حكم الغرامات المالية المرورية
د. ضياء الدين عبدالله الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن الالتزام بقانون المرور والتقيُّدَ بإشارات المرور واجب شرعًا؛ لأنها وُضعت لتحقيق المصلحة العامة ودرء المفسدة، بتنظيم السير بقوانين؛ لحفظ النفوس والأموال، وهما من المقاصد الشريعة الضرورية المهمة، ولو استعمل الناس هذه الطرقاتِ متجاوزين هذه القوانين والإشارات، لَحَصَلَ لهم فساد كبير، كما هو مشاهَد ومعلوم.
ولهذا ذهب جمهور العلماء المعاصرين إلى وجوب الامتثال لهذه القوانين التي تحفظ الأرواح والأموال، وعدم جواز خرقها وتجاوزها، وهذا يدخل في طاعة ولاة الأمور التي تجب طاعتهم فيما يحقق المصلحة الشرعية ويدرأ المفسدة المتحققة.
وقد جاء في فتاوى الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله: (نعم، قطع الإشارة محرم؛ لِما فيه من الخطر؛ لأنه قد يقطع الإشارة فيَصدم أو يُصدم، وهذا فيه تعريض النفوس للتلف والقتل، وهو مضرة على المسلمين، ثم مخالفة لولي الأمر الذي أمر بذلك للمصلحة العامة، فلا يجوز ذلك؛ لِما فيه من الأخطار الكثيرة، وعلى أقل شيء أنه مخالف للأمر الذي أمر به ولي الأمر لمصلحة المسلمين، والسمع والطاعة لولي الأمر أمر واجب؛ لما هو معروف، يجب السمع والطاعة لولي الأمر في المعروف فيما هو من مصلحة المسلمين، وهذا من أعظم مصالح المسلمين، ثم مع هذا هو خطر؛ قد يَصدم أو يُصدم وهو يظن أنه يسلم).
وأما إلزام المخالف بغرامة مقدَّرة، فإنه من التعزير بالمال؛ ففيه خلاف بين الفقهاء، وقد ذهب إلى جوازه كثير من العلماء؛ كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وهو قول قديم للشافعي، وبه قال بعض المالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومذهب ابن حزم؛ [ينظر: فتح القدير للكمال بن همام 5/ 345، المهذب للشيرازي 1/ 261، الحسبة في الإسلام لابن تيمية 1/ 49، المحلى لابن حزم 12/ 307].
قال الكمال بن الهمام رحمه الله في فتح القدير [5/ 345]: "وعن أبي يوسف: يجوز التعزير للسلطان بأخذ المال، وعندهما - الإمام ومحمد - وباقي الأئمة الثلاثة لا يجوز، وما في الخلاصة سمعت من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك، أو الوالي، جاز، ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال مبني على اختيار من قال بذلك من المشايخ كقول أبي يوسف".
وقال الإمام الشيرازي رحمه الله في المهذب [1/ 261]: "وقال في القديم: تُؤخذ الزكاة وشطر ماله عقوبة له؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن منعها فأنا آخُذُها وشطر ماله من عزمة من عزمات ...)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الحسبة في الإسلام" [1/ 49]: "التعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضًا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سَلْب الذي يصطاد في حرم المدينة لِما وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل أمره عبدالله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: ((لا بل احرقهما))".
واستدلوا بأدلة كثيرة؛ منها:
• ما رواه الإمام البخاري من توعُّدِ النبي عليه الصلاة والسلام مانعي الزكاة من العقوبة المالية؛ بقوله: ((... ومن منعها فإنا آخذُوها وشطر ماله؛ عزمة من عزمات ربنا عز وجل ...))، وهذا دليل على جواز أخذ المال؛ عقوبةً للعاصي على مخالفته.
• وبما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: ((رأى النبي عليه الصلاة والسلام عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما، قال: بل احرقهما)).
ووجه الدلالة: الأمر بإحراق الثياب المعصفرة دليل صحيح صريح في جواز العقوبات المالية؛ يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم [14/ 55]: "قوله: ((أأمك أمرتك بهذا؟))، معناه أن هذا من لباس النساء وزيهن وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقهما فقيل هو عقوبة وتغليظ لزجره"، وفيه العقوبة بإتلاف المال؛ وهو أمر عبدالله بن عمرو بتحريقها.
• وبفعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ كأمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يُباع فيه الخمر، وأمر عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه؛ حتى لا يحتجب فيه عن الناس.
الخلاصة:
إن الغرامات المالية المفروضة بقانون المرور الذي يسنه ولي الأمر جائز شرعًا؛ لتحقيق المصلحة ودرأ المفسدة، وللحفاظ على المقاصد الشرعية الضرورية من حفظ الأرواح والأموال، ولردع من يستهين بهما، وهذا ما ذهب إليه أكثر العلماء المعاصرين والمجامع الفقهية في العالم الإسلامي.
ومن قرارات مجمع الفقه الإسلامي قرار رقم: 71 (8/2): "مما تقتضيه المصلحة سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها؛ ومنها: التعزير المالي لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور؛ لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى، أخذًا بأحكام الحسبة المقررة... وإن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعًا؛ لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال"، والله تعالى أعلم.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك