الغيبة
د. محمد أكجيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فإن من مقاصد الإسلام العظمى وغاياته وأهدافه الكبرى، بناء مجتمع مسلم قائم على المودة والإخاء والمحبة والوفاء، مجتمع متآلف متعاون متراحم، وحيث إن الغيبة من أخطر الأسباب تقويضاً لبناء المجتمع، وإفسادا لألفته ووحدته وتماسكه، فقد أعلن الإسلام تحريمها، وعدَّها من الذنوب العظيمة والآثام الكبيرة.
الغيبة ذكر المسلم أخاه بما يكره، ففي الحديث: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟!"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
وسواء كان من تقع الغيبة عليه فرداً أو أفراداً أو مجتمعاً بأكمله، فبعضها أشد من بعض، وغيبة من يترتب على غيبته ضياع مصلحة للمسلمين، وحصول مفسدة وضرر عليهم أعظم من غيبة من ليس كذلك.
إن من أشد ما يكرهه الإنسان وينفر منه طبعه، أن يتناول لحم ميت ليأكله، وأشد منه غلظة وأكثر منه بشاعة أن يكون ذلك الميت أخاه، بهذه الصورة المستبشعة شبه الله غيبة المسلم لأخيه؛ لينفر الناس منها وليرسخ في نفوسهم شناعتها وبشاعتها، يقول تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه).
وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسخ هذه الصورة ويثبتها في نفوس أصحابه وأمته كلما سنحت الفرصة لهذا الترسيخ والتثبيت. يقول ابن مسعود: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل (أي غاب عن المجلس) فوقع فيه رجل من بعده. فقال النبي لهذا الرجل: "تخلل" فقال: ومم أتخلل؟ ما أكلت لحما. قال: "إنك أكلت لحم أخيك".
وعن جابر قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهبت ريح منتنة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين"..
ولئن كان التعامل بالربا عظيما، فإن التعرض للناس في أعراضهم بالسوء والأذى أشد وأعظم يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: إن أربا الربا (أعظمه وأشده) أن يستطيل الرجل في عرض أخيه".
ذلكم - عباد الله - لأن قاعدة الإسلام في علاج الأخطاء وتقويمها إنما تقوم على الستر على الناس أولا، ثم بذل النصيحة لهم في الخفاء، بما يقوم أخطاءهم ويرشد سلوكهم، ويردهم إلى جادة الصواب، لا بما يكشف أستارهم، ويشيع أخطاءهم ويزيدهم جرأة على المعاصي والذنوب، ويوقع العداوة بين الناس، ويضعف الحس المجتمعي في استقباح الذنوب والنفور منها. نسأل الله السلامة والعافية.
الغيبة سبب للفضيحة، وكشف الله لستره على المغتاب، ففي الحديث: "لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم، فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته، ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته) أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والحديث صحيح بمجموع طرقه.
غيبة الإنسان للناس سبب لبغضهم له ونفورهم منه: ففي الحديث: (شر الناس منزلةً عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
الغِيبة تزيد في رصيد السيئات، وتنقص من رصيد الحسنات وتوجب دخول النار، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوما فقال: " أتدرونَ مَنْ المفلِس؟ قالوا: المفلسُ فينا مَنْ لا درهمَ لهُ ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ مِنْ أمتي مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة.. ويأتي وقد شتمَ هذا وقذفَ هذا وأكلَ مالَ هذا وسفكَ دمَ هذا وضرب هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناته.. فإن فنِيَتْ حسناتُهُ قبلَ أنْ يُقضَى ما عليه أَخذَ منْ خطاياهُم فطُرِحَتْ عليه ثُمَّ طُرِحَ في النار " رواه مسلم.
المستمع للغيبة شريك فيها ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك، ففي الحديث: "من أذل عنده مومن وهو يقدر أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق" وفي حيث آخر: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".
و الغيبة لا تباح إلا لغرض شرعي صحيح؛ كأن يعلن المظلوم عن مظلمته للقاضي لينصفه من ظالمه، وكشهادة المسلم بحق يضيعُ لصاحبه، وكسؤال إنسان عن مصاهرة إنسانٍ أو مشاركته أو معاملته، فيجوز الإخبار بحاله وواقِعه بقدر الحاجة وبنية النصيحة لا التشفي. والمجاهر بالمعاصي لا تحرم غيبته في خصوص ما يجاهر به، إن أُمِنَ شَرُّهُ؛ حتى ينزجر عن ذنبه ويجتنب الناس سوء فعله.
الخطبة الثانية
وأمام ما سبق من النصوص الناهية عن الغيبة وما تحمله من الوعيد الشديد، ليس للمسلم إلا أن يقف موقف الخائف الوجل من ربه المشفق على نفسه ملتمسا سبيل الخلاص من هذا الداء، وما منا إلا مقل ومستكثر.
ألا وإن علاج هذا الداء إنما يكون بمعرفة الأسباب الباعثة عليه أولا، ثم بالاجتهاد في قطعها ثانياً.
وأهم الأسباب الباعثة على الغيبة: الحسد، الرغبة في التشفي من الخصم، رفع النفس بتنقيص الآخرين، اللعب والهزل، وموافقة الأقران ومجاملة الرفقاء، وقلة الخوف من الله وهو أعظمها.
علاج هذا المرض يكون بقطع تلكم الأسباب، وأن يستشعر المغتاب أنه يعرض نفسه لغضب الله ومقته، وأن حسناته يوم القيامة تنقل إلى المغتاب إليه، فإن لم يكن له حسنات، نقل إليه من سيئات خصمه ثم طرح بها في النار عياذاً بالله.
وإذا عرضت الغيبة للإنسان تفكر في عيوب نفسه واشتغل بإصلاحها، واستحيا أن يعيب وهو معيب.
وأن يحذر الإنسان تلبيس الشيطان عليه في أنه حين لا يقول إلا الصدق في من يغتابه، أنه لا يفعل بذلك حراما، مستحضرا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لمن سأله: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته".
وعلى المسلم أن يتحلل مما صدر منه من غيبة أحد من المسلمين قبل الفوات وقبل الممات، ففي الحديث: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليأته فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده درهم ولا دينار". هذا إن بلغت الغيبة المغتاب بها، وإلا جعل مكان استحلاله الدعاء له وذكره بالخير حيث ذكره بالسوء؛ حتى لا يترتب على إخباره سوء وضرر بينهما.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعيننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والمراء والجدال، اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة، وجنبنا الوقوع في الأعراض، اللهم جنبنا الوقوع في الأعراض.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك