يا مولى الزبير
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، أيها المؤمنون:
إن لأخبار الصادقين المعلَّقةِ قلوبُهم بالله وقعًا في النفوس، وأثرًا في الائتساء، وسلوةً في التعزي، ورفعًا في الهمة، ومن غُرَرِ تلك الأخبار التي جلَّت متانةَ التعلق بالله ورجاءَه فيما يَدْهم المرءَ من خَطْبٍ، وحسنَ عاقبة أمره، سيما إن كان هذا الأمر مما له ارتباط بأخطر القضايا؛ وهي حقوق الخلق - ما رواه البخاري في صحيحه من نبأ دَيْن الزبير بن العوام رضي الله عنه الذي خلَّفه بعد وفاته، وعهِد لابنه عبدالله رضي الله عنه وفاءه، وكانت ترِكَتُه لا تفي بسداد تلك الديون لولا إعانة الله وبركته؛ قال عبدالله بن الزبير: ((لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني، فقمت إلى جنبه، فقال: يا بُنيَّ، إنه لا يُقتَلُ اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أُراني إلا سأُقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لَدَيْني، أفتُرى يُبقِي دَيْنُنا من مالنا شيئًا؟ فقال: يا بني، بِعْ مالَنا، فاقضِ ديني، وأوصى بالثلث وثلثِ الثلث لبني عبدالله بن الزبير، إن فَضَلَ بعد قضاء الدين شيء، قال عبدالله: فجعل يوصيني بدَيْنه، ويقول: يا بني، إن عجزت عنه في شيء، فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دَرَيْتُ ما أراد حتى قلت: يا أبةِ، من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة من دَيْنه، إلا قلت: يا مولى الزبير، اقضِ عنه دينه، فيقضيه، فقُتل الزبير رضي الله عنه، ولم يَدَعْ دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر، قال: وإنما كان دَيْنه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال، فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سَلَفٌ؛ فإني أخشى عليه الضَّيْعَةَ، وما وليَ إمارةً قط ولا جِبايةَ خَرَاج، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، قال عبدالله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدَّيْن، فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف (مليونين ومائتي ألف)، فلقي حكيمُ بن حزام عبدَالله بن الزبير، فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين؟ فكتمه، فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أُرى أموالكم تَسَعُ لهذه، فقال له عبدالله: أفرأيتُك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أُراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، قال عبدالله: وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبدالله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام: فقال من كان له على الزبير حقٌّ، فليوافِنا بالغابة، فأتاه عبدالله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبدالله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبدالله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم؟ فقال عبدالله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال عبدالله: لك من ها هنا إلى ها هنا، فباع منها فقضى دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدِمَ على معاوية، وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قوِّمت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، وباع عبدالله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا، والله لا أقسم بينكم حتى أناديَ بالموسم (الحج) أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دَيْنٌ فليأتنا فلنقضِهِ، فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، فكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث، فأصاب كلَّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف)).
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون، أرأيتم كيف يعامل اللهُ عبادَه الصادقين حين يُنزِلون حوائجهم عنده، ويقصرون آمالهم فيه، ويتوكلون عليه، ويحسنون ظنهم فيه، ويبذلون وسعهم في بذل أسباب قضاء الحوائج، ذلكم كان صدق الزبير في توكله على ربه، وصدقه مع خلقه؛ إلزامًا لنفسه بردِّ أموالهم؛ ضمانًا بالدَّيْن مع كونها وديعةً لا تضمن، وتثبيتًا لها، وعهدًا بوفائها، وتوصيةً مكررةً بها حتى آخر حياته، وإرشادًا لما يمكن أن تستوفيه أمواله التي غنمها في سبيل الله صافية الحِلِّ، وهكذا كان ظنَّ الزبير بربه ومولاه الذي ادخره له سندًا وعونًا في قضاء دينه، وأرشد ابنَه إلى اللجأ إليه إن اعتراه كربٌ في قضاء هذا الدين، وقد وعى الابن تلك الولاية الربانية، والقدرةَ التي لا يعجزها شيء، والقرب الإلهي لمن اتخذه وكيلًا؛ فكان لَهَجُ جؤارِهِ في ملمَّات قضاء دين أبيه: "يا مولى الزبير، اقضِ دينه"، وسريعًا ما لبَّى المولى نداءه، وأجاب طِلبتَهُ؛ فأنزل بركته على تلك العقارات والرباع؛ وإذ بأثمانها تتضاعف العشرات في وقت وجيز، ويقيِّض لبيعها البائعَ الأمين والمشتريَ الوفيَّ السَّمْح؛ فبلغت الأثمان خمسين مليونًا ومائتي ألف بإذن مولى الزبير؛ فقُضيت تلك الديون التي طالما أرَّقت همَّ الزبير، وأُخرج ثلث المال الذي أوصى به، ورجا ديمومة أجره بعد موته، وفاض المال بعد ذلك؛ ليُنتَظر فيه أربع سنوات علَّ طالبًا أن يظهر، والمال ما زال رابيًا؛ لتكون القسمةُ بعد التأكد من خلو الدائنين على يد الابن البار الأمين الواصل؛ فكان أقلُّ نصيبٍ لوارثٍ مليونَ ومائتي ألف نصيب الزوجة الواحدة من الزوجات الأربع، ولا عجب في ذلك، فهكذا كان ظن الزبير في ربه، وهكذا كان صدقه معه ومع خلقه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني))؛ [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية لمسلم: ((وأنا معه إذا دعاني))، ويقول: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله))؛ [رواه البخاري].
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك