حكم ملازمة المعتدة بيت الزوجية وعدم انتقالها عنه
د. علي حسن الروبي
مسائل فقهية متعلقة بالمرأة (3)
حكم ملازمة المُعتدة بيت الزوجية وعدم انتقالها عنه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛
أما بعد،،
فقد جعلت الشريعة للمرأة التي فارفت زوجها بوفاته عنها أو بطلاقه لها أحكاماً خاصة لمدة من الزمن، وتسمى هذه المدة العدة، وتتعلق بها بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة.
والعِدَّةُ لغة:
الإحصاء، وهي مأخوذة من العدِّ، وهو الإحصاء، يقال: عدَّ الشيء يعده عَدًّا وتَعْداداً وعَدَّةً؛ إذا أحصاه. وتطلق أيضاً على المعدود، يقال: عدة المرأة: أيام أقرائها، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبا[1].
والعدة اصطلاحاً:
اسمٌ لمدةٍ تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو لتفجعها على زوجها [2].
وقيل: تربصمنفارقتزوجهابوفاةأوحياة[3].
والمعتدة إما أن تكون معتدة من وفاة زوجها وإما من طلاق رجعي[4]. أو من طلاق بائن[5].
وتتعلق بالعدة بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، كترك الزينة وعدم خطبتها فضلاً عن نكاحها، واستحقاقها للنفقة.
وقد تكلم العلماء عن الحكمة من مشروعية العدة وذكروا من ذلك:
1- التعرف على براءة الرحم، والتحقق من خلو المرأة من الحمل؛ حفظاً وصوناً للأنساب من الاختلاط، فإذا تزوجت من زوج آخر يكون ذلك بعد الاستيثاق من فراغ الرحم.
2- صون سمعة المرأة وكرامتها، وذلك بحجبها عن الخروج من البيت، فإن خروجها بمجرد الفراق يجعلها محلاً لأن تتناولها الألسن.
3- سد ذريعة تشوف المرأة للنكاح أو رغبة الرجال في نكاحها، وذلك بمنع من الزينة وتحريم نكاحها أو خطبتها.
4- تسهيل السبيل إلى مراجعة الزوج زوجته إذا كان الطلاق رجعياَ؛ حرصاً على إبقاء رابطة الزوجية
5- إظهار التأسف على فقدان الزوج كما في عدة الوفاة، وتعظيماً لحقه، ومراعاة لمشاعر أهله وأقاربه
6- موافقة الطبيعة البشرية، فالنفس يعتريها الحزن عند حلول مصيبة الموت، فكان السماح للمرأة بترك الزينة وغيرها في وقت العدة مما ينسجم مع طبيعة النفس البشرية [6].
لزوم المعتدة بيت الزوجية وعدم انتقالها عنه
من الأحكام الخاصة بالعدة ملازمة المعتدة لمنزل الزوجية، وعدم مفارقته إلا لضرورة وعذر[7].
قال عبد الوهاب المالكي: " ولا يجوز لمعتدة من وفاة أو طلاق أن تنتقل عن بيتها التي كانت فيه حتى تنقضي عدتها إلا أن تخاف عورة منزلها أو تدعوها ضرورة لا يمكنها المقام معها [8].
وقال الحصني الشافعي: " يجب على المعتدة ملازمة مسكن العدة فلا يجوز لها أن تخرج منه ولا إخراجها إلا لعذر نص عليه القرآن العظيم قال الله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ ﴾ [9]، فلو اتفق الزوجان على أن تنتقل إلى منزل آخر بلا عذر لم يجز، وكان للحاكم المنع من ذلك؛ لأن العدة حق الله تعالى وقد وجبت في ذلك المنزل، فكما لا يجوز إبطال أصل العدة كذلك لا يجوز إبطال صفاتها"[10].
وقال البهوتي الحنبلي:
" (ورجعية في لزوم منزل) مطلقها لا في الإحداد (كمتوفى عنها) زوجها نصا لقوله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ ﴾ [11]، وسواء أذن لها المطلق في الخروج أو لا ; لأنه من حقوق العدة وهي حق لله تعالى فلا يملك الزوج إسقاط شيء من حقوقها كما لا يملك إسقاطها أي العدة" [12].
وثمة اتفاقات واختلافات بين الفقهاء في بعض المعتدات دون بعضٍ، ولنبين أحكام كل حالة:
أولا: المعتدة من طلاق رجعي
إذا كانت المعتدة مطلقة طلاقاً رجعياً فقد اتفق العلماء على أنها تلزم بيت زوجها ولا تخرج منه حتى تنقضي عدتها [13].
قال ابن عبد البر: " وأجمعوا أن المطلقة طلاقاً يملك فيه زوجها رجعتها أنها لا تنتقل من بيتها" [14].
وقال الكاساني:" نهى الله تعالى الأزواج عن الإخراج والمعتدات عن الخروج، وقوله تعالى ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ﴾[15]، والأمر بالإسكان نهي عن الإخراج والخروج ولأنها زوجته بعد الطلاق الرجعي لقيام ملك النكاح من كل وجه فلا يباح لها الخروج كما قبل الطلاق إلا أن بعد الطلاق لا يباح لها الخروج وإن أذن لها بالخروج بخلاف ما قبل الطلاق؛ لأن حرمة الخروج بعد الطلاق لمكان العدة وفي العدة حق الله تعالى فلا يملك إبطاله بخلاف ما قبل الطلاق؛ لأن الحرمة ثمة لحق الزوج خاصة فيملك إبطال حق نفسه بالإذن بالخروج، ولأن الزوج يحتاج إلى تحصين مائه والمنع من الخروج طريق التحصين للماء؛ لأن الخروج يريب الزوج أنه وطئها غيره فيشتبه النسب إذا حبلت [16].
والأصل الذي استدل به العلماء في ذلك قوله تعالى ﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلَّا أن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾[17]، فهو نهيٌّ عن إخراج المعتدة من بيت زوجها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها، ودليل ذلك أنه أباح الإخراج حال إتيانها بفاحشة، ولو كان النهي متوجها إلى إخراجها من بيتها أو بيت وليها لما علقه على ذلك؛ فإن المرأة لا تخرج من بيتها ولو أتت بفاحشة. وإضافة البيوت للنساء مع كونها ملك للأزواج؛ لتأكيدِ النَّهيِ وبيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها أملاكهُنَّ، كما نهى عن خروج المرأة المعتدة ولو بإذن زوجها[18].
قال الطبري: "وقوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾[19]، يقول: وخافوا الله أيها الناس ربكم فاحذروا معصيته أن تتعدوا حده، لا تخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق حتى تنقضي عدته"[20].
وقال القرطبي:" أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾[21]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾[22]، فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: ﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ ﴾[23] يقتضي أن يكون حقا في الأزواج، ويقتضي قوله: ﴿ وَلا يَخْرُجْنَ ﴾[24] أنه حق على الزوجات" [25].
والحاصل أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة، فلها النفقة والسكنى والميراث في حال مات الزوج في عدتها، وعليها أيضاً ألا تخرج من بيته إلا بإذنه كما أن الزوجة ليس لها أن تخرج من بيته إلا بإذنه، وإنْ صرح بعض الفقهاء بأن الرجعية لا يجوز لها الخروج لغير ضرورة أو حاجة وإن أذن الزوج لها في الخروج؛ لأن عدم الخروج في العدة من حقوق الله وليس من حقوق الزوج فلا يسقط بإسقاطه له.
ثانياً: المعتدة من طلاق بائن (المبتوتة)
الكلام في لزوم المعتدة من طلاق بائن لمنزل الزوجية وعدم انتقالها عنه مبني على الخلاف الفقهي المشهور بين الفقهاء في مسألة حكم النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثاً، وقد اتفق الفقهاء أن المطلقة البائن إن كانت حاملاً فلها النفقة والسكنى[26]، أما إن كانت حائلاً غير حامل؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال مشهورة [27]:
القول الأول:لها النفقة والسكنى، وهو مذهب الحنفية وبه قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، والبتي، والعنبري.
القول الثاني: ليس لها النفقة ولا السكنى، وهو مذهب الحنابلة والظاهرية، وقول علي، وابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاووس، والحسن وعكرمة وميمون بن مهران، وإسحاق، وأبي ثور.
القول الثالث: لها السكنى وليس لها النفقة، وهو مذهب المالكية والشافعية. وهو قول عمر، وابنه وابن مسعود، وعائشة، وفقهاء المدينة السبعة.
وعلى هذا فيكون خلاف العلماء في لزوم المعتدة من طلاق بائن لمنزل الزوجية وعدم انتقالها عنه منحصراً في قولين:
القول الأول: يلزمها الاعتداد في بيت الزوجية.
وينبغي أن يكون هذا قول الحنفية والمالكية والشافعية.
فقد قال الحنفية: " (وتعتدان) أي معتدة طلاق وموت (في بيت وجبت فيه) ولا يخرحان منه" [28].
"وقال أصحابنا: لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها من بيتها الذي كانت تسكنه" [29].
وقال المالكية:
" ولا يجوز لمعتدة من وفاة أو طلاقٍ أن تنتقل عن بيتها التي كانت فيه حتى تنقضي عدتها إلا أن تخاف عورة منزلها أو تدعوها ضرورة لا يمكنها المقام معها [30].
وقال الشافعية: " ولا يجوز للمبتوتة ولا للمتوفى عنها زوجها الخروج من موضع العدة من غير عذر؛ لقوله تعالى:﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾[31] "[32].
القول الثاني: تعتد حيث شاءت.
وينبغي أن يكون هذا قول الحنابلة والظاهرية.
فقد قال الحنابلة:" وأما المبتوتة: فلا تجب عليها العدة في منزله، وتعتد حيث شاءت" [33].
قال المرداوي: " وهذا المذهب. نُصَّ عليه. وعليه الأصحاب"[34].
وقال الظاهرية: (وتعتد المتوفى عنها، والمطلقة ثلاثا، أو آخر ثلاث والمعتقة تختار فراق زوجها حيث أحببن ولا سكنى لهن، لا على المطلق، ولا على ورثة الميت، ولا على الذي اختارت فراقه، ولا نفقة، ولهن أن يحججن في عدتهن،وأن يرحلن حيث شئن)
[35].
أدلة الأقوال
أدلة القول الأول:
أما المنقول:
1- فقوله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾[36]. قال القرطبي: ". والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل"[37].
وقد دلت الآية على استحقاق السكنى في جميع المطلقات بلا فرق بين رجعية وبائنٍ؛ فإن الله تعالى كما حرّم على المطلقة الخروج، فكذلك حرّم على الرجل إخراج المطلقة، فدّل ذلك على وجوب السكنى لها قِبل الزوج، وأنه يلزمها أن تعتد في منزله.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فذكر الله عز وجل المطلقات جملة لم يخصص منهن مطلقة دون مطلقة، فجعل على أزواجهن أن يسكنوهن من وجدهن وحرم عليهم أن يخرجوهن وعليهن أن لا يخرجن إلا بفاحشة مبينة فيحل إخراجهن، فكان من خوطب بهذه الآية من الأزواج يحتمل أن إخراج الزوج امرأته المطلقة من بيتها منعها السكنى لأن الساكن إذا قيل: أُخرج من مسكنه؛ فإنما قيل منه مسكنه وكما كان كذلك إخراجه إياها وكذلك خروجها بامتناعها من السكن فيه وسكنها في غيره؛ فكان هذا الخروج المحرم على الزوج والزوجة رضيا بالخروج معا أو سخطاه معا أو رضي به أحدهما دون الآخر. فليس للمرأة الخروج ولا للرجل إخراجها إلا في الموضع الذي استثنى الله عز ذكره من أن تأتي بفاحشة مبينة وفي العذر. فكان فيما أوجب الله تعالى على الزوج والمرأة من هذا تعبدا لهما، وقد يحتمل مع التعبد أن يكون لتحصين فرج المرأة في العدة وولد أن كان بها والله تعالى أعلم[38].
وقد نوقش هذا الاستدلال بأن هذا الحكم خاص بالرجعية دون المبتوتة بدليل قوله تعالى في نفس الآية: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾[39]، يعني رجعة[40].
وأجيب: بأنه يجوز أن يكون الذي يحدثه نكاحاً. ويجوز أن يكون أول الكلام عاما في الرجعية والمبتوتة، وآخره خاصاً في الرجعية دون المبتوتة[41].
2- قوله تعالى:﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ َ ﴾ [42]
وهذا بالإسكان على عمومه في المطلقات ولم يخص منهن مطلقة دون أخرى [43].
وقد نوقش ذلك أيضاً بأنه في المطلقة الرجعية.
وأجيب بأنه: " لو كان هذا صحيحاً لما قال: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾[44]؛ فإنّ المطلقة الرجعية ينفق عليها حاملاً كانت أو غير حامل، فلما خصها بذكر النفقة حاملاً دل على أنها البائن التي لا ينفق عليها"[45]..
أما المعقول:
1- فبالقياس، وهو على وجهين:
الأول: القياس على المتوفى عنها زوجها؛ فإن الجمهور يرون أن عليها أن تعتد في بيت زوجها- كما سيأتي في المسألة التالية- فمن الأولى أن تجب السكنى للمطلقة ثلاثاً.
والثاني: القياس على الرجعية، والاعتداد في بيت الزوجية ووجوب السكنى لها لا خلاف فيهما بين الفقهاء [46].
أدلة القول الثاني:
أما المنقول:
- فحديث فاطمة بنت قيس: " أن أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍطَلَّقَهَا الْبَتَّةَوَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ وَالله مَالك عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ" وَأَمَرَهَا أن تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: " تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي فَاعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ فَإِذَا أَحْلَلْتِ فَآذِنِينِي" [47].
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تعتد في دار ابن أم مكتوم دليل أن لا سكنى لها على زوجها كما لا نفقة لها، وقد وردت بعض الروايات صريحة في ذلك، إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِمَنْ كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ "[48][49].
قال ابن عبد البر: " لأنه لو وجب السكنى عليها، وكانت عبادة تعبدها الله بها لألزمها ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجها عن بيت زوجها إلى بيت أم شريك ولا إلى بيت ابن أم مكتوم." [50].
وقد نوقش بأن نقل النبي صلى الله عليه وسلم سكناها من بيت أحمائها إلى بيت ابن أم مكتوم ليس فيه إبطال للسكنى، بل فيه نقل لموضع، وهو ما يعني إثباتها لا إبطالها، ولأنه لو أسقط السكنى لتركها تسكن حيث شاءت ولم يؤمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم [51].
وإنما كان نقلها إلى بيت ابن أم مكتوم لعذر إما لاستطالتها على أحمائها أو لكونها استوحشت المكان [52].
وأما المعقول:
فبالقياس على النفقة، فإذا سقطت النفقة فيجب أن تسقط السكنى؛ لاجتماعهما في الوجوب والسقوط، إذْ يجبان بالزوجية ويسقطان بالنشوز، وما دامت المبتوتة قد سقطت نفقتها فينبغي أن تسقط سكناها [53].
ونوقش: بأن السكنى في العدة تختلف عن السكنى في الزوجية، فالسكنى في الزوجية من حقوق الآدميين وهي كالنفقة تسقط باتفاقهما على إسقاطها. أما السكنى في العدة فهي من حقوق الله تعالى فلا تسقط بإسقاطهما لها[54].
القول المختار:
المختار أن المبتوتة يجب عليها السكنى في بيت زوجها وعدم الانتقال عنه إلا لعذر شأنها شأن غيرها من المعتدات من طلاق رجعي أو وفاة؛ صيانة لماء الرجل. وأنه إذا أمكن بقاؤها في بيت الزوجية بالشروط الذي ذكرها العلماء- والتي سنعرض لها في التتمة الآتية- فلا تخرج عن بيت الزوجية.
(تتمة) في كيفية مُقام المطلقة في بيت مطلقها
تقدم أن كلمة الفقهاء متفقة على اعتداد المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وعدم انتقالها عنه، ووقع بينهم خلاف في مكان اعتداد المطلقة البائن كما تقدم. وبقي أن نشير إلى كلام الفقهاء في كيفية مساكنة المطلقة لمطلقها.
وهناك اتجاهات عند الفقهاء في هذا الشأن:
الأول: المنع من مساكنة المطلِّق لمطلقته البائن أو الرجعية.
وهو مذهب المالكية[55]، والشافعية[56].
ويرى هؤلاء تحريم مساكنة المطلق لمطلقته ومخالطته لها ودخولها عليها، وسواء في ذلك عندهم المطلقة البائن والرجعية، وتُعامل معاملة الأجنبيات.
وحجتهم في ذلك أن نصوص تحريم الخلوة والنظر إلى الأجنبية، وهذا ظاهر في المطلقة البائن. أما الرجعية فهم وإن كانوا يقولون إنها في حكم الزوجة، إلا أنهم يستثنون من ذلك الخلوة بها والدخول عليها والاستمتاع بها، ويعللون ذلك بكون الطلاق الذي وقع مضاد للنكاح الذي كان سبباً في الحل، ولا يصح بقاء أحكام الضد مع وجود ضده[57].
وقد أجاز المالكية للمطلق السكنى مع مطلقته في دار واحدة بشرط أن تكون داراً جامعة لها وللناس، ويكون كل واحد منهما في بيت مستقل عن الآخر، بحيث لا تحصل الخلوة المحرمة [58][59].
وأجاز الشافعية كذلك مساكنة المعتدة إذا كانت الدار واسعة مع وجود محرم للمرأة من الرجال أو محرم للرجل من نسائه؛ منعاً للخلوة، وكذا يجوز مساكنتها ولو بدون محرم إذا كانت الدار واسعة، واستقل كل واحد منهما بحجرته التي فيها مرافقه مع كون الممر غير مشترك، فيكون حكمهما كالدارين المتجاورين [60].
الاتجاه الثاني: الجواز في الرجعية والبائن
وهذا مذهب الحنفية[61].
ووجه قولهم أن الرجعية زوجة يجوز لها أن تتزين لمطلقها، وعسى أن يكون ذلك داعية إلى إرجاعها إلى عصمته[62].
أما البائن فيجوز أن يساكنها في دار واحدة لكن يكون كل واحد منهما في غرفة مستقلة وبشرط أن يكون المطلق تأمن المرأة على نفسها عنده، وإلا لم يجز وكان عليها أن تعتد في مكان آخر، والأولى أن يترك لها المسكن لتقضي فيه عدتها[63].
الاتجاه الثالث: الجواز في الرجعية والمنع في البائن
وهذا مذهب الحنابلة [64].
أما الرجعية فهم يرونها زوجة يجوز لها النظر إليها والخلوة بها والاستمتاع بها ويجوز لها أن تتزين له [65].
وأما البائن فهم لا يرون عليها وجوب الاعتداد في بيت الزوجية أصلاً، وتعتد حيث شاءت كما تقدم، لكن لا بأس عندهم من اعتدادها في منزله إذا كان المنزل متسعاً وكان للمطلقة حجرة مستقلة بمرافقها، ففي هذه الحالة يجوز وإلا مُنع، ويجوز كذلك -مع فقد الشرط السابق- إذا أمكن للمرأة التستر وكان معها محرم لها تتحفظ به[66].
وتقرير الحنابلة ها هنا قريب من تقرير الشافعية كما ترى.
ثالثاً: المعتدة من وفاة
اختلف الفقهاء في المعتدة من وفاة هل يلزمها الاعتداد في بيت زوجها كالمطلقة الرجعية أم تعتد حيث شاءت؟؟
وهم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليها لزوم بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه.
وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية[67] والمالكية[68] والشافعية[69] والحنابلة[70] وإليه ذهب والثوري والأوزاعي والليث بن سعد، جماعة فقهاء الأمصار، بالحجاز، والشام،والعراق، ومصر [71].
القول الثاني: يجوز لها أن تعتد حيث شاءت.
وهو مذهب الظاهرية[72]، ويُروى عن علي،وابنعباس،وجابر،وعائشة- رضي الله عنهم- وهوقولجابر بن زيد والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح[73].
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
من الكتاب:
- قوله تعالى: ﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلَّا أن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾[74].
قال الشافعي: " فكانت هذه الآية في المطلقات وكانت المعتدات من الوفاة معتدات كعدة المطلقة، فاحتملت أن تكون في فرض السكنى للمطلقات ومنع إخراجهن تدل على أن في مثل معناهن في السكنى ومنع الإخراج المتوفى عنهن لأنهن في معناهن في العدة" [75].
ومن السنة:
- حديث الفُريْعَة بنت مالك بن سنان: « أَنَّهَا جَاءَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ تَسْأَلُهُ أن تَرْجِعَ إلى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ أن أَرْجِعَ إلى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي منزل يَمْلِكُهُ، وَلاَ نَفَقَةٍ، فقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ: نَعَمْ، فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ، أو في المسجد دعانِي، أَوْ أَمَرَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، أَوْ أَمَرَ بِي فدعيت لَهُ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ: كَيْفَ قُلْتِ؟، قالت: فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ »[76]
وفي رواية النسائي: "وقالت: إِنِّي لَسْتُ فِي مَسْكَنٍ لَهُ وَلاَ يَجْرِي عَلَيَّ مِنْهُ رِزْقٌ، أَفَأَنْتَقِلُ إلى أَهْلِي وَيَتَامَايَ وَأَقُومُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ افْعَلِي، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَأَعَادَتْ عَلَيْهِ قَوْلَهَا، قَالَ: اعْتَدِّي حَيْثُ بَلَغَكِ الْخَبَرُ " [77].
وفي رواية ابن ماجه: " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ نَعْيُ زَوْجِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ "[78].
قال الكاساني: "أفادنا الحديث حكمين: إباحة الخروج بالنهار، وحرمة الانتقال حيث لم ينكر خروجها ومنعها من الانتقال"[79].
وقال الباجي:" فأمرها بالمقام وإتمام العدة فيه" [80].
وقال ابن قدامة رحمه الله:" يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها، أو بإجارة أو عارية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفريعة: (امكثي في بيتك)ولم تكن في بيت يملكه زوجها، وفي بعض ألفاظه: (اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك) وفي لفظ (اعتدي حيث أتاك الخبر)، فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه " [81].
يتبع
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك