العبادات تعذيب أم تهذيب؟
د. حسام الدين السامرائي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واهتدى بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد روى البخاري في الصحيح من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظلَّ، ولا يتكلمَ، ويصومَ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوه فليجلس وليستظلَّ وليتكلمْ وليتمَّ صومه)).
يمر علينا شهر رمضان هذا العام في قلب الصيف، فالنهار طويل والليل قصير، والمسلمون مقبلون في رمضان على عبادات كثيرة: صيام طويل، وقيام طويل، وكثرة في قراءة القرآن، وهنا نتساءل: هل العبادات هذه شُرعت لتعذيب النفس أم أنها للتهذيب؟
موقف النبي صلى الله عليه وسلم السابق الذكر مع أبي إسرائيل - فيه إشارة واضحة إلى أن الشرع لم يأتِ ليعذِّب أو يعنِّف أو يؤذيَ البدن أو الروح؛ يقول ربنا جل وعلا: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [النساء: 147]، ولطالما كان عليه الصلاة والسلام يقول في أصحابه: ((لولا أن أشق على أمتي...))، وهو يرشد إلى المراد من أوامر الشرع، وأن المقصود منها التربية الإيمانية والسلوكية، فمن الخطأ البيِّن الظن بأن العبادات جاءت لتعذيب الجسد وتأنيبه وتذويبه - كما يتصور البعض - فيحمل عليه طقوسًا وأنساكًا وغلظة وشدة، وكأنها هي المقصد من تلك الطاعات.
عند البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب))، فالغاية هي وصول الروح والنفس وتعلُّقها بالخالق بحسب القدرة والاستطاعة.
وفي رمضان: تتنوع الطاعات، وتتكاثر العبادات، فربما يتوهم متوهِّم أن التكليف الذي أراده المولى سبحانه هو إنهاك البدن، ويغفل عن الأصل الذي من أجله كُتِب الصيام: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
تأمل معي ما جاء عند مسلم في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبلٌ ممدود بين ساريتين، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: "لزينب؛ تصلي، فإذا كسلت - أو فترَت - أمسكت به"، فقال: ((حُلُّوهُ؛ لِيصلِّ أحدكم نشاطَه، فإذا كسل - أو فتر - قعد))، وفي الصحيحين من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يذهب فيستغفر فيسُب نفسه)).
وعند الطبراني من حديث كَهْمَس الهلالي رضي الله عنه - وهو يبين لنا بجلاء زجْر النبي عليه الصلاة والسلام لمن يظن أن العبادات شُرعت للتعذيب - فقال: "قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقمتُ عنده ثم خرجتُ عنه، فأتيتُه بعد حَوْلٍ فقلتُ: "يا رسول الله، أما تعرفني؟"، قال: ((لا))، قلتُ: "أنا الذي كنتُ عندك عام أوَّل"، قال: ((فما غيَّرك بعدي؟))، قال: "ما أكلت طعامًا بنهار منذ فارقتُكَ"، قال: ((فمَن أمرك بتعذيب نفسك؟! صم يومًا من السَّرَر))، قلتُ: "زدني"، فزادني حتى قال: ((صم ثلاثة أيام من الشهر)).
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يُهادَى بين ابنيه، فقال: ((ما بال هذا؟))، قالوا: "نَذَر أن يمشي"، قال: ((إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيٌّ)) وأمَرَه أن يركب.
وعند الإمام أحمد أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنه نذرت أن تحج ماشية، فسأل عقبةُ عن ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مُرْها فلتركب))، فظَن أنه لم يفهم عنه، فلما خلا من كان عنده، عاد فسأله، فقال: ((مرها فلتركب؛ فإن الله عز وجل عن تعذيب أختِكَ نفسَها لغنيٌّ)).
وعند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ - وهو يطوف بالكعبة - بإنسان ربط يده إلى إنسان بسَير أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: ((قُدْهُ بيده)).
وعند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان يمشيان إلى البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال القِران؟))، قالا: "يا رسول الله، نذرْنا أن نمشي إلى البيت مقترنين"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هذا نذرًا))، فقطع قرانهما، قال سُرَيْجٌ في حديثه: ((إنما النذر ما ابتُغي به وجه الله عز وجل)).
فهذه مجموعة من الآثار ترشدنا بوضوح إلى أن الوحي منزَّهٌ عن مُبتغَى التعذيب للبدن، وهذا ما فهمه الأصحاب رضوان الله عليهم، كما أخرج ابن أبي شيبة في المصنَّف عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: "إني نذرتُ أن أقوم على قعيقعان عريانًا إلى الليل"، فقال: "أراد الشيطان أن يبدي عورتك، وأن يضحك الناس بك؛ الْبس ثيابك وصلِّ عند الحِجْر ركعتين".
فالعبادات شُرعت للتهذيب، لا للتعذيب:
الصلاة.. للروح؛ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].
الصيام.. للروح؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
الزكاة.. للروح؛ ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].
قال ابن عقيل: "قال لي رجل: إني أنغمس في الماء مرارًا كثيرة وأشكُّ هل صحَّ لي الغسل أم لا؛ فما ترى؟ فقلتُ له: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، قال: وكيف؟ قلتُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رُفِع القلم عن ثلاثٍ: عن المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ))، ومن ينغمس في الماء مرارًا ويشك هل أصابه ماء أم لا، فهو مجنون".
أخي المبارك:
ربك لا يريد أن يعذبك، ولا يرغب في التنكيل بك، ولا يتلذذ بآلامك، بل هو القائل جل وعلا في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخِركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخِركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ، ما نقَص ذلك من ملكي شيئًا)).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك