03-08-2016, 11:25 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 349,423
|
|
أخطأ هذا العالم - الدكتور صالح بن فريح البهلال
أخطأ هذا العالم
الخطأ من طبيعة الإنسان، ولا يسلم منه إلا من عصمه الله من أنبيائه ورسله، و(لكل الناس نصيب من النقص، ومقدار من الذنوب، وإنما يتفاضلون بكثرة المحاسن، وقلة المساوىء، فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوىء، دقيقها وجليلها، ظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف فيهم)([1]).
وهذا الأمر معلوم عند الناس، متقرر لديهم؛ لكن عند التطبيق يفشل كثير منهم في اعتباره وإعماله؛ فتراه يتعامل مع الآخرين بالمثالية التي لم يبلغها مع نفسه، ويشنِّع عليهم بالزلة، ويحاسبهم على الهفوة، ومواقع التواصل الاجتماعي شاهدة في ذلك، واسأل الهاشتاق يأتِك بالأخبار؛ فكأن لسان حال هؤلاء مع الناس على ما قيل:
نعاقب من أساء القول منهم ومن يحسن فليس له ثواب
وفيما يلي أمثلة على هذا الداء:
يمضي العالم عمره في نشر العلم تأليفاً وتدريساً، ويأتي منه الخطأ مرة في فتوى أو تأليف، فيحاسب على عدم الصواب، ويساء معه في الخطاب، وربما انُتبذ عنه مكاناً قصياً، دون اعتبار لماضيه الجميل، وعطائه المشرق!
ويبذل الداعية وقته وماله في توجيه الناس، ونصحهم، ويمضي في ذلك سنين عددا، ولا يطلب على دعوته جزاءً، ولا أجراً، ثم تقع منه الزلة، فينسى الناس ماضيه الحسن، ويقفون مع هذه الزلة، ويعيرونه بها، فلا يذكر اسمه إلا مقروناً بها!
ويقطع المعلم من عمره سنين متطاولة موجهاً ومربياً، ثم يقع منه الخطأ، فينسى المجتمع عمره التعليمي، ويغفل عن جهده التربوي، ويحصر تاريخه بهذا الخطأ!
ويكون الرجل إماماً أو خطيباً أعواماً عديدة، منضبطاً في أوقاته، محافظاً على صلاته، متقنة خطبته، ظاهرة فصاحته، فيحصل منه الخطأ مرة في صلاته، أو يزل في بعض خطبه، فيتروى الناس الخطأ والزلل، وينسون انضباطه وإتقانه!
وإن لهذا الداء أسباباً من أظهرها غفلة هذا الناقد عن المنهج الشرعي في النقد؛ فهذه الفعال تجافي قواعد الشرع، وتخالف ميزان العدل، وتجانب أصول الإنصاف.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته، وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه يحمل أدنى خبث)([2]).
وإن المتأمل للهدي النبوي في ذلك ليجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مراعياً لأحوال المخطئ، فلا يغفل حسناته الماضية، ولا تاريخه المشرق بزلة وقع فيها، والأمثلة في السنة كثيرة، أقتصر على مثالين فقط:
الأول: الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ أرسل إلى كفار قريش كتاباً يخبرهم فيه بعزم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في التوجه إلى مكة لفتحها، فأنزل الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ…]، قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ـ حيث الآية([3]).
قال ابن القيم ـ معلقاً على هذا الحديث ـ: (أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ماله من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات)([4]).
ولا يذكر أن صحابياً عيره بهذا الذنب، وقد عاش سنين عددا بعد موقفه هذا!
لقد أقفل ملف القضية بعد قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة.
الثاني: ما رواه أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أما صاحبكم فقد غامر) فسلم، وقال : إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك. فقال : (يغفر الله لك يا أبا بكر) ثلاثاً، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل : أثمََّ أبو بكر؟ فقالوا : لا. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه. فقال : يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟) مرتين، فما أوذي بعدها([5]).
فتأمل في هذا الموقف الذي حاج فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ولم يؤاخذه؛ بل دعا له بالمغفرة؛ نظراً لما له من السابقة العظيمة في الإسلام.
وهنا نقل جميل عن الإمام أحمد، يرويه أبو حاتم، فيقول: (حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة، وسميت له عدداً منهم ، فقال : هذه زلات لهم، لا نسقط بزلاتهم عدالتهم)([6]).
فما أجمل هذا المنهج يشاع بين الناس؛ فتأتلف به قلوبهم، وتجتمع به كلمتهم، ويعذر بعضهم بعضاً.
ولا أغفل في ختام هذا المقال سبباً مهماً من أسباب الوقوع في هذا الداء، ألا وهو العوامل النفسية ـ فهي تلعب دوراً مهماً في الحكم على الآخرين؛ فمن الناس من يكون حبه كلفاً، وبغضه تلفاً، فإذا أحب قبل محبوبه، وستر عيوبه؛ بل عدها محاسن وأفضالاً، على ما قال امرئ القيس:
ألم ترَ أني كلما جئتُ زائراً … وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيبِ
ويقول عبد الله بن معاوية:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة … ولكن عين السخط تبدي المساويا
وإذا أبغض لم يقبل من مُبْغَضِه صرفاً ولا عدلاً، وجعل محاسنه عيوبًا، وحسناته ذنوبًا، وفرح بزلته، وطرب لعلته، فكأن الأول عناه حين قال:
ورب جهول عابني بمحاسني ويَقْبُح ضوءُ الشمس في أعين الرُّمدِ
أو حين قال:
إن يسمعوا سُبةً طاروا بها فرحاً مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوءٍ عندهم أذِنوا
وهذا النوع من النقاد يستعمل معهم ما استعمله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما دخل عليه عيينة بن حصن، فقال: هِيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى أهم أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] وإن هذا من الجاهلين، فما جاوزها عمر ـ رضي الله عنه ـ حين تلاها، وكان وقافاً عند كتاب الله ـ تعالى ـ([7]).
اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
([1]) ينظر: مجموع الرسائل للجاحظ ص201.
([2]) مفتاح دار السعادة1/176.
([3]) أخرجه البخاري ح(4890)، ومسلم ح(2494) من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه . .
([4]) مفتاح دار السعادة1/176.
([5]) أخرجه البخاري ح(4640).
([6]) المسودة لآل ابن تيمية ص265.
([7]) أخرجه البخاري ح(4642).
المصدر : http://s-albahlal.com/?p=363
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|