عبودية عموم المرسلين (عليهم السلام)
الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
العبودية هي أعظم وأجل وصف لخيرة الله مِن خلْقه الذين أصفاهم الله لرسالاته، وليكونوا سفراءه بينه وبين خلقه، وهم رُسله الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات:171]، فنسب عبوديتهم له سبحانه، وهذا نسب تشريف وتكريم لهم عليهم السلام أجمعين، وقال تعالى في وصفهم أيضًا: ﴿ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ [النمل:59]، وقال سبحانه عنهم أيضًا: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [النحل:2]، وقال سبحانه مزكيًا عبادتهم له سبحانه أيضًا: ﴿ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء:73].
عبودية بعض الأنبياء عليهم السلام أجمعين:
لَما كانت الغاية الأولى من بعثة الرسل جميعًا هي دعوة الخلق إلى توحيد الخلق وإفراده سبحانه بالألوهية ونفيها عن كل ما سواه من خلقه، كانوا هم أولى الناس بتحقيق التوحيد واستحقاق لفظ العبودية؛ لأنهم قدوة لأقوامهم، ولذا فقد وصفهم الله في مواطن كثيرة من كتابه بوصف العبودية الذي هو أجلُّ الأوصاف وأشرفها، كما وصفهم في قوله سبحانه: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .... ﴾ [النحل: 2].
فكانت العبودية من أجلِّ وأعظم أوصافهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45 - 47].
فقال سبحانه: ﴿ مِنْ عِبَادِهِ ﴾، فنسبه إليه نسب تشريف.
قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ﴾؛ أي: الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرًا حسنًا، وقوله: ﴿ أُولِي الأيْدِي ﴾؛ أي: القوة على عبادة اللّه تعالى، ﴿ وَالأبْصَار ﴾؛ أي: البصيرة في دين اللّه، فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير[1].
وقال هنا: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ﴾، فنسَبه إليه نسب تشريف - كذلك.
وهنا نورد ذكر عبودية بعض الأنبياء عليهم السلام أجمعين بأعيانهم: قال تعالى في وصف عبده داود: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص:17]، أُعطي قوَّة فـي العبـادة، وفقهًا فـي الإسلام[2].
وقال في مدح عبده سليمان: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص:30].
﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾؛ يقول: نعم العبد سليمان، ﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ يقول: إنه رجَّاع إلى طاعة الله توَّاب إليه مما يكرهه منه، وقيل: إنه عُنِي به أنه كثير الذكر لله والطاعة[3].
وقال في وصف عبده أيوب: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ﴾ [ص:41].
ثم مدح الله عبوديته لما ابتلاه فصبر على البلاء، فقال سبحانه: ﴿... إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]، ﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ و﴿ أَوَّابٌ ﴾ على وزن فعَّال؛ أي: كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإنابة إليه، وما ذلك إلا لكمال عبوديته.
وامتدح الله يوسف واستخلَصه لعبوديته واصطفاه لما صبر عن معصيته، وتعفَّف عما حرَّم عليه مولاه، فقال اللهُ جلَّ في علاه: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، وكان من تعففه عمَّا حرَّم الله أن تولَّاه الله، ولطف به وصرف عنه السوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وما كان ذلك إلا لاصطفاء اللهِ له لكمال إيمانه وتمام وكمال عبوديته.
وهؤلاء جميعهم من غير أُولي العزم من الرسل - عليهم السلام - وقد قاموا بعبوديتهم لله تعالى وحده لا شريك له على أكمل وأتَم الوجه كما أمرهم الله تعالى، فامتدحهم سبحانه ووصفهم بوصف العبودية التي هي من أجلِّ وأعظم الأوصاف.
وقد اتَّضح فيما مضى أمران ظاهرَا الدلالة على أفضلية النبيين والمرسلين على البشر، وهما:
أولًا: أن الله تعالى اصطفاهم على عموم البشر، فخصَّهم برسالته وبإبلاغ الحق للخلق، فهم سفراء بين الله وبين عباده.
ثانيًا: أنهم أفضل الخلق وأعلاهم منزلةً وقدرًا لكمال عبوديتهم لربهم جلَّ في علاه، وذلك أنهم لَمَّا حقَّقوا عبوديتهم لله تعالى على أتم وأكمل الوجوه، أضحوا أعلى الخلق وأتمهم عبوديةً لخالقهم جلَّ في علاه، ولذلك فهم أكملُ الخلق وأفضلهم جميعًا..
[1] تفسير ابن سعدي: (1/ 714). بتصرف يسير.
[2] تفسير الطبري: (23/ 162).
[3] المرجع السابق: (23/ 182).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك