صبراً آل ياسر
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
الحمد لله الذي وسع كلَّ شيء رحمة وعلماً، وقدّر للبلاء منناً وحِكماً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له معبوداً وحُكماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه دوماً.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله - ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون!
للثبات في معاصيف رياح البلاء نبأ بليغ، تنساب عبرته برداً وصفواً على أفئدة المؤمنين؛ تسليةً، وتقويةً، وتثبيتاً. سيما ما كان في أشد مراحل البلاء وذلك ما قارن بِدْأ رسالة الإسلام؛ إذ الجاهلية مستحكمة، والمسلمون قلة مستضعفون، والدولة للكفر، وعداء أهله للإسلام وأهله شراس، ومكرهم كُبَّار؛ لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة. في تلك الحقبة العصيبة تفاقم بلاء المؤمنين، واشتد كربهم، وكان آل ياسر من أمضِّهم بلاءً وأقلِهم حيلة. بيت عمّ الإيمانُ أهلَه، وخالطت بشاشته سويداءهم؛ فكانوا في سماء الثبات أنجماً للسائرين، وعلامات للمهتدين.
أيها المسلمون!
إن محبة الله - سبحانه - واصطفاءه لهذا البيت جعل ياسراً - رضي الله عنه - يستوطن مكة قبل انطلاق الرسالة المحمدية بعقود من السنين، بعد أن قدم إليها باحثاً مع أخويه عن أخ لهم مفقود، فطاب له البقاء فيها؛ وذاك ما حداه لمحالفة سيد مخزومي من سادات قريش؛ ليتمكن من الحياة آمناً مطمئناً في ذلك المجتمع الجاهلي الذي لا مكان فيه للضعفاء، وتزوج مولاته سمية بنت خياط؛ فأنجبت غلاماً دَعَواه عماراً. وعند بزوغ فجر الإسلام بادر عمار بالدخول فيه وعمره قد ناف الأربعين، وكان سابع الداخلين في الإسلام، فبادر بدعوة والديه الطاعنين في السن فأسلما مذ دعاهما دون تلكؤ أو تباطؤ.
إخوة الإسلام!
طار خبر إسلام آل ياسر إلى بني مخزوم؛ فاستشاطوا غيظاً وحنقاً، وتقاسموا ليَرَدُّنَّهم عن الإسلام أو ليورِدُنَّهم موارد الهلكة. وكان لهم ثلاث سياسات غالبة في التعامل مع كل داخل في الإسلام من أهل مكة: اجتماعيةٍ، وتجاريةٍ، وجنائيةٍ. قال مؤرخ السيرة الإمام مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ - رحمه الله -: "وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الَّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رجال من قريش، إن سمع برجل قَدْ أَسْلَمَ لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنَّبَهُ وَخَزَّاهُ؛ وَقَالَ: تَرَكْتَ دِينَ أَبِيكَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ! لنسفّهن حِلْمك، ولنفلين رَأْيَكَ، وَلَنَضَعَنَّ شَرَفَكَ. وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: وَاللَّهِ لَنُكْسِدَنَّ تِجَارَتَكَ، وَلَنُهْلِكَنَّ مَالَكَ. وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ". وكان آل ياسر من فئة الضعفة الذي لا حول لهم من الخلق ولا ناصر؛ فتسلط عليهم الفجرة بأنكى العذاب، لم يرحموا شيبة الشيخ وضعف المرأة وإلف الموالي. سأل سعيد بن جبير - رحمه الله - ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ! إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونِ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يقولوا له: اللات والعزى إلهان مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ! افْتِدَاءً مِنْهُمْ بما يَبْلُغُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ". وقَالَ عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَأَوْقَفُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ به في شِعَابِ مَكَّةَ (وفي رواية ابن عساكر: "وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف وأعطوه غلمانهم فجعلوا يجرونه بمكة ويلعبون به")، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ" رواه أحمد وصححه الذهبي. هكذا كان تعذيب المشركين لآل ياسر: الزوجين وابنهما عمار، حتى إذا جفت منهم الحلوق، ويبست العروق، وتشققت الجلود، وسالت الدماء - تركوهم في ذلك اليوم ليعيدوا معهم الكرة في غداة اليوم التالي. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدهم بالزيارة في محالِّ تعذيبهم مصبِّراً ومثبِّتاً ومبشِّراً من غير أن يدفع عنهم أذى المشركين؛ إذ ذاك مستطاعه. قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِيَدِي نَتَمَشَّى بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى أَتَى عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَيْهِ (أي: عمار) يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الدَّهْرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصْبِرْ". ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ، وَقَدْ فَعَلْتَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ كما قال الهيثمي، وفي رواية الطبراني: «اصْبِرُوا آلَ يَاسِرٍ؛ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ»، وفي رواية أخرى له: «أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرٍ؛ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ » وكلا رجال الروايتين ثقات كما قال الهيثمي. لم يطل بلاء ياسر - رضي الله عنه -؛ إذ اختاره الله لجواره جراء عذاب الكفرة، وتبقى عمار وأمه يرسفون في أتّون العذاب بعد استشهاد أبيهم زمناً طويلاً. وفي ذات يوم استطال الفاجر أبو جهل سباً مقذعاً في عرض العجوز الضعيفة سمية - رضي الله عنها -، فأغلظت له القول، فتميز الفجرة غيظاً بإهانة سيدهم، فربطوا إحدى رجليها ببعير والأخرى بآخر فانبرى شقيهم أبو جهل - لعنه الله - بحربة فضرب قُبلها؛ فماتت شهيدة، وكانت أول شهيدة في الإسلام. وهكذا ترحّل آل ياسر في موكب الشهداء دون نكوص عن دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وتفرّد ابنهم عمار بالعذاب بعد أن فقد والديه قرة العين أمام ناظريه تحت حمأة العذاب من غير قدرة على نصرتهم. واشتد آذى المشركين عليه؛ حتى كان لا يعلم ما يقول، تارة يضرب، وتارة يحرق، وتارة يغرق، كل ذلك إكراهاً ليرجع عن دينه. وفي ذروة من تعذيب وقع له بلاء شديد فاق كل عذاب، حدّث عنه ابنه محمد قائلاً: "أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ (وفي رواية ابن عساكر عن قتادة: "فغطوه في بئر ميمون حتى أمسى") فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ» "رواه الحاكم وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْن ووافقه الذهبي. وفي رواية ابن سعد أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ عَمَّاراً وَهُوَ يَبْكِي، فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَيَقُوْلُ: "أَخَذَكَ الكُفَّارُ، فَغَطُّوْكَ فِي النَّارِ، فَقُلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ عَادُوا فَقُلْ لَهُم ذَلِكَ". تلكم - معشر المؤمنين - لمحة من شدة بلاء آل ياسر، وما قاسوه في سبيل الإيمان؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون!
الإيمان هو المشهد الحاضر في بلاء آل ياسر في كل أجزائه؛ فبه كان حنق المشركين ونكالهم، ولأجله صبر المؤمنون، واختاروا الموت على الحياة؛ استبقاءً له، وأملاً في ثوابه؛ فكان ذاك سر تثبيت الله إياهم، وبشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. قال هرقل لأبي سفيان محاوراً إياه عن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ "رواه البخاري. وإنك لتعجب من أثر الإيمان حين يخالط القلب كيف يثْبُت صاحبُه؛ مولى مستضعف في دار غربة، وطاعن في السن، وامرأة عجوز ضعيفة، وعذاب يومي شديد، والموت من ذلك العذاب متوقع وواقع، ومع هذا يظل بإيمانه طوداً شامخاً تندق على جنادله ضربات الكفرة دون أن تغيره أو تؤثر فيه. ولنفاسة الإيمان غلا ثمنه؛ وتلك حقيقة استقر عليها يقين آل ياسر فاسترخصوا في سبيله كلَّ نفيس وإن كانت المُهَج. قال السَّرِيُّ بْنُ الْمُغَلِّسِ: "سَمِعْتُ كَلِمَةً انْتَفَعْتُ بِهَا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، كُنْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ تَحْتَ الْمِيزَابِ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُمْ: "أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ مَا طَلَبَ هَانَ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ"؛ فأين تشبّث آل ياسر بإيمانهم ممن فرّط في حفظ إيمانه بصفقة سحت أونظرة إثم أوكلمة فُجْرٍ. وفي بلاء آل ياسر جلاء لعزة المؤمن وإن كان من حظ الدنيا معدماً، أوصى الحسن البصري - رحمه الله - رجلاً قائلاً: "أَعِزَّ أَمْرَ اللهِ أَيْنَمَا كُنْتَ يُعِزَّكَ اللهُ". وبمثل هذه التضحيات الجسيمة - أيها المؤمنون - صَلُبَ بناءُ أهل الإيمان، وغدوا قادرين على حمل رسالته؛ حتى وصل إلينا الإسلام كاملاً نقياً كما شرعه الله - جل وعلا - على أيدي أولئك الصادقين. ألا فلنعرف لأهل الفضل فضلهم، ولنحفظ للصحابة سابقتهم، ولنلهج بدعاء تابعهم إحساناً: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك