إلى أنَّ الابتلاء قد ينقسم إلى قسمَين باعتبار الغاية الإلهيَّة من الاختبار، فينقسم إلى:
1- ابتِلاء كوني قدَري:
وهذا النَّوع من الابتِلاء يظهر فيه حقيقة آثار الأسْماء الرَّبَّانيَّة، والصّفات الإلهيَّة، فإذا ما ابْتلى الله - تعالى - العبد بالذّنوب، فقد قدَّرها عليه وقدَّر وقوعَها، وأرادها إرادة كونيَّة قدريَّة؛ ليتحقَّق من رجوع العبْد وإنابته واستِغْفاره الآثارُ الَّتي تشتمل عليها الأسماء الرَّبَّانيَّة من الغفَّار والسّتّير والتَّوَّاب والعفُوّ.
وكذلك من هذا النَّوع ابتِلاء الله - تعالى - مَن علِم أنَّه لا يرتدع ولا ينْزجِر بالمعاصي والذّنوب والآثام والمعاصي، وغير ذلك من المرادات الكونيَّة والمكروهات الشَّرعيَّة؛ لأجل غاية وحكمة، وهي ما في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96 - 97].
وقوله - تعالى -: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 119].
وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ﴾ [مريم: 75]
2- ابتلاء شرعي:
وهذا النَّوع يكون المراد منه والغاية المترتبة عليه إخراج أعْمال العباد إلى حيّز المشاهدة؛ من باب إقامة الحجَّة، وقطعِ طريق المنازعة والمخاصمة والمجادلة.
ومدار هذا النَّوع على موافقة الأمر الشَّرعي فعلاً وتركًا، وامتِثال الأمر الشَّرعي والعمل على ما يُريده الله - تعالى - ويحبّه.
ما يكون به الابتلاء:
نصَّ الله - تعالى - في كتابه العزيز أنَّ الابتلاء يكون بالخير والشَّرّ؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وقال - جلَّ ذِكْره -: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، فالله - تعالى - يبتلي العبد بما يحبّه وترضاه نفسُه بحكم الطَّبع والجبلَّة، ويختبره بما تأْباه النَّفس وتتألَّم منه بحكم الطَّبع والجبلَّة.
ولكن لُيعلم أنَّ الخير والشَّرَّ هنا ليس مقصودًا به أفعال الله تعالى، ولكنْ مقصود به المفْعولات من وجهة نظر واعتِبار البشر، فهم الذين يقسمون المفعولات وما يقع لهم إلى خيرٍ وشرّ بحسب أصل الجبلَّة وما تألفه النَّفس بطبعها.
أمَّا النَّفس المؤمنة، فهي التي ترى أفعال الله - تعالى - على حقيقتِها، وهي أنَّ أفعال الله - سبحانَه - كلّها خير، والدَّليل على أنَّ أفعال الله - تعالى - كلّها خير، وأنَّ هذه الخيريَّة لا تراها إلاَّ النَّفس المؤْمنة فتتقلَّب معها على الوجْه الَّذي يتوافق مع المراد الإلهي، ما رواه مسلم (ح64) من حديث صُهَيب - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((عجبًا لأمر المؤمِن إنَّ أمرَه كلّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن؛ إن أصابتْه سرَّاء شكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له)).
فالنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعل أمر المؤمن كلّه خيرًا، فكلّ ما يقع له ويعْرِض له في حياتِه، في أمر دنياه ودينه، كلّه له خير، ولا يكون ذلك إلاَّ لنفسٍ مؤمنة تُدرك تلك الخيريَّة، فتأتي مع كلّ حال بما يتوافق معه ويستلزمه من الأقْوال والأعمال.
وعدَّد الله - تعالى - صور الابتلاء المختلفة مما يتعلَّق بالإنسان من أمور مادّيَّة ومعنويَّة، داخليَّة وخارجيَّة، فرديَّة وجماعيَّة، فقال - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
وظاهر هذه الآية أن هذه الأمور من الأشياء الَّتي لا تحبّها النَّفس ولا تألفها، وتسبّب لها ألمًا، ويكون الابتلاء بها اختبارًا للعبوديَّة عند هذه الأحوال.
ولكن إذا ما تدبَّر المرْء هذه الآية جيّدًا، وانفكَّ عما يُملى عليه من توْجيهات وتفسيرات تجْعل فهْمه منحصرًا في حيّز ضيّق، ومع التَّقيّد بالضَّوابط الصَّحيحة للتَّفسير والفهْم للقُرآن - يجِد أنَّ هذه الآية تصلح لجانبَي الابتِلاء؛ أي: الابتِلاء بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، وهذا يظهر من خِلال ما يلي:
الابتِلاء قد يكون بالإحساسات القلبيَّة الدَّاخليَّة من الخوف والفزَع والهلع والقلَق والاضطراب بسبب العدوِّ والعواقب، كما أنَّه يكون بسبب خشْية عدم تقبّل الأعمال، أو بالخشْية المفروضة على العبد تجاه الرَّبّ المالك القاهر الخالق الرَّازق المدبّر لأمر السَّموات والأرض، وهذا مقام من مقامات العبوديَّة، ورُتْبة من رتَب القيام بالغاية من الخلْق.
والابتلاء قد يكون بالجوع والضَّعف والمرَض والعطش، والحاجات الجسمانية، والأزمات الاقتصاديَّة ونحو ذلك، كما أنَّه يكون بالصَّوم المفروض والمنْذور وصوم الكفَّارات والتطوّع.
والابتِلاء قد يكون بفقْد المال والتّجارة بالخسارة أو السَّرقة أو الغصْب أو غير ذلك، كما أن الابتِلاء يكون بالزَّكاة والصَّدقة والمواساة والنَّفقة على الأهل والأقارب، والعطايا والهديَّة ومختلف صور البذْل في سبيل الله - تعالى.
والابتلاء بالأنفُس يكون بنقصها بالموت والقتل وتسلّط الأعداء، كما أنَّه بالاستشهاد في سبيل الله - تعالى - والاستشهاد في الهدْم والغرق ونحو ذلك.
والابتلاء في الثَّمرات بألاَّ تُعطي الحقول زرْعَها بإذن الله تعالى؛ لآفة ونحو ذلك، كما أنَّه يكون بالواجبات والمستحبَّات من أنواع البذْل المتعلّق بالثّمار كالزَّكاة والصَّدقة.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك