ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
فيصل بن يحيى المعافى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد
إن مما يعصر القلب هماً، ويزيده ألماً، ويغرقه في بحريهما حسرة وغماً،، ما يشهده المتأمل لمجتمعنا من شقاق وتنازع بين أطياف الأمة، أفراداً وجماعات، وتتسع رقعة الألم والحزن، والهم والحسرة، عندما تبدأ علامات النزاع بين أعلى طبقات المجتمع مكانة ومنزلة، وهم طلاب العلم والدعوة، وحملة الشرع المطهر.
ولا يتنافى هذا الألم وتلك الحسرة، مع ما كتبه الله على هذه الأمة قدراً، من الاختلاف والفرقة، فقد قال المولى -جل شأنه-: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما نزل قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك) (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) قال: (هاتان أهون) فدل على أنه لابد أن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم..".
ومن المعلوم عند أهل العلم أن الاختلاف مرتبة أخف من الافتراق، والافتراق أشد أنواع الاختلاف، فكل افتراق اختلاف، وليس كل اختلاف افتراق؛ لأن الافتراق لا يكون إلا في الأصول الكبرى، أما الاختلاف فيكون في الفروع.
وعلى كل فكلا الأمرين واقع حتماً لا محالة، بنص حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (وستفترق هذه الأمة.....) الحديث.
ومع كل هذا فإنا مأمورون شرعاً بنبذ الفرقة، وترك التنازع، والبعد عن الاختلاف والشقاق، والعمل على التحلي بأضدادها من الاجتماع والاعتصام، والألفة والتقارب، واللحمة والتماسك.
فقد توافرت النصوص على ذلك قال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
(فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)) حسن كما في صحيح الجامع.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة)) رواه أحمد والترمذيّ.
ولما كان الأمر كذلك، كان من الأسس الأولى التي عمل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على تقعيدها وتأسيسها لأمته، جمع القلوب ووحدتها بين الأوس والخزرج من جهة، وربط المهاجرين والأنصار بأخوة الإسلام والدين من جهة أخرى حتى سطر التاريخ لهم أروع الأمثلة في الأخوة والألفة.
لقد بلغ الاهتمام بهذا الأساس الشرعي، الذي عمل عليه المصطفى إلى درجة غضبه -صلوات الله وسلامه عليه- وهو الحليم، عندما أثار أحد المنافقين ما كان من أمر الأوس والخزرج يوم بعاث حتى تداعا الفريقان السلاح، وخرج يومها -صلى الله عليه وسلم- إليهم غاضباً يجر رداءه، قائلاً: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم)) فما لبثوا أن رموا السلاح، واغرورقت أعينهم بالدمع توبة ورجوعاً
تأمل رعاك الله هذه القصة وستجد فيها ثلاثة دروس:
أولها: أن النزاع قد وقع بين أفضل الخلق وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه فالخلاف والنزاع واقع لا محالة.
ثانيها: ضرورة محاربته والقضاء عليه في مهده من قبل من له المكانة في القلوب.
ثالثها: وجوب الاستجابة من قبل الأطراف المتنازعة، والعودة إلى الحق والرضا، به ما دام واضحاً جليا للعيان (الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
فإن تمادى الخلاف وطال التنازع كان وجوباً عينياً على الأطراف المتنازعة رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) قال ابن كثير (2/346): "فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر".
أخي القارئ إن أعظم داء قد يحول دون الأخذ بهذا التوجيه الرباني، هو سيطرة الهوى والعناد، والانتصار للذات، والتنكر للحق، والانسياق خلف حظوظ النفس الأمارة بالسوء.
وهذا هو والله الداء العضال الذي سيطر على الكثيرين، ممن استسلموا لهوى أنفسهم، فضلوا وأضلوا
قال الإمام الرازي في تفسيره عند قول المولى سبحانه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد إلى أن قال -رحمه الله-: "وأقول: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة".
وهذا في عهده وهو أعلم بحال علماء زمانه منا -رحمه الله-، وحاشا أن يكون علماؤنا من هذا النوع، أو وصلوا إلى هذه المرتبة حفظهم الله وسدد خطاهم، غير أنه لا بد من التنبه والحذر؛ لأن خطوات الشيطان لا تؤمن أعاذنا الله منها.
ولعظم الهوة وبؤسها، ختم الله الآية بقوله: (وأولئك لهم عذاب عظيم) يعني: الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، وفي هذا زجر للمؤمنين عن التفرق الذي وقع فيه أهل الكتاب.
أخي الحبيب: ما كان الله ليتوعد على الافتراق بهذا الوعيد لولا أن خطره عظيم، وخطبه جسيم.
إن الافتراق والتنازع، يعني الضعف والهوان، وانتشار الفوضى والاضطراب وسوء الظن وحصول الفتنة، ومن ثم تسلط الأعداء على الأمة، واستئصالها واستباحة بيضتها، قال الصادق سبحانه: (وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
ومن هنا فإن الواجب على الأمة العمل على ما يلي:
1- بذل غاية الجهد في جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وجعل ذلك خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، أو التهاون فيه.
2- رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة وأقوال العلماء الراسخين في العلم، واتباع سبيلهم، وعدم الخروج عن مسلكهم.
3- قطع الطريق على مرضى القلوب، الذين يشعلون نار الفتنة بين طلاب العلم ممن يريدون بالأمة مزيداً من الانشقاق والنزاع والاختلاف، وسد نوافذهم المتمثلة في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.
4- عدم تجريح الشخص المجانب للصواب، أو الإساءة إلى شخصه، وسوء الظن به، أو همزه ولمزه، أو التشهير به، والاجتهاد في الأخذ بيديه نصحاً وإرشاداً، حتى لا نكون عوناً للشيطان عليه.
5- نبذ الهوى والتعصب وتقديم الحق على حظوظ النفس والذات.
6- الاتجاه إلى المولى بصدق وإخلاص ((اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)).
جمع الله شملنا، ولم شعثنا، ووحد صفنا وكلمتنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك