09-17-2020, 11:14 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 348,231
|
|
إصلاح ذات البين
إصلاح ذات البين
يحيى بن إبراهيم الشيخي
الخطبة الأولى
الحمد لله رب المشارق والمغارب، خلق الإنسان من طين لازب، ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب، وخلق منه زوجه وجعل منهما الأبناء والأقارب، تلطف به فنوع له المطاعم والمشارب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، فهي وصية الله الغالية، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].
عباد الله: إن الدين الإسلامي يدعو إلى المحبة والرحمة والتآلف، فالشريعة رغَّبت في جمع القلوب، والإصلاح بين الناس، وأن يكون أمر المسلمين مجتمعًا، وقد جعلت الأخوة أمرًا مرغوبًا فيه، مثابًا عليه لمن قام بحقه، وقد جاءت الأحاديث بإفشاء السلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكل ما من شأنه أن يقرب بين المسلمين، ونهت عن الكذب، و النميمة، و الغيبة، و الهمز واللمز، و السخرية، وعن كل ما من شأنه أن يسيء العلاقة، ويقطع المودة بين المسلمَين، و جاءت الشريعة بكل ما يحفظ العلاقات بين المسلمين ومنها إصلاح ذات البين.
فإصلاح ذات البين - يا عباد الله- من الأمور العظيمة والعبادات الجليلة التي تركها كثيرٌ من الناس، ورغبوا عنها، ونحن في مجتمعٍ مادي تغلب عليه المادة، وتكثر فيه المعاصي، ولذلك فإن الخلافات لابد أن تكثر تبعًا لذلك، وعلى جميع المسلمين وخاصة الدعاة إلى الله أن يعتنوا بأمر اصلاح ذات البين، ومحاولة إزالة ما في النفوس، وهذا من العبادات العظيمة.
عباد الله: الإصلاح فضله عظيم عند الله، قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
فهنيئًا لمن سعى في الإصلاح بين الناس، وهنيئًا لمن ضحى بوقته في البحث عن الأسر المتقاطعة ومعرفة مشاكلها، وحاول أن يصلح بينها ويجمع بين شمل كل متفرقين أو يقارب بين وجهات نظر كل مختلفين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم.
والإصلاح بين الناس واجب، قال الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1].
وهذا أمرٌ لابد منه، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، أصلحوا بين النفوس، قربوا بينها، أزيلوا أسباب العداوة والبغضاء.
أيها المسلمون: إنه من المؤسف الشديد أن تعلم أن هناك أسرًا متشتتة منذ سنوات عديدة، ولا أحد خطر بباله أن يتدخل في الإصلاح بينهما إلا ما شاء الله، بل العجيب أن بعض الجيران لا يسأل عن أحوال جاره ولا يعلم بحاله، فقد تجد بعضهم يعاني من خلافات أسرية وتفكك بين أفراد أسرته، ويتمنى من جاره أن يسمع به فيتدخل لحل مشكلته، ولكن للأسف كل مشغول بنفسه، وكم من إخوان تقاطعوا وتفرقوا عدة سنوات ولم يصلح بينهم أحد.
إن إصلاح ذات البين عبادة عظيمة، لأن منفعته متعدية، وصدقة من الصدقات، بل من أفضل الصدقات، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» رواه البزار والطبراني وحسنه المنذري والألباني. وتلك الصدقة لا يضاهيها تطوعٌ بصلاة أو صيام أو صدقة مالية مهما بلغت، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ » قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: « إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ » رواه أبو داود وصححه البزار. وظهور الإصلاح في المجتمع أَمَنَةٌ له من العذاب، يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] ويعد إصلاح ذات البين من مكارم الأخلاق العظيمة، فقد حث عليها الشرع في أكثر من مناسبة، كما في قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1]. وقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ،...الحديث» متفق عليه.
ولأهمية هذه المكرمة جعل لها الإسلام جزءًا من مصارف الزكاة، تصرف على الغارمين الذين يسعون للإصلاح بين الناس. قال صلى الله عليه وسلم: « أفضلُ الصدقةِ إصلاحُ ذاتِ البينِ » رواه الطبراني في "المعجم الكبير".
إنَّ المكارم كلَّها لو حصلت رجعت بجملتها إلى شيئينِ
تعظيمِ أمر الله جلَّ جلاله والسعي في إصلاحِ ذات البينِ
بل إن الشريعة أجازت للمسلم أن يكذب من أجل أن يصلح بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» رواه أحمد، وقال أحد العلماء: «إن الله أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الإفساد».
إن عملًا بهذه المثابة لجديرٌ أن يكون من خير الأعمال وأبرها، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما عَمِلَ ابنُ آدم شيئًا أفضلَ من الصلاة، وصلاحِ ذات البين، وخلقٍ حسن» رواه البخاري.
نفعني الله وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
عباد الله: نظرًا لكثرة الخلافات والقطيعة بين الأهل والأقارب والمشاكل الأسرية المتكررة، فقد لا يخلو منها حي من الأحياء، فإنه من المشاريع المستحسنة والتي ينبغي أن يعتنى بتوفيرها في كل حي أو في كل مدينة على الأقل، هو مركز اصلاح ذات البين، ليقوم بدور المصلح بين المتخاصمين، ويكون معلومًا لدى الجميع بموقعه ووسيلة التواصل معه، فإن لم يكن مركزًا فيرشح مجموعة ممن يرى فيهم الخير والخبرة في حل مشاكل الناس والإصلاح بينهم، وليعلم أن من يساهم في هذه المشاريع سواء بماله أو بوقته أو بنفسه وأفكاره فإنه على خير عظيم، يؤجر عليه عند الله، ويكفي في ذلك أن يدخل السرور على قلب امرئ مسلم، فكيف بمن يدخل السرور على أسرة أو أكثر.
فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقد قال جل من قائل عليما ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم....
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|