ألم تر كيف فعل ربك بعاد
الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، الولي المَوْلَى، خلقَ فسوى، وقدرَ فهدى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، سبحانهُ وبحمدهُ، أماتَ وأحيا، وأضحكَ وأبكى، وأفقرَ وأغنى، وأسعدَ وأشقى، نعمهُ تترى، وآلاؤه لا تحصى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 6 - 8]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، من اتبعَ هداهُ فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرضَ عن ذكرهِ فإن لهُ معيشةً ضنكًا، ويحشرُ يومَ القيامةِ أعمى: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، من جاءنا بِالصِّدْقِ والهدى، والنورِ والبشرى، وَأَمَرَنا بالبر والتقوى، خاتمُ الأنبياءِ وأفضلُ المرسلينَ، وسيد الورى، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آله نجومُ الدجى، وأصحابهُ شموسُ الضحى، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ وكلُّ من سارَ على نهجهم واقتفى، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا متواليًا.
أمَّا بعدُ:
فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ والعملَ بطاعته، والمجانبةَ لسخطهِ ومعصيتهِ، وأحثُّكم على أفضل ما يُدنيكم منهُ، ويقرِّبكم إليهِ، ويرفعكم عندهُ، تقوى اللهِ يا عبادَ اللهِ، فتقوى اللهِ خيرُ ما تزوَّدتم، وأحسنُ ما عمِلتُم، وأجملُ ما أظهَرتُم، وأكرَمُ ما أسررتُم، وأفضلُ ما ادَّخرتُم، وهي وصيةُ اللهِ لكم ولمن كان قبلكم: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
معاشر المؤمنين الكرام، لَقَدْ دَعَانَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِلنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ فِي حَالِ الْأُمَمِ الغابرة، وَالْحَضَارَاتِ السابقة التي كان لها مواقف وأحداثٌ فيها العبرةُ والفائدة؛ قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [غافر: 82].
فتعالوا بنا اليوم نتدارس قصةَ أمَّةٍ من تلك الأمم الغابرة، مَلِيئَةٍ بِالدُّرُوسِ والعظات، وصدق الله: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
إنها قصةُ قومِ عادٍ: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 6 - 8]، لقد كانتْ عادٌ أمةً مشهورةً بطولِ الأجسامِ وبَسطتِها وقوَّتِها، وشِدَّةِ بطشها، يبلغ طولُ الرجلِ منهم اثنا عشرَ ذراعًا: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69]، وكانوا عربًا يسكنون في منطقة الأحقاف في الربع الخالي، بين حضرموت وعمان، وكانت لهم قوةٌ اقتصاديةٌ وعسكريةٌ عظيمة؛ قال تعالى: ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 129]، وَقد بلغ فِيهِمُ الظُّلْمُ والَجَبَرُوتُ مبلغًا عظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 130]، وبلغ مِن غناهم وتَرَفِهم أنهم ينحتون الجبال بيوتًا فارهين، ويَبنونَها بُنيانًا باهرًا هائلًا من غير حاجة، وإنما لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ والعبثِ، والتفاخر والتطاول، واستعراض الْقُوَّةِ والبراعة؛ قال تعالى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ [الشعراء: 128]، ثم إنهم كانوا أول من عبد الاصنام بعد الطوفان، فأقبلَ هودٌ يَدعوهم، ويُنادِيْهِم في ناديْهِم: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52]، ولكنَّ القومَ طغاةٌ متكبرونَ، عُتاةٌ متمردونَ، فقالوا مستهزئينَ: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66]، والأنبياء عليهم السلام لا يَنتصرونَ لأنفسهِم: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [الأعراف: 67،68]، فعارضوه وكذبوهُ، ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 70]، وقالوا: ﴿ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 53 - 54].
فغضِبَ هودٌ عليه السلام، غضِبَ للهِ غَضبةً عظيمة: ﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ [الأعراف: 71]، وبالرغم من أنه عليه السلام كان وحيدًا، ورغم أنهم كانوا كما وصفناهم من القوة والغنى والتمكن، إلا أنه تحدَّاهمْ لوحده أن يُصيبوهُ بسوءٍ، وتلك كانت معجزته التي تحداهمْ بها: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 54 - 57]، ولكنهمْ مغرورون مُتغطرسونَ، فقد ﴿ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾، [الشعراء:136- 137]، بل إنهم تمادوا أكثر، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، فقال اللهُ تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15]، فلما أصروا على الكفر والعناد، أمسَك اللهُ عنهم المطرَ ثلاثَ سنين حتى أجهدهم ذلك، ثم سَاقَ الله إليهم سُحُبَ العذابِ، فلما رأوها ظنُّوها بشائر الغيث، فأقبلوا يتباشرون: ﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾ [الأحقاف: 24]، فجاءهم الرد ساحقًا ماحقًا مروعًا: ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 24، 25]، وما أقلعَت الريح عنهم حتى اقتلعتهم من ديارهم، ثم تَضْرِبُ بأحدِهم الْأَرْضَ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ، وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَالنَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا سَعَفٍ، هكذا أهلكهم الله: ﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6 - 8].
أُهِينوا بأهونِ شيء، هواءٌ ساكنٌ تحرك لبعض الوقت، فتحول إلى ريحٍ عاتية، دمَّرت كلَّ شيء بأمرِ ربِها، ﴿ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾، ذهبت القوة إلى غير رجعه، وذهب الغنى والمال، ودُفن العمران الشامخ تحت كثبان الرمال، فهل ترى لهم من باقية، نعم: بقيت عليهم اللعنة الخالدة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ [هود: 59، 60]، بارك الله لي ولكم.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه واخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك....
معاشر المؤمنين الكرام، في قصة عادٍ عبرٌ كثيرة، ودروسٌ بليغة، من تلك الدروس العظيمة: أن نهاية الظلم أليمةٌ، وعقبى الطغيان وخيمةٌ، وأن نهاية الظلمةِ والطغاةِ متشابهٌ جدًّا، تبدأ بالكفر والجحود، ثم الاغترار بالقوةِ المادية، ثم الجرأةُ على حدود اللهِ ومحاربة دينه ومعاداة أنصاره، ثم نزول العذاب والهلاك: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [محمد: 10].
ومن الدروس البليغة المهمة: وما يعلم جنود ربك إلا هو، وهي ولا شك جنودٌ كثيرة، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ [الأحقاف: 21]، فهي إنذارات ربانيةٌ مستَمِرةٌ لا تتوقف، وأنتم تسمعون يا عباد الله بهذا الفيروسِ الجديد، كائناتٌ دقيقةٌ عجيبة، مخلوقٌ متناهي في الصغر، لا يُرى إلا بالمجهر الإلكتروني، لكنه أعجَز البشر جميعًا، خصوصًا أولئك الذين ظنوا أنه لم يبق في الدنيا شيءٌ إلا قد اكتشفوه، أو توصلوا إلى حلٍّ نهائي له، لكن الله تعالى، لا يزال يُظهرُ لهم عجائبَ خلقهِ وقدرته، ومما يُحيرُ به عُقولهم، ويُطِيشُ بألبابهم، ويُفزِعُ قلوبهم، لسان الحال: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]، فيروسٌ عجيب، قاتلٌ مرعب، يغيرُ تركيبته باستمرار، يخترقُ جدار الخلية البشرية، ثم يَصنعُ لنفسه نُسخةً من مورِّثاتها، فلا تتعرف عليه الخلية باعتباره خطرًا عليها، بل تظنهُ غذاءً لها أو جُزءًا منها، فتسمحُ له بالدخول والتكاثر فيها، وهنا تنعدمُ الحيلةُ في علاجه، ولا يستطيع أحدٌ أن يوقِفهُ، إنه جندي من جنود الله, يُسلِطهُ على من يشاء، وما يعلمُ جنود ربك إلا هو، فسبحان الله العظيم، وما قدروا الله حق قدره.
عباد الله، وللإمام ابن القيم رحمه الله توجيهٌ مهم في (زاد المعاد) على قوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]؛ قال رحمه الله: "ولم تزل أعمالُ بني آدمَ ومخالفتهِم للرسل تُحدثُ لهم من الفساد العام والخاص، ما يجلِبُ عليهم من الآلام والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلبِ بركاتِ الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها، أمورًا متتابعة يتلو بعضُها بعضًا"، ثم يقول رحمه الله: "ونزِّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تَحدُثُ الآفاتُ والعللُ كلَّ وقتٍ، في الثمارِ والزرعِ والحيوانِ، وكيف يَحدُثُ من تلك الآفاتِ آفاتٌ أُخرُ مُتلازمة، بعضُها آخذٌ برقابِ بعض، وكلَّما أحدثَ الناسُ ظلمًا وفجورًا، أحدثَ لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفاتِ والعللِ في أغذيتِهِم وفواكهِهِم وأهويتِهِم ومياهِهِم، وأبدانِهِم وخَلقِهِم وصُورِهِم وأشكالِهِم وأخلاقِهِم من النقصِ والآفاتِ، ما هو مُوجِبُ أعمالِهِم وظُلمِهِم وفُجُورِهِم"؛ انتهي كلام الإمام رحمه الله.
وها نحن نسمعهم يتحدثون عن خسائرَ بشريةٍ وماديةٍ هائلة، وتوقف كلي لعجلة الاقتصاد والتصدير، وعن قيامهم بإجراءات احترازيةٍ كثيرةٍ، مُكلفةٍ ومجهِدة، وعن استنفارٍ عامٍ لكلِّ الأجهزة والقطاعات، والنتيجةُ خسائرُ ونفقاتٍ بمئات المليارات من الدولارات، فصدق الله: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
نعم يا عباد الله، إنه تصديقٌ عَملي لقول من لا ينطق عن الهوى، صلوات ربي وسلامه عليه: "خمسٌ إذا ابتُليتم بهن وأعوذ بالله أن تُدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يُعلِنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).
إنها نذرُ الجبار تتوالي علينا، إنها مُقدماتُ عقوبات، يُرسلها ربُّ البريات؛ تنبيهًا للغافلين، وتذكيرًا للسادرين، وإنذارًا للمعرضين، لعل وعسى أن تحيا القلوبُ وتلين، وتؤوبُ بصدقٍ إلى ربِّ العالمين.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 42 - 45].
فيا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك