مختصر في فقه الجراحات التجميلية
د. محمد بن موسى الدالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه ما زال يستجد في حياة المسلمين من التطورات والإبداعات في سائر الميادين، ما يجعل العلماء والفقهاء في حاجة إلى تجديد النظر الفقهي، بما يتناسب وهذه النازلات، ولعل من أوسع تلك التطورات المستجدات الطبية العظيمة، ولعل أيضا من أهم هذه المستجدات الجراحات التجميلية التي طالت خلق الله تعالى بالتبديل والتغيير، ما بين مباح جائز، وحرام ممنوع، فكان حتما بيان حكم هذه الجراحات التجميلية في مطوية يسيرة، يسهل على كل قراءتها، مع تذييل تلك المطوية بتوجيهات ونصائح إلى الجراح المسلم الذي يقوم على هذه العمليات، من باب التعاون على البر والتقوى.
والجراحة التجميلية يعرفها أهل التخصص بأنها: جراحة تُجرى لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، وقد تكون اختيارية أو ضرورية.
وقبل الشروع في بيان حكم الجراحات التجميلية على وجه التفصيل، يحسن أن نبدأ ببيان الجانب التأصيلي في هذا الباب:
تدور أدلة الشرع في هذا الباب على أصلين عظيمين:
الأول: تحريم تغيير خلق الله، والتطاول عليه بالتبديل والتحويل.
الثاني: جواز إجراء بعض الجراحات إذا كان من باب التداوي وإزالة العيب والضرر.
أدلة الأصل الأول، المحرِّمة لتغيير خلق الله، الموجِبة للعن فاعله، وخروجه من رحمة الله:
أولا: قال تعالى في الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّه ُمْ وَلَأُمَنِّيَنَ ّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُبَتِّكُنَ ّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ) النساء/117، 118 .
قال الشيخ السعدي في قوله: { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ } هذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن.
وذلك يتضمن التسخط من خلقته، والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره. تفسير السعدي 1 / 203.
ثانيا: ما جاء في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَا تِ وَالْمُتَنَمِّص َاتِ وَالْمُتَفَلِّج َاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ..الحديث.
أخرجه البخاري ومسلم
ورواه النسائي بلفظ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَفَلِّج َاتِ، وَالْمُتَنَمِّص َاتِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ). أخرجه النسائي، وصححه الألباني في صحيح النسائي .
قال النووي: " والمراد مفلجات الأسنان بأن تبرد ما بين أسنانها الثنايا والرباعيات ... وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها في السن إظهارا للصغر وحسن الأسنان , لأن هذه الفرجة اللطيفة بين الأسنان تكون للبنات الصغار , فإذا عجزت المرأة كبرت سنها فتبردها بالمبرد لتصير لطيفة حسنة المنظر , وتوهم كونها صغيرة , ويقال له أيضا الوشر , ومنه : ( لعن الواشرة والمستوشرة ) , وهذا الفعل حرام على الفاعلة والمفعول بها لهذه الأحاديث , ولأنه تغيير لخلق الله تعالى , ولأنه تزوير ولأنه تدليس .
وقال الحافظ ابن حجر: قَوْله : ( الْمُغَيِّرَات خَلْق اللَّه ) هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج وكذا الوصل على إحدى الروايات " فتح الباري 17 / 33.
ونقل الحافظ عن الطبري قوله: "لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص، التماساً للحسن لا للزوج ولا لغيره". فتح الباري 17 / 33.
وفي الصحيحين عن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ رحمه الله قَالَ: ( قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ الزُّورَ) يَعْنِي الْوِصَالَ فِي الشَّعَرِ .أخرجه البخاري ومسلم.
وأما أدلة الأصل الثاني، وهو جواز إجراء بعض الجراحات إذا كان من باب التداوي وإزالة العيب والضرر.
أولا: روى أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد حسن عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ رضي الله عنه قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ ?فضة- فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ.
الثاني: ما رواه الإمام أحمد في المسند: " نَهَى عَنْ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ إِلَّا مِنْ دَاءٍ ". وصححه الألباني في غاية المرام (74) .
وللنسائي بسند صحيح : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والواشمة والموتشمة إلا من داء".
قال الشوكاني رحمه الله: " قوله: ( إلا من داء ) ظاهره أن التحريم المذكور إنما هو فيما إذا كان لقصد التحسين، لا لداء وعلة، فإنه ليس بمحرم ". نيل الأوطار6/229.
قال بدر الدين العيني : "ولا يمنع من الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج" عمدة القاري 20 / 193.
وقال النووي: وأما قوله: ( المتفلجات للحسن ) فمعناه يفعلن ذلك طلبا للحسن , وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن, أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس، والله أعلم".شرح النووي على مسلم 7 / 241.
ضابط التغيير المحرم:
بناء على ما تقدم فإن النهي عن تغيير خلق الله ليس على عمومه، فعند النظر في جملة من الأحكام التي جاءت بها الشريعة يجد أنها لم تحرمه على وجه العموم، بل جاء في الشرع ما يفيد كون التغيير مطلبا من مطالب الشرع أو مسنونا أو مباحا غير محرم، وهذا يظهر جليا من خلال الصور الآتية :
-وسم الغنم في آذانها ووسم الإبل والدواب في أعناقها وأفخاذها، وإشعار الهدي،وخصاء مباح الأكل من الحيوان.
-بعض أمور من السنة، كخصال الفطرة : الختان وقص الأظافر وقص الشعر، وغير ذلك .
-العقوبات الشرعية كالحدود والقصاص، كقطع يد السارق، أو القصاص بالجاني، كقطع اليد أو الأنف أو فقأ العين أو كسر السن ونحوه، وهذا تغيير لا شك فيه، لكنه مطلوب للشرع. الجراحة التجميلية لصالح الفوزان(72) وما بعدها.
-في ألفاظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق: ( وَالْمُتَفَلِّج َاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ) فدل على أن النهي إذا كان طلبا للحسن في خلقة معهودة-أي: الخلقة التي جرت السنة الكونية بمثلها-، فالتغيير للعلاج أو إزالة العيب جائز، وهذا مما يضيق دائرة التحريم في الحديث، بل قد قام الدليل الخاص على هذه المسألة بعينها.
الضابط العام للتغيير المحرم:
من خلال ما سبق يمكن صياغة الضابط العام للتغيير المحرم على هذا النحو: ( إحداث تغيير دائم في الخلقة المعهودة بغير مسوغ شرعي ).
وتقييد هذا الضابط بقولنا: ( في الخلقة المعهودة) دالٌّ على جواز التغيير إذا كان لإزالة العيب أو العلاج أو إزالة الضرر، إذ الخلقة في هذه الحال تكون على غير المعهود، فهذا نوع من ردِّها إلى ما كانت عليه، فليس فيه تغيير للخلقة، بل هو ردٌّ لما كانت عليه .
وتدل هذه العبارة أيضا على تحريم كل تغيير فُعِل طلبا للحسن؛ لأن الخلقة تكون معهودة ويقوم من يريد التحسين والتجميل بتعديلها وتغييرها حسب المعايير التي يريدها، فالكبير مثلا، المعهود أن يوجد بوجهه تجاعيد، فتغيير هذا محرم، لما فيه من تغيير الخلقة المعهودة، بخلاف ما إذا وجدت تلك التجاعيد بصبي صغير، فإن العادة والسنة الكونية لم تجرِ بهذا، فيكون علاج هذا من باب العلاج أو إزالة الضرر .
والعيوب التي توجد في الجسم على قسمين:
القسم الأول : عيوب خلقية، وهي العيوب التي يولد بها الإنسان، مثل الشق في الشفة العليا، والتصاق أصابع اليدين والرجلين، وانسداد فتحة الشرج.
القسم الثاني: عيوب طارئة، من جراء حادث أو مرض ونحوه، كالتشوهات الناشئة من الحوادث والحروق، ونحوه، ويلحق بها العيوب الناشئة عن تقدم السِّن.
وجراحة التجميل تنقسم من الناحية التطبيقية الطبية إلى قسمين:
القسم الأول: جراحة التجميل الحاجية، والمقصود ما كانت الحاجة داعية إلى فعله، إلا أنهم لا يفرقون فيها بين الحاجة التي بلغت مقام الاضطرار، والحاجة التي لم تبلغه، وهذا يشمل عددا من الجراحات، يقصد منها إزالة العيب، سواء كان في صورة نقص، أو تلف، أو تشوُّه، فهو ضروري أو حاجي بالنسبة لدواعيه الموجبة لفعله، وتجميلي بالنسبة لآثاره ونتائجه.
القسم الثاني: جراحة التجميل التحسينية، والمقصود بها جراحة تحسين المظهر، وتجديد الشباب، سواء كانت لتعديل الشكل، كتصغير الأنف، وتكبير الشفتين، وتصغير الثديين، ونحوه، أو ما يقصد منه إزالة آثار الكبر والشيخوخة، كشد جلد الوجه واليد، وإزالة الانتفاخ الزائد في الحاجين نتيجة لتقدم السن.
الحكم الشرعي:
بناء على ما تقدم فإن ما كان من باب إزالة الضرر، والعيب، وردِّ الخلقة إلى ما كانت عليه، فإن هذا النوع يجوز، وذلك للآتي:
أولا: أن هذا النوع من الجراحة قام الدليل على جوازه كما تقدم في التأصيل.
ثانيا: أن هذا النوع لا يشتمل على تغيير الخلقة قصدا، لأن القصد منه إزالة الضرر والتجميل والحسن جاء تبعا.
ثالثا: أن إزالة التشوهات والعيوب الطارئة لا يمكن أن يصدق عليه أنه تغيير لخلقة الله؛ وذلك لأن خلقة العضو هي المقصودة من فعل الجراحة، وليس المقصود إزالتها.
أما ما كان من باب التجميل والتحسين المحض، والذي ليس فيه إزالة عيب أو ضرر، فإن هذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية ولا حاجية، بل غاية ما فيه تغيير خلقة الله، والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم، فهو غير مشروع؛ لما فيه من تغيير خلق الله، وعدم الرضا بقضاء الله.
وعليه فالقاعدة في هذا الباب: أن ما كان من باب إزالة الضرر، ورفع العيب، والعلاج من داء، فإن هذا النوع من الجراحات التجميلية جائز، وما كان تحسينيا محضا، وليس له داعٍ، فإنه لا يجوز؛ لما فيه من تغيير لخلق الله.
الجانبي التطبيقي:
لعمليات الجراحة التجميلية تدخل كبير في كثير من أعضاء الجسم، وطردا وتطبيقا للقاعدة السابقة، فإننا نذكر أكثر هذه العمليات تطبيقا، وأكثر ما ترد الأسئلة عنه:
يتبع
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك