بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
رسالة تذكير إلى خطباء المساجد
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ من أجلِّ العبادات وأرفع الطاعات و أفضل القربات التي يتقرب بها بعض أئمة المساجد إلى رب البريات هي خطبة صلاة الجمعة أيها الإخوة والأخوات، فهي مناسبة عظيمة وفرصة ثمينة لنصح و تذكير المصلين بما ينفعهم في الدارين، يقول أرحم الراحمين : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت :33].
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:"هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي:لا أحد أحسن قولا،أي:كلاما وطريقة،وحالة ( ممن دعا إلى الله)بتعليم الجاهلين،ووعظ الغافلين والمعرضين،ومجادلة المبطلين،بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها،والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن والزجر عما نهى الله عنه،وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه.
خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه،ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن ، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن الدعوة إلى الله ، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه،وسعة جوده،وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله.
ومن الدعوة إلى الله،الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله،وسنة رسوله،والحث على ذلك , بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك ،الحث على مكارم الأخلاق ،والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان،والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين.
ومن ذلك،الوعظ لعموم الناس في أوقات المواسم والعوارض والمصائب بما يناسب ذلك الحال ، إلى غير ذلك مما لا تنحصر أفراده مما تشمله الدعوة إلى الخير كله،والترهيب من جميع الشر.
ثم قال تعالى:(وعمل صالحا) أي: مع دعوته الخلق إلى الله،بادر هو بنفسه إلى امتثال أمر الله بالعمل الصالح الذي يرضي ربه .(وقال إنني من المسلمين) أي : المنقادين لأمره ، السالكين في طريقه،وهذه المرتبة تمامها للصديقين،الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل".تفسير السعدي (ص 749)
لكنَّ الذي يُحزن المؤمن أيها الأفاضل ما يراه ويسمعه من المخالفات التي يقع فيها بعض الخطباء عند قيامهم بهذه العبادة الجليلة و المهام النبيلة، والله المستعان.
لذا أحببت أيها الكرام أن أشير في هذه العُجالة إلى أمثلة منها والتي قد تعتبر من أهمها،وهذا كله من باب النصح والبيان والتذكير لإخواننا الخطباء الذين هم قدوة وأسوة للمصلين، يقول الإمام الشوكاني –رحمه الله- :" والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ ".فتح القدير (1/137 )
فلعل أرحم الراحمين أن ينفع بها مقيدها وقارئها ومن تصله من المسلمين،فمن أهم هذه المخالفات أيها الإخوة والأخوات :
- أن من الخطباء من يجلس على المنبر بعد دخوله مباشرة دون أن يلقي على المصلين السلام فيترك بالتالي ما كان يفعله خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام،فعن جابر – رضي الله عنه- أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم:" كان إذا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ ". رواه ابن ماجة ( 1109) ، وحسنه الشيخ الألباني – رحمه الله-.
يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله- : " و الحديث يَدُلُّ على مشروعية التسليم من الخطيب على الناس بعد أن يَرْقَى المنبر وقبل أن يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ ". نيل الأوطار (3/ 321)
-ومنهم كذلك من يبدأ خطبته بالسَّجع الذي لا يخلو في الغالب من التكلف والتقعر في الكلمات واستعمال العبارات التي قد لا يفهم معناها طلبة العلم فضلا عن عامة الناس لأنها تحتاج إلى قواميس اللغة و كتب غريب الألفاظ حتى تُفهم!، بعيدا أيضا بفعله هذا عن هدي نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا ".زاد المعاد (1/ 186)
-ومنهم أيضا من يجعل خطبته سردا لأحداث الأسبوع السياسية أو المناسبات الثقافية ! أو الأعياد الوطنية! التي هي في حقيقتها ليست شرعية وإنما بدعية، ويترك هذا الخطيب ما يحتاجه الناس من تعلم أمور الدين ومن أهم ذلك ترسيخ توحيد رب العالمين ، و الحث على التمسك بسنة خير المرسلين ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ...".زاد المعاد (1/ 427)
فيخالف بفعله هذا ما كان عليه إمام المرسلين و رسول رب العالمين ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته فيملأ القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا ومعرفة الله وأيامه".زاد المعاد (1/ 423)
وهذا لا يمنع من أن يتطرق الإمام أحيانا إلى بعض الأحداث التي قد تقع خلال الأسبوع ويحتاج الناس إلى التنبيه عليها ومعرفة الصحيح والفاسد منها، فهذا الفعل مطلوب وقد كان يفعله رسول علام الغيوب، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم".زاد المعاد (1/ 189)
-ومنهم كذلك من لا يرفع صوته أثناء الخطبة و خاصة عند ذكر ما فيه ترهيب كما كان يفعل رسول العزيز الرقيب نجده في خطبته كأنه يقرأ كتابا لنفسه! فلا نشعر أن هناك فرقا في أسلوبه وإلقاءه بين الترغيب والترهيب ، فعن جابر بن عبد الله– رضي الله عنهما- قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حتى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يقول صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ". رواه مسلم ( 867)
يقول المناوي – رحمه الله- :" (إذا خَطَبَ) أي وعظ (احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ) أي صارت صفته صفة الغضبان، وهذا شأن المنذر المخوف فلذلك قال (كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ ) أي كمن ينذر قوماً من جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم (يقول صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ) أي أتاكم وقت الصباح أو المساء، أي كأنكم به وقد أتاكم كذلك، شبه حاله في خطبته وإنذاره بقرب القيامة بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم بقصد الإحاطة بهم بغتة، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمر عيناه ويشتد غضبه على تغافلهم، فكذا حال النبي عند الإنذار".التيسير بشرح الجامع الصغير(2/246)
-ومنهم أيضا من يُطيل في خطبته إطالة مملة تؤثر على المستمعين حيث تمنع من تحقيق الفائدة المرجوة من الخطبة وهي الاتعاظ و التأثير على المصلين، يقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله- :"أهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضا لطوله، ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له، وذلك لا يكون إلا مع القلة ". الاستذكار( 2 /364)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" فالأولى أن يقصر الخطبة؛ لأن في تقصير الخطبة فائدتين:
1- ألا يحصل الملل للمستمعين؛ لأن الخطبة إذا طالت لاسيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب، ولا يبعث الهمم فإن الناس يملون ويتعبون.
2- أن ذلك أوعى للسامع أي: أحفظ للسامع؛ لأنها إذا طالت أضاع آخرها أولها، وإذا قصرت أمكن وعيها وحفظها". شرح الممتع ( 5/65)
وهذا الفعل من القرائن الدالة على عدم فقه الخطيب!وقلة علمه!، فعن عمار بن ياسر – رضي الله عنه- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ من فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ ". رواه مسلم ( 869)
يقول المناوي – رحمه الله- :"( إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ) بضم الخاء أي طول صلاته بالنسبة إلى قصر خطبته (مَئِنَّةٌ) مفعلة بنيت من أن المكسورة المشددة (من فِقْهِهِ) أي علامة يتحقق بها فقهه، وحقيقتها مكان لقول القائل أنه فقيه (فَأَطِيلُوا ) أيها الأئمة الخطباء ( الصلاة ) أي صلاة الجمعة (وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ) لأن الصلاة أفضل مقصود بالذات والخطبة فرع عليها ". التيسير بشرح الجامع الصغير ( 1/ 322)
فأين فعله هذا أيها الأحبة الأخيار من هدي وسنة رسول العزيز الغفار ، يقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله- :"أما قصر الخطبة فسنة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله ". الاستذكار ( 2 /363)
فعليه أن يجعل خطبته قصدا حتى لا يتسبب في تنفير وملل المصلين ويقتدي بهدي سيد الأنبياء والمرسلين، فعن جابر بن سَمُرَةَ– رضي الله عنه- قال:" كنت أُصَلِّي مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا ". رواه مسلم ( 866)
يقول العظيم آبادي – رحمه الله- :" القصد في الشيء هو الاقتصاد فيه وترك التطويل، وإنما كانت صلاته صلى الله عليه واله وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس ، والحديث فيه مشروعية إقصار الخطبة، ولا خلاف في ذلك واختلف في أقل ما يجزئ على أقوال مبسوطة في كتب الفقه ".عون المعبود ( 3 / 316)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" والقصد معناه التوسط، الذي ليس فيه تخفيف مخل ولا تثقيل ممل". شرح رياض الصالحين (2/231)
لكن ينبغي أن نعلم أن الحاجة إذا دعت إلى الإطالة فلا بأس بذلك مع مراعاة عدم المشقة على المستمعين ، وهذا الذي كان من هدي خير المرسلين، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"وكان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة".زاد المعاد (1/ 427)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي". شرح الممتع ( 5/65)
فاعلم يا من ولاك الله جل وعلا للإمامة وتذكير المسلمين أن هذا الأمر ليس فقط من قبيل التشريف وإنما هو كذلك تكليف ،وستسأل عنها يوم القيامة،فعن عبد الله بن عمر–رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الذي على الناس رَاعٍ وهو مسؤول عن رَعِيَّتِهِ...". رواه البخاري(853) ومسلم (1829) واللفظ له.
يقول الإمام النووي –رحمه الله-:"قال العلماء :الراعي، هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه ،والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" .شرح صحيح مسلم (12/213).
فحافظ على هذه النعمة العظيمة والمنحة الكريمة، وذلك بشكر الكريم الرحمن ، ثم أن تكون خطبتك على هدي رسول العزيز المنان ، وإياك أن تجعلها فقط! من قبيل الوظائف الدنيوية فتصبح عندك من قبيل العادات! لا من العبادات! فلا تشعر باللذة الإيمانية عند القيام بها ، واحذر أشد الحذر من أن تنقل فيها أحاديث لا تصح فهذا من الكذب على خير المرسلين وقد تتسبب بفعلك هذا في إضلال الكثير من المصلين ، يقول الشيخ الألباني – رحمه الله- :" من المصائب العظمى التي نزلت بالمسلمين منذ العصور الأولى انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، لا أستثني أحداً منهم، ولو كانوا علماءهم، إلا من شاء الله منهم من أئمة الحديث ونقاده. كالبخاري، وأحمد، وابن معين، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم.
وقد أدَّى انتشارها إلى مفاسد كثيرة، منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية، ومنها ما هو من الأمور التشريعية". السلسلة الضعيفة (1/47)
فهذه أيها الأحبة الكرام بعض المخالفات التي قد انتشرت بين كثير من خطباء المسلمين ، وعليهم أن يحرصوا على تركها و العمل بهدي خير المرسلين إذا أرادوا الخير لهم وللمصلين بإذن رب العالمين.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفق أئمة مساجد المسلمين لكل ما فيه خير لهم وللمأمومين ، وأن يجعلهم هداة مُهتدين ، ولهدي خير المرسلين من المتبعين الدَّاعين، فهو سبحانه ولي ذلك وأرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك