بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها .
الصبر على تحصيل العلم الشرعي
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ من أعظم ما يُوفق إليه العبد بعد نعمة الإسلام والتمسك بهدي خير الأنام أيها الأحبة الكرام أن يُيَسر له التفقه في دين العزيز العلام، فعن معاوية – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من يُردْ الله به خيرًا يُفقِّه في الدِّين ".رواه البخاري (71) ومسلم (1037)
يقول ابن بطال –رحمه الله-:" وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه". شرح ابن بطال على صحيح البخاري (1/154)
لكنَّ نيل هذا الشرف الكريم و تحصيل هذه المرتبة الرفيعة لا يكون بعد توفيق العزيز الوهاب إلا ببذل ما يُعين على تحصيلها من أسباب ومن أهمها بعد إخلاص النية و صدق الطلب أن تُبذل فيها الأوقات وتُستغل فيها الطاقات ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية ".مفتاح دار السعادة ( 1/ 108)
لأنَّ حكمة العزيز الحكيم اقتضت أنَّ معالي الأمور لا تُنال بالنعيم ، وإنما تُدرك بعد توفيق رب العالين بالعبور على جسر التعب والسير على طريق النَّصب ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حفَّ الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ".شفاء العليل (ص 225)
ويقول أيضا –رحمه الله- :" إذ المصالح والخيرات وَاللَّذَّات و الكمالات كلهَا لا تُنال إِلَّا بحظ من الْمَشَقَّة ولا يعبر إليها إِلَّا على جسر من التَّعَب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النَّعيم لا يُدْرك بالنعيم". مفتاح دار السعادة (2/15)
وأنه بحسب البذل و العطاء والصبر على المشاق تكون العواقب والنتائج، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" بِحَسب ركُوب الْأَهْوَال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة،فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لَذَّة لمن لا صبر له،ولا نعيم لمن لا شقاء لَهُ، ولا راحة لمن لا تَعب له". مفتاح دار السعادة (2/15)
لقد عرف من سبقنا من الصالحين مكانة العلم وأدركوا شرفه، فصرفوا لتحصيله معظم أوقاتهم، وعمروا به أكثر ساعاتهم، وبذلوا من أجل نيله أعلى طاقاتهم ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السُّرى – سير عامة الليل - ، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب ".بدائع الفوائد (3 / 735)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :"العلم التام لا ينال براحة الجسم، لابد من تعب، ولهذا يقال: (أعط العلم كلك تنل بعضه، وأعطه بعضك يفوتك كله). فلابد من تعب، لكن إذا قرأت التاريخ بالنسبة للعلماء الكبار عرفت أنهم يتعبون تعباً عظيماً، يسهرون الليل من أجل مسألة واحدة، ومع ذلك ما يسهرون على مثل هذه الأنوار، بل على شمع يتعب العين عند القراءة في ضوءه، لكنهم مجتهدون لأنهم يعلمون أن هذا جهاد في سبيل الله". لقاء الباب المفتوح ( 14/220)
فمن هؤلاء الأئمة الأعلام على سبيل المثال لا الحصر أيها الأفاضل الكرام : الإمام الحافظ عامر بن شراحيل الشعبي الكوفي (ت : بعد 100) – رحمه الله – قيل له من أين لك هذا العلم كلُّه ؟
فقال –رحمه الله-:" بنفي الاعتماد والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب ".الرحلة في طلب الحديث(ص 196)
ومنهم أيضا الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) –رحمه الله- صاحب الجرح والتعديل حيث قال: "كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة،كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة،فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل،فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك. ثم قال: "إن العلم لا يستطاع براحة الجسد" . تذكرة الحفاظ (3/830)
ومن هؤلاء الأعلام كذلك الحافظ ابن منده، أبو عبد الله محمد بن إسحاق الأصبهاني ( ت :395 هـ)–رحمه الله-، محدث الإسلام الذي رحل في طلب العلم وعُمُره عشرون سنة، ورجع وعُمُره خمس وستون سنة، وكانت رحلته خمساً وأربعين سنة.
يقول الإمام الذهبي -رحمه الله- معلقا على رحلته:"ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلةً منه، ولا أكثر حديثاً منه، مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمائة شيخ". سير أعلام النبلاء (17/30)
ومنهم أيضا الإمام الحافظ الرحال صاحب التصنيفات الكثيرة و الكتب المفيدة - أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي(ت : 507هـ) حيث يقول – رحمه الله- عن نفسه:" بُلت الدم في طلب الحديث مرتين مرة ببغداد ومرة بمكة، كنت أمشي حافيا في الحرِّ فلحقني ذلك، وما ركبت دابةً قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري ".الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي ( ص212)
فهذه التضحيات وهذا البذل من هؤلاء الأئمة الأعلام في سبيل تحصيل العلم لا يُستغرب منهم! لأنه من ظهرت له قيمة الشيء ومكانته ضحى وبذل ما يملك من أجل تحصيله و الظفر به، فهؤلاء علموا أن العلم الشرعي المثمر للخيرات غالٍّ ونفيسٍ فلا يُنال بشيء دنيٍّ وخسيس بل لابد بعد توفيق رب البرية من البذل والتضحية،يقول ابن الجوزي – رحمه الله- :" تأملت عجبا ! و هو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، و يكثر التعب في تحصيله، فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب و السهر و التكرار، و هجر اللذات و الراحة ". صيد الخاطر (ص 445)
فيا طالب العلم إياك ثم إياك أن تُفرِّط في هذه النعمة الكريمة و المنة الجليلة بعد أن وفقك العزيز الرحمن لسلوك طريقها أخلص نيتك لخالقك الكريم واصدق في طلبك للعلم واحرص – رعاك الله - على الاقتداء بمن سبق من الصالحين وعلى سماع أخبارهم وقراءة سيرهم، واحذر أشد الحذر من المعاصي والذنوب التي هي أصل كل بلاء ومصدر كل شقاء ومن أسباب منع التحصيل وحرمان التوفيق، وعليك دائما بالصبر و المصابرة في طلب العلم وإن قلَّ الأعوان ولم تجد سندا من الأهل والأصحاب والإخوان ،والصبر الصبر على الأهوال والخطوب إذا أردت الوصول ونيل المرغوب، يقول الشيخ السعدي- رحمه الله-:"فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر فاز بالنجاح،وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها لم يدرك شيئا وحَصل على الحرمان ". تفسير السعدي ( ص 75 )
واحذر أيضا أشد الحذر – قواك الله- من أن تُصاب بالكسل الذي هو داء خطير ومرض عسير يُثبِّط النفس على فعل الطاعات و يمنعها من عمل الخيرات، يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله- :"الكسل فترة تقع بالنفس، وتثبط عن العمل ".مشارق الأنوار (1/347)
واحرص – رعاك الله- أن تكون دوما همتك عالية في طلب العلم والمبادرة لكل خير لأن علو الهمة من أسباب النجاح والفلاح وضعفها ودنوها سبب للحرمان والخسران، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل ".الفوائد ( ص 144)
فالعلم عزيز وشريف ، والشريف لا يُنال براحة الجسم ، يقول الإمام يحيى ابن أبي كثير – رحمه الله- :" لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ".صحيح مسلم ( 1 /428)
يقول العلامة ابن باز – رحمه الله- :" فالعلماء وطلبة العلم في دور العلم الشرعي على خير عظيم ، وعلى طريق بحمد الله مستقيم ، لمن وفقه الله لإخلاص النية ، والصدق في الطلب. وهنيئا لطلبة العلم الشرعي أن يتفقهوا في دين الله ، وأن يتبصروا فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم ، وأن ينافسوا في ذلك ، وأن يصبروا على ما في ذلك من التعب والمشقة ، فإن العلم لا ينال براحة الجسم ، بل لا بد من الجد والصبر والتعب ، وهذا الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في أبواب المواقيت من كتاب الصلاة لما ساق عدة أسانيد ذكر فيها عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال : (لا ينال العلم براحة الجسم) ، ومقصوده رحمه الله من هذا التنبيه على أن تحصيل العلم والتفقه في الدين يحتاج إلى صبر ومثابرة ، وعناية وحفظ للوقت ، مع الإخلاص لله ، وإرادة وجهه سبحانه وتعالى". مجموع فتاوى الشيخ (7/179)
وفي الأخير عليك أن تعلم يا من وفقت لطلب العلم أن ما تبذله من تعب ومشقة لتحصيل العلم في صغرك وشبابك ستجده بعون خالقك عند تقدم سنك وكبرك، يقول ابن الجوزي – رحمه الله- :"فأما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذُ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم،هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب ". صيد الخاطر (ص 77)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى و صفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه ومن ذلك تحصيل العلم النافع والصبر عليه والتوفيق للعمل الصالح ولكل أنواع الخيرات، وأن يُجنبنا جميعا ما يُبغضه ويأباه ومن ذلك الجهل والكسل وجميع أنواع المنكرات ،فهو سبحانه رب البريات و قريب مُجيب الدعوات.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك