نهاية العام
عبدالله المؤدب البدروشي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خزائن للأعمال.. وجعل الأعوام مراحل للأعمار والآجال.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.. وبوأها لطاعته.. وأعد للعاملين أجراً كبيراً.. وأشهد أن سيدنا وحبيب قلوبنا محمداً عبده ورسوله.. نبي أخلص لهذا الدين.. وأحب المؤمنين.. وأرشد الأمة لما فيه الخير والعز والتمكين.. اللهم صل عليه في الأولين والآخرين.. وارض اللهم على آله وأصحابه والتابعين.. وعنا معهم بفضلك وإحسانك إلى يوم الدين..
أما بعد... إخوة الإيمان والعقيدة
عام.. شمس غروبه عند الأفق.. لم يبق منه إلا أيام قليلة.. مروره بهذه السرعة.. فيه أكثر من عبرة.. فالأيام التي تمضي.. إنما تمضي من أعمارنا.. فتقربنا من آجالنا.. يعيش الإنسان خمسين عاماً.. إذا التفت إليها.. رآها مرت كأيام.. وصدق ربنا وخالقنا.. الذي أخبرنا.. أن الإنسان يوم القيامة.. يتذكر حياته الدنيا.. فيرى انقضاءها.. كمرور ساعة من نهار.. فقال جل جلاله..: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ) [يونس:45] هذه الساعة اجعلها طاعة.. ما دام الخلق للعبادة.. والوجود كله مسبّح عابد.. فما بال الإنسان.. هو الغافل عن هذه العبادة.!. ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار: 6، 7]. وأمرك بعبادته.. وأنت ترى الأيام تجري.. وترى الموت يتخطاك لغيرك.. وتعلم أن الموت سيتخطى يوماً غيرك ليصل إليك.. فكيف تغفل عن طاعة الله..
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران في العمل
وهذا زمان العمل.. ما دمت حياً.. مادام الليل والنهار.. وأوقات الفراغ.. فاليوم عمل ولا حساب.. وغداً حساب ولا عمل.. فهل من مدكر.. هل من متأمل في هذه الحياة.. حياتنا التي تمضي على عجل.. كم خصصنا منها في اليوم.. لمن سوانا وعدلنا.. ونحن المخلوقون للعبادة.. وبين أيدينا قول خالقنا - جل وعلا -.. ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] مَن مِن المسلمين من لا يعرف هذه الآية.. ؟.. وكم من المسلمين من يطبقها.. ونحن المأمورون بالذكر.. المأمورون بالتسبيح في الصباح والمساء.. نادانا ربنا من سابع سماء.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب 41، 42].. ذكر الله.. حصن لنا في حياتنا.. فأين الذاكرون ذكراً كثيراً.. وأين المسبحون بكرةً وأصيلاً.. ونحن المطالبون بالصلاة وفعل الخيرات.. بنداء ربنا جل وعلا.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].. ينادينا خالقنا.. يا من آمنتم بالله رباً.. اركعوا ركوع الخاشعين.. واسجدوا سجود الضارعين.. واعبدوا ربكم عبادة الطائعين.. وافعلوا الخير.. لا تملوه.. نداء الله واضح.. واصل للأسماع و القلوب.. فلماذا يغفل الغافلون.. والسفر محتوم.. والطريق طويل.. والأيام تجري سريعة.. وها هو العام يمضي.. وها هي المناسبة متاحة.. كي يلتفت المسلم.. إلى عامه الذي قضى.. يحاسب نفسه.. عن صلاته التي صلى.. وهي التي يتوقف عليها أمره يوم القيامة.. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. وقوله في صحيح الترغيب.. (( أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) فعلى المسلم.. أن يقف في هذه الأيام.. وقفة المتدبر.. وقفة المتأمل.. يساءل نفسه.. هل أقام الصلاة.. ؟ أم أداها ساهياً لاهياً.. هل أقامها كما أمر الله.. أم صلاها غافلاً ناسياً.. هل كانت وقفاته أمام خالقه.. حافزاً له على حسن تعامله.. هل بعد الصلاة.. نطق صدقاً.. وأخلص عملاً.. ونصح من حوله.. و فعل خيراً.. هل بعد الصلاة.. غض بصراً.. وأقفل عن الحرام سمعاً.. هل نهته صلاته عن القيل والقال.. والغيبة والتحدث بأحوال الناس.. هل علمته الصلاة.. أن يأكل حلالاً.. وأن يشرب حلالاً.. وأن يلبس حلالاً.. إن وجد هذا.. حمد الله.. واستزاده من فضله.. وإن وجد صلاة.. ولم يجد بعدها طاعة لأوامر الله.. ولم يجد بعدها خشيةً وخوفاً من الله.. بل وجد حاله بعد الصلاة هي حاله قبل الصلاة.. ووجد الدنيا أمامه.. تدعوه للجمع بكل وسيلة.. وتدعوه للتمتع بدون حفيظة.. وقف وقفة المتأمل.. ونظر للحياة نظرة المتبصر.. وهو الذي يعلم علم اليقين.. أن النهاية محتومة بالعودة إلى الله.. وليذكر نداء الله جل جلاله للإنسان.. ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق: 6].. وأنه عند اللقاء.. سيفتح له ( كتاباً يَلْقَاهُ مَنْشُورًا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13، 14] هذا الكتاب.. يحتوي على كل شيء، ( لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].. هذا الكتاب.. يضعه رب العزة- تبارك وتعالى-.. على الميزان.. فهو القائل جل وعلا.. ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].. فلا ينجيه يوم القيامة إلا العمل بشرائع هذا الدين.. أن يصلي صلاة الخاشعين.. وأن يتعامل تعامل الطائعين.. فيتحصن بالتقوى.. وهو الذي سمع كلمات رب العالمين.. ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) وهو الذي يعلم أمر الله لجميع المؤمنين.. في قوله - عز وجل -.. ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197] فيتقي الله.. ويتوب إليه.. وليعلم أن الله حليم.. غفور رحيم.. وأن رحمته يختص بها عباده المتقين.. من عباده المؤمنين.. يقول جل وعلا.. ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156].. وأن الله الذي أحياه.. فإنه قد أمهله ليتوب.. وأبقاه ليعود إليه عودة الخاشع المنيب.. ليجعل من نهاية هذا العام.. نهاية للمعاصي.. نهاية للغفلة عن الله.. وليجعل عامه الجديد.. عام صلح مع الله.. وعام صدق و خير و طاعة لله..
اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين..واكتبنا من المخلصين لك الدين..واهدنا لحسن التعامل و حسن اليقين..
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي و لكم
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك