الأخلاق في حياتنا
عبدالعزيز كحيل
تحتلُّ الأخلاقُ مساحةً واسعةً، ومكانةً ساميةً عند الأممِ الحيَّة، وهي أشدُّ حضورًا ووضوحًا عند المسلمين؛ كأفرادٍ وكأمَّةٍ، وقد امتدَّت إليها الأزمةُ المتشعِّبةُ التي تعصِف بالبشريَّة - بما فيها نحن - فحرَّك ذلك الدُّعاةَ والعلماءَ والمرَبِّين والمُصلحين يحذِّرون من المحقِ الَّذي تُنذرُ به أزمةُ الأخلاقِ، ويصِفون أنواعًا من العلاجِ من شأنِها إيقافُ خطِّ الانحدارِ، وتصعيدُه نحوَ القيَمِ والمُثلِ العُليا والسُّلوكِ القويمِ.
ولنا أن ننظرَ في جنَبات الحياة العصريَّة، لنلاحظَ غيابَ العُنصر الخلُقيِّ عن السياسة والاقتصاد والمال، والأدب والفنِّ والعَلاقات الدَّوليَّة؛ بسبب سَطوة التصوُّر اللَّا ديني الذي أحدَث فِصامًا نكِدًا بين الحياة والأخلاق، وزعَم أن لا علاقةَ لهذه بتلك، ولم يبقَ للمنظومة الخلُقيَّة من حيِّزٍ سوى ضميرِ الفرد، ورغْم تحصين الإسلام للأمَّة بالعقيدة الصافية والرُّؤية الصحيحة، إلا أنَّ الغلَبة في الواقع كانت للوضعيَّة التي جلَبها الاستعمارُ حين احتلَّ جميع البلاد الإسلاميَّة إلا قليلاً، فأصبحت الدولةُ القُطريَّة تتعامل سياسيًّا بالقاعدة الميكيافيلية: "الغاية تبرر الوسيلة"، واقتصاديًّا بالرِّبا، وكأنَّه شيء حتميٌّ وضروريٌّ لا يجوز مجرَّدُ التفكير في اطِّراحه والبحثِ عن بديلٍ عنه، وأدبيًّا وفنيًّا على أساسِ أنْ ليس هناك ضوابطُ ولا محرَّماتٌ (التابوهات كما يسمُّونها)تتعلَّق بالجسد والتعبير إلاَّ ما منَعه القانونُ الوضعيُّ، بذلك غابت الأخلاقُ عن الحياة العامَّة ومجالات الرِّواية والقصيدةِ والرَّسم والغناء - فضلاً عن أرْوِقة القرار السياسيِّ والتَّداول الماليِّ والإستراتيجيَّات المحلِّية والدَّولية - وأصبح يُنظر إلى أصحابِ النَّزعة الأخلاقيةِ بعين السُّخريَة والازدراءِ؛ لأنّهم في غربةٍ زمنيةٍ، تُلحِقهم بالخرافيِّين أو المتزمِّتين!
وقد امتدت ظلالُ التَّغييب الأخلاقيِّ إلى قلوب النَّاس وسلوكِهم وعَلاقاتِهم الأسريَّة والاجتماعيَّة، ومسَّ شررُه المسلِمين أيضًا، فاهتزَّت الأخلاقُ القلبيَّة؛ كالإخلاصِ والرَّحمة والمحبَّة، وانتشرت أضْدَادُها؛ كالنِّفاق والقسوة والبغضاءِ، وحتى في صلَة العبد بالله رقَّت الأخلاقُ الربانيَّة التي تميِّز المؤمنين؛ كالخشية والمراقبة والتوكُّل، وغزَت الماديَّةُ القلوبَ، وعشَّشت فيها، وباضت وفرَّخت، فتأثَّرت العَلاقة الرأسيَّة لتمتدَّ بعد ذلك أُفقيًّا في صوَر انتشارِ العُرْيِ، والغشِّ والخداع، والكذِب والفُحش والخيانة، ولئِن كان تراجعُ الأخلاقِ الفاضلة ظاهرةً بشريَّة عرَفتها القرونُ، إلاَّ أنَّها كانت في المجتمعات الإسلاميَّة استثناءً، وأخذت الآنَ ملامحَ القاعدةِ العريضةِ، لولا الربانيُّون الذين يخلِّدون نسَق العهدِ الأوَّل، ويثبِّتون الأخلاقَ الكريمةَ في النُّفوس والسُّلوكِ.
ومن المؤسفِ أن يلينَ اهتمامُ البيوت والمدارسِ بالتربية الخلُقيَّة، ويستقيلَ المربُّون والأولياءُ ليُتركَ النَّشءُ بين مخالبِ التلفزيون ينأى بهم بعيدًا عن التَّقوى والخلُق الرَّفيعِ، وتحت ضغط العَولَمة وإجراءاتِ "تجديدِ الخطاب الدِّينيِّ" امتدَّت يدُ التَّغيير العبَثي حتى للمساجدِ التي غدَت - كثيرًا - ما تتناولُ مسألةَ الأخلاقِ تناولاً وعظيًّا باردًا، يثيرُ العواطفَ، وينحُو المنحَى السلبيَّ، فينتهي في أكثرِ الأحيان إلى نتائجَ عكسيَّةٍ.
إنَّ الأخلاقَ في الرُّؤية الإسلامية ليست مجرَّد تقويمٍ لألفاظ الفرد، أو الإحسان إلى الجار؛ إنما هي نسيجٌ ربانيٌّ يمتدُّ مع الإنسان طولاً وعَرضًا وعُمقًا ليصحِّحَ عَلاقته بربِّه وبدنياه وآخرتِه، فإذا صلح بها الفردُ استقامت الجماعةُ المؤمنةُ؛ لهذا لخَّص الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - البرَّ - وهو لفظٌ جامعٌ لكلِّ أنواع الخير - في حُسنِ الخلُق: ((البرُّ حُسنُ الخلُقِ))؛ رواه مسلمٌ.
كما تحتلُّ الأخلاقُ مساحةً واسعة في آياتِ البرِّ؛في سورة البقرةِ يذكر اللهُ - تعالى - برَّ العقيدةِ والعبادة وبعدَه الأخلاقِ كعُنصرٍ أساسيٍّ لا تستقيمُ طاعةُ الله إلا به: ﴿ ... وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة : 177].
في آية ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ من سورة آل عِمران، يذكر اللهُ - تعالى - صفاتِ المتَّقين فيضمنُها الأخلاقَ: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
وهل يبقى للمَرء والمجتمع محاسنُ إذا غابت؟ فإذا غابت غاب الأدبُ الجمُّ والسلوك المتحضِّر وجديرٌ بالذِّكر أنَّ كلمة "أخلاق" إذا أُطلقت أشارت تحديدًا إلى حُسن التَّعامل مع الناس في الحياة اليوميَّة، وشمِلت حركةَ الحواسِّ كلِّها، وعلى رأسِها اللِّسانُ: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة : 83]، و﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء : 86].
((ما مِن شيءٍ أثقلَ في ميزان المؤمنِ يوم القيامة من حُسن الخلُق، وإنَّ اللهَ يبغض الفاحشَ البذيء))؛ حديثٌ رواه التِّرمذيُّ.
فالأخلاقُ مكوِّن أساسيٌّ لشخصيَّة المسلم، تشِعُّ إيجابيَّاتُه لتشملَ أفراد الأسرة والجيران، وزملاء العمل والدِّراسة، والعَلاقات الإنسانيَّة كلَّها من خلالِ الخِصال الكريمة؛ كطيِّب الكلام، والحياء، وتوقير الكبير، ورحمة الصغير، وتبادل الهدايا، والمسارعة إلى الاعتذار عند صُدور الخطأ.
وهل تُغني - مثلاً - الفرائضُ والنوافلُ عن مسلمٍ سيئ الخلُق يؤذي بلسانِه وبصره ويده؟ هل يَألفُ مثله أو يؤلَف؟ أي هل يمكن أن يكونَ عنصرًا صِحيًّا في مجتمعه بإساءتِه إذا انطبعت بها شخصيَّته وصارت ملازِمةً له في غُدوِّه ورَواحِه؟
وقد فتنَنا الغربيُّون بالتزامِهم جانبَ الأخلاق والسيرةِ الحسنة في التِّجارة والمعاملات الجِوارية ونحوِها، وهي وإن كانت أخلاقًا تجارية في كثيرٍ من الأحيانِ، إلاَّ أنَّها أفضلُ من الغِلظة والجفاءِ وسيئ القول والعمل الذي درَج عليه كثيرٌ من المسلمين، حين انفصلوا عن مقتضيَات دينِهم، ولم يُجسِّدوا في حركتهم الحياتيَّة روائعَ القرآن والسنَّة، وها هم يشتكون من انتشارِ أدواء الأُمم الخلُقيَّةِ، مثل: الكذبِ، وخيانة الأمانة، وذهاب الحياء، والاحتكام إلى المعايير الماديَّة دون سواها، وكان ينبغي أن يتشرَّبوا الأخلاقَ الكريمة كبارًا وصغارًا، ولا يسمحوا بخوارِمِها على أيِّ مستوًى كان؛ ليسعدوا بذلك ويكونوا قدوةً للأممِ.
إنَّ استواءَ الرؤية اللاَّ دينيَّة على حياتنا منذ دخولِ الاستعمار الغربيِّ بلادَنا مصيبةٌ كبرى لم يقتصر ضررُها على تنحيةِ الأحكام الشرعيَّة - وهذه التَّنحية هي أنكرُ المنكرِ، وأبطلُ الباطل، وأكبرُ المصائبِ - لصالحِ الشَّرائع الأرضيَّة، بل امتدَّ شيئًا فشيئًا إلى العقول والقلوب والضَّمائر، حتى طال الأخلاقَ ليعطِّل مفهومَها الاجتماعيَّ، ويتناولَها بالحصْر والبتْر والفصْل عن وقائعِ الحياة العامَّة، ثمَّ يُوهِنَها حتى على المستوى الفرديِّ تحت ذرائعَ شتَّى.
نعَم، نحن - بحمدِ الله - أكثرُ الأُمم تمسُّكًا بالأخلاقِ، رغْم الهجمةِ العَلمانيَّةِ المركَّزة، لكنِّنا نخشى إنْ لم نبادرْ برفع ذكرِها في النُّفوس والأذهانِ والسُّلوك الفرديِّ والاجتماعيِّ - أن يخفَّ وزنُها، وتتآكلَ صورتُها، فنكونَ كأولئك المتديِّنين الذين يحرصون على الطُّقوس، ولا يبالون بالبُعد الإيمانيِّ والخلُقي، فقسَت قلوبُهم، وفسَدت أخلاقُهم، وساءت سُمعتُهم، وكانوا فتنةً للأتقياءِ الأبرارِ، وسُبَّة تُلصقُ بدينِ الله.
وجميلٌ أنْ نهتمَّ بالفكر الإسلاميِّ، ونردَّ على الشُّبهات، ونبيِّن محاسنَ الإسلام الاجتماعيَّةَ والحضاريَّة، وندعوَ إلى تحكيمِ شرع الله، لكنَّ هذا كلَّه يجبُ أن تلازمَه الدَّعوةُ إلى الأخلاق، والتَّحلِّي بها على أوسع نطاقٍ ممكنٍ، وهل فتح بلادَ إِفريقيا وآسيا - قديمًا - سوى الأخلاقِ الكريمةِ التي عرَضها الدُّعاةُ والتُّجار، من خلال سِيرتِهم الطيِّبةِ، ومعاملاتِهم الحسنةِ على الشُّعوب، فدخلت قلوبَ النَّاس بغير استئذانٍ؟
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك