02-15-2015, 07:44 AM
|
مشرف
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2013
المشاركات: 7,826
|
|
وما توفيقي إلا بالله
وما توفيقي إلا بالله
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق : 4].
أيها المسلمون:
يتأمَّل المرءُ فيمن حولَه ويقلِّبُ النظرَ في المحيطين به، فيرى هذا نشيطًا في طاعة ربِّه، مُقبلاً على عبادته، تخفُّ نفسُه لكلِّ خيرٍ، وتمتدُّ يدُه إلى كلِّ برٍّ، يريد الإصلاح ويُسْهِم فيه، ويصنع المعروفَ ويُعين عليه، ويرى ذاك كسولاً عمَّا يقربُه إلى مولاه، غافلاً عن شُكْر نعمته، يُسيء ولا يُحْسِن، ويقْطع ولا يَصِل، ويُفْسِد ولا يُصْلِح، ويخذلُ ولا يُعين، ويرْجِع المرءُ البصرَ كرَّة أخرى، فيتأمَّل حالَ الناسِ في دُنْياهم، فيجدُ الجادَّ الحريصَ على ما ينفعه، ويُلفي الهازلَ العاجزَ عمَّا فيه مصلحته، بل ويرى المشتغلَ بما يضرُّه ويهلك نفسَه، وفي جانب آخرَ أعمق وأدقّ يرى العلماء والدُّعاة والوعَّاظ، يقضي كثيرٌ منهم حياته بين عبادة ودعوة، ونفْع للناس، ونشر للعلم ودعْم للخير، ثم لا يزال على هذا حتى يتوفَّاه ربُّه والأَلْسِنة لا تكلُّ من الثناء عليه، وطلب الرحمة له كُلَّما ذكرته.
وآخرون يتذبْذَبون يَمنة ويَسرة، ويلمعُ نَجمُهم فترة ثم يخبو فترة، بل وقد يتحوَّلون دُعاة للباطل مُثيرينَ للفتنة، مُضلين للناس ببعض أقوالهم الشاذَّة وأفعالهم المنْكَرة، وقد يمضي بعضُهم إلى ربِّه والأمة بعده تتجرَّع مَرارة شبهاته وتكتوي بنار ضلالاته، ويتساءل المرءُ بعد ذلك: ما بالُ هذا التنوع في دنيا الناس وما مَنْشَؤه؟! أليس لكلِّ منهم قلبٌ وعقْل وفَهْم؟! أليسوا يسمعون ويبصرون؟! وحينئذ يأتيه الجوابُ من طرفٍ خَفِيٍّ: بلَى، إنهم لكذلك، وقد يملك بعضُهم من القدرات ما يعجز عنه الآلاف من الناس، ولكنَّه التوفيق والخذلان، نعم، إنه توفيق الله لمن عَلِمَ فيه الخير، وخذلانه لمن عَلِمَ أنه دون ذلك، قال الإمام ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وقد أجمعَ العارفون بالله أن التوفيق: هو ألا يَكِلَك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك، فالعبيد متقلِّبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينالُ نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه، ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه، ويسخطه ويغفْل عنه بخذلانه له، فهو دائرٌ بين توفيقه وخذلانه، فإنْ وَفَّقه فبفضله ورحمته، وإنْ خَذَلَه فبِعَدْله وحِكْمته، وهو المحمود على هذا، وهذا له أتمُّ حمدٌ وأكْمله، ولم يمنعِ العبد شيئًا هو له، وإنما منعَه ما هو مجرَّد فضله وعطائه، وهو أعلمُ حيث يضعه وأين يجعلُه.
ويقول قائل - أيها المسلمون -: وما الفائدة من استحضار مثل هذا؟! وهل لي في جلب التوفيق لنفسي يدٌ، فأجتهدَ في جلبه وأسعى إليه؟ وهل أملكُ دفْع الخذلان عنها، فأعملَ على دفْعه ورفْعه؟! فيقال: أما الفائدة من استحضار مثل هذا، فإنها كبيرة وعظيمة؛ ذلك أنه متى استحضر العبد هذا وأعطاه حقَّه، عَلِم شدة ضرورته إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظٍ، وأنَّ إيمانَه وتوحيدَه بيد ربِّه - تعالى - لا يمسكه إلا هو - سبحانه - ولو تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ ووكَلَه إلى نفسه، لضلَّ وزَلَّ، ولفقَدَ إيمانَه وسُلِبَ توحيدُه، ولعَجَزَ عن أن يعملَ من الصالحات شيئًا، وأمَّا مفتاح التوفيق الذي يجمل بالعبد معرفتُه واستعمالُه والاحتفاظُ به، فإنه الافتقارُ إلى الله والالتجاء إليه والإقبال عليه، وصدقُ الرغبة والرهبة إليه، وسؤالُه التوفيقَ والاستعاذة به من الخذلان، فمتى أعطى الله العبدَ هذا المفتاح، فقدْ فتحَ له التوفيق، ومتى أضلَّه عنه، بَقِيَ بابُ الخير دونه مُرتجًا، وعلى قَدْر نيَّة العبد وهِمَّته ورغبته في الخير، يكون توفيق الله - سبحانه - له وإعانته إياه، فالمعونة من الله تنزلُ على العباد على قَدْر ثباتهم ورغبتهم ورهْبتهم، والخذلان ينزلُ عليهم على حسب ذلك، والله - سبحانه - أحكمُ الحاكمين، وأعلمُ العالمين، يضعُ التوفيقَ في مواضعه اللائقة به، ويضعُ الخذلان في مواضعه اللائقة به، وكلَّما كانتْ نفْس العبد شريفة كبيرة، لم ترضَ من الأشياء إلا أكملها وأعلاها، ولم تقبلْ منها إلا أفضلها وأسماها، ولم تشتغلْ إلا بأحمدِها عاقبةً وأوفاها، وكُلَّما كانتِ النفس دنيئة صغيرة، لم تَحُمْ إلا حول صغائر الأمور، ولم تقعْ إلاَّ على الدنيء منها والحقير، كما يقعُ الذبابُ على الجروح والأقْذار؛ قال - سبحانه -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 - 10]؛ أي: أفلح من كَبَّرها وكَثَّرها ونَمَّاها بطاعة الله، وخابَ مَن صغَّرها وحقَّرها بمعصية الله، ومِن عَدْل الله أنَّ كلَّ نفسٍ تميلُ إلى ما يناسبها ويشاكلها؛ قال - تعالى - : ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾ [الإسراء: 84]؛ أي: على ما يشاكله ويناسبه، ويوافق أخلاقَه وطبيعتَه، ويجري على طريقته ومَذْهبه، ويُطابق عاداته التي أَلِفَها وصفاته التي جُبِلَ عليها، فالمؤْمن يعمل بما يُشاكله؛ من شُكْر المنعِم ومَحبَّته والثناء عليه والتودُّد إليه، والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله، والفاجر يعمل بما يُشبه طريقته من مقابلة النِّعم بالمعاصي والإعراض عن المنعِم المتفضِّل، وإذا عَلِمَ الله - سبحانه - مِن قلبِ عبدٍ أنه سيشكر وفَّقه للخير وزاده، وإذا عَلِمَ منه أنه سيكفرُ خَذَلَه وتخلَّى عنه؛ قال - سبحانه -: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 22 - 23].
وقد وفَّق الله - تعالى - برحمته نبيَّه سليمان - عليه السلام - لَمَّا أنْعَمَ عليه فشكَرَ؛ ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]، وخَذَلَ بعدْلِه قارون حيث كفر؛ ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78].
ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأحسنوا النيَّة، واسألوا ربَّكم التوفيقَ، ولا تتواكلوا على جهودكم، ولا تعتمدوا على قُواكم، واحمدوا الله الذي: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7 - 8]، واستعينوا بالله ولا تعجزوا؛ فإنه:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى
فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْه اجْتِهَادُهُ
قال بعضُ السلف: فواتحُ التقوى حُسْن النيَّة، وخواتيمها التوفيق، والعبد فيما بين ذلك بين هَلَكات وشُبُهات، ونفْس تحطب على شلوها، وعدو كائد غير غافلٍ ولا عاجز، ثم قرأ: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، ويُروَى عن سالم بن عبدالله أنه كتب إلى عمر بن عبدالعزيز - رحمهما الله - قائلاً: اعْلمْ يا عمر أن الله - تعالى - عون للعبد بقدْر النيَّة، فمن تمَّت نيَّتُه، تمَّ عونُ الله - تعالى - له، ومن قصرتْ عنه نيَّتُه، قَصُرَ عنه من عون الله - تعالى - بقدْر ذلك، وقد قال الله - تعالى - في تصديق ذلك: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35]. فجعل سببَ التوفيق إرادة الإصلاح؛ فذلك هو أول التوفيق من الموفِّق المصلِح للعامل الصالح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21].
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - كما أمركم، ينجزْ لكم ما وعدَكم؛ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2 - 3].
أيها المسلمون:
قال بعض العارفين: وكلُّ عملٍ وإنْ قلَّ، لا بُدَّ فيه من ثلاثة معانٍ قد استأثر الله - تعالى - بتولِّيها؛ أولها: التوفيق، وهو الاتفاق أن يجمعَ بينك وبين الشيء، ثم القوة، وهو اسم لثبات الحركة التي هي أول العقْل، ثم الصبر، وهو تمام الفعْل الذي به يتمُّ؛ فقد ردَّ الله - عز وجل - هذه الأصول التي يظهر عنها كلُّ عملٍ إليه، فقال - سبحانه - : ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [هود: 88]، وقال: ﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، وقال - عز وجل -: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، وإنها لتمرُّ بكم - أيها المسلمون - مواسمُ للخير في كلِّ يوم وليلة، ويأتي عليكم مواسمُ سنويَّة للعبادة والتزود من التقوى، وبين هذا وهذا تدعون للمساهمة في الخير، وتُعْرَضُ عليكم مشروعات البر، والموفَّق في كل ذلك مَن وفَّقه الله وسدَّده وأعانه، فقدَّم لنفسه وتنوَّع إحسانه.
إنَّ بين أيديكم رمضان، شهر العبادة والإيمان، وموسم البرِّ والإحسان، فيه صيام وقيام، وتفطير وإطعام، والجمعيَّات الخيريَّة قد أعدَّتِ العُدة لإعانتكم على المساهمة في الخير، وثَمَّة مشروعات لمكاتب الدعوة وجمعيَّات التحفيظ، وإنَّ رمضان لتجتمع فيه عبادات جليلة، مَن جَمَعَها كانَ حقيقًا بموعود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((إنَّ في الجنة غُرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعمَ الطعام، وأفشَى السلام، وصلَّى بالليل والناس نِيام))؛ فاسألوا الله أن يوفِّقكم لإدراك شهر رمضان وصيامه وقيامه والإحسان فيه؛ فإنه لا توفيق إلا بالله، فتوكَّلوا عليه وتوبوا إليه، وقولوا كما قال نبي الله شُعيب - عليه السلام - : ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110].
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|