الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليماُ كثيرا
أما بعد
فقد تكلمنا في المجلسين السابقين عن تحقيق الآثار الواردة في تفسير هذه الآية ثم تكلمنا عن تحقيق قول الجمهور في هذه المسالة
واليوم سنكمل الحديث عن الخطوة الثانية
فنقول وبالله التوفيق
(( الخطوة الثانية ))
المعنى الظاهر والمتبادر من هذه الآية ﴿و لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾
وحتى نستطيع أن نعرف المعنى الظاهر والمتبادر للذهن من هذه الآية فالمفترض أن نتجرد عن جميع ما قيل في هذه الآية من أقوال المفسرين ، ونرجئها إلى وقت آخر .
فإن هذه الآية نزلت أولاً على النبي u وقرأها على أصحابه رضي الله عنهم، وفهمها الصحابة وعلَّموها نساءَهم حتى يعملن بمقتضاها ،ويطبقن محتواها ، وهذا قبل أن يفسرها بن عباس t أو بن مسعود tوغيرهما .
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها أو بيَّن معناها ، مما يدل على أنها ظاهرة المعنى ،واضحة المقصد ، سهلة التطبيق ، يفهمها العربي بسليقته ، ويفقهها الأمي بفطرته.
إذ من المعلوم أن القرآن نزل بلغة العرب ، وبأساليبهم ، فهو لم يخرج عن هذا المفهوم ، ولم يتعد هذا الإطار ، ومع ذلك ، فإن القرآن يتميز أيضاً بأسلوبه الخاص ، وببلاغته الباهرة ، فإنك قد تقرأ شعراً من أشعار العرب ، أو نثراً من كلامهم ، لو أبدلت كلمة مكان أخرى مقاربة لها في المعنى ، أو مشابهة لها في المراد ، فإنه قد يستقيم المعنى ، بل يمكن أن يكون هو الأفصح ، وأدل على المراد مما قاله هذا الشاعر العربي .
بينما ذلك لا يمكن أن يكون ، بل لا يمكن أن يتصور في القرآن الكريم لأنه كما قال تعالى : ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ فصلت42
وكما قال تعالى : ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ النساء82
وقال تعالى : ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾ وغير ذلك من الآيات الدالة على بديع نظم هذا القرآن .
ومن المعلوم أيضاً – كما هو الراجح من أقوال أهل العلم - أنه لا يوجد ترادف بين الكلمات العربية من كل وجه ، بل هناك تقارب في المعنى الأصلي ، مع وجود قدر من التفاوت بين تلك الكلمات .
وعليه فالخلاصة في هذا الباب أن القرآن متميز بأسلوبه ، بديع في نظمه ، عجيب في سبكه.
وحتى لا أطيل بما هو معروف ومتقرر عند الجميع.
فأقول إنه حتى نتمكن من معرفة وجه الصواب في هذه الآية فينبغي علينا :
أن نتعرف على معاني مفرداتها ثم نتعرف على معناها الكلي ضمن السياق والتركيب ثم النظرة البلاغية لهذا التركيب من خلال السياق .
وللدخول في الموضوع فنقول – وبالله التوفيق - :
تضمن هذا المقطع من هذه الآية على ثلاث عبارات :
«العبارة الأولى» النهي في قوله تعالى : ﴿ و لا يبدين ﴾ .
« العبارة الثانية » المنهي عن إبدائه وهو الزينة في قوله تعالى : ﴿ زينتهن ﴾
« العبارة الثالثة » المستثنى في قوله تعالى : ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾.
فأمَّا «العبارة الأولى»
وهي النهي في قوله تعالى : ﴿ و لا يبدين ﴾ .
فإنه يلاحظ أن النهي تسلط على الفعل المضارع (( يبدين )) والمراد= النهي عن إبداء الزينة .
وجيء في النهي بالفعل (( يبدين )) بصيغة المضارع ، بينما جاء عند الاستثناء بالفعل الماضي (( ظهر )).
فما الحكمة من تسليط النهي على الفعل (بدا) وتسليط الإباحة على الفعل (ظهر)
ولِمَ لمْ يقل الله تعالى : ﴿ و لا يظهرن زينتهن إلا ما بدا منها ﴾
أليس ((الإبداء )) و ((الإظهار)) معناهما متقارب في الظاهر؟
أم أن لهما أبعاداً بلاغية، ومقاصد بيانية ، وأساليب يتوجه إليها النظم القرآني، ويكشف عن وجه من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
لا شك أن لهذا مغزىً عظيماً ، وبعداً بلاغياً ، قد نستنبط بعضه ، وقد يخفى علينا وجه هذا الإعجاز البياني
ولهذا يقول بن الأثير في المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (2/145) : ((واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطّلع على أسرارها، وفتّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً وأغمضها طريقاً)) أهـ
فإذا كان الأمر كذلك فلا غرو حينئذٍ أن يكون بينهما تفاوت دقيق في المعنى– وكما بينا سابقاً أنه لا ترادف في المعنى للمفردات اللغوية –
ولهذا حاول أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية (ص287) أن يلتمس الفرق
بين (( الظهور والبدو ))
فقال : ((الفرق بين الظهور والبدو:
أن الظهور يكون «بقصد» و « بغير قصد » تقول : ((استتر فلان ثم ظهر ))، ويدل هذا على قصده للظهور،
ويقال : ((ظهر أمر فلان )) وإن لم يقصد لذلك .
فأما قوله تعالى ﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾ فمعنى ذلك الحدوث وكذلك قولك :((ظهرت في وجهه حمرة )) أي حدثت ولم يعن أنها كانت فيه فظهرت،
والبدو ما يكون بغير قصد . تقول :(( بدا البرق)) و((بدا الصبح)) و((بدت الشمس)) و((بدا لي في الشيء)) لأنك لم تقصد للبدو،
وقيل في هذا ((بدو)) وفي الأول ((بدء))
وبين المعنيين فرق والأصل واحد.)) أهـ كلامه
وفي كلام أبي هلال العسكري نظرٌ ، وذلك أن الفعلين جيء بهما تارة في العمدة والقصد وتارة أخرى في سياق عدم العمد والقصد ، وكل ذلك بالنظر إلى الفاعل ، ونوع الفعل من حيث كونه لازماً أو متعدياً .
فتقول مثلاً :(( بدا مني كذا )) و (( ظهر مني كذا )) وهو فعل ماض لازم ومعناه= ظهر مني بدون قصد .
وتقول (( بدا زيدٌ )) و (( ظهر بكرٌ )) ومعناهما هنا بعمد وقصد .
وتقول (( يبدي زيدٌ كذا )) و (( يظهر بكرٌ كذا )) وهو فعل مضارع متعدٍ ومعناه = إذا تعمد إظهاره .
ولهذا جاء الفعل (( ظهر )) في القرآن
لازماً - وهو الأصل فيه -كقوله تعالى في الآية التي معنا : ﴿إلا ما ظهر منها ﴾
ومتعدياً – بدخول همز التعدية عليه - كقوله تعالى : ﴿ فلما نبأت به وأظهره الله عليه ﴾
وفي هذه الحال ينبغي في ذلك أيضاً مراعاة الفاعل
وهل هو ممن يتصور منه إرادة الفعل أو لا ؟
وبالتأمل في مدلولي هذين اللفظين واستعمالهما في القرآن الكريم ، وفي لغة العرب يتبين التالي:
(( الأول )) أن الإبداء عادة ما يؤتى به في القرآن الكريم في مقابل ألفاظ متعددة مثل ((الإخفاء)) و((الكتمان)) و((المواراة))
1- فأما الإخفاء فكقوله تعالى : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ﴾
2- وأما الكتمان فكقوله تعالى : ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾
3- وأما المواراة فكقوله تعالى : ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ﴾
بينما جاء الإظهار في القرآن الكريم في مقابل الإبطان فقط .
كقوله تعالى ﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾
وقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾
وقوله تعالى : ﴿ والظاهر والباطن ﴾
وقوله تعالى : ﴿ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾
فالذي يظهر أن (( الإظهار )) لا يكون إلا لشيء له (( باطن ))
ولهذا يقال : (( ظاهر الكف وباطنه )) و (( ظاهر الأرض و باطنها )) و(( ظهر الدابة وبطنها )) و (( ظهارة الثوب وبطانته ))
ولهذا يقول الليث كما في تهذيب اللغة (6 / 134): ((الظّهْر : خلافُ البَطْن من كلّ شيء ، وكذلك الظَّهْر من الأرض : ما غَلُظ وارتفَع ، والبطنُ : ما رَقَّ واطمأنّ )) أهـ
ويقول الخليل في كتابه العين (4 / 37) : ((الظَّهْرُ : خلافُ البطْنِ من كلِّ شَيْءٍ )) أهـ
قلت : ولعله من أجل ذلك – والله أعلم - أنَّ هذا المعنى مما يمكن أن يكون استشفه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حينما فسر قوله تعالى ﴿ ما ظهر منه ﴾ بأنه الثياب ، لكون الثياب لها ظهارة و بطانة ، فما يرى هو ظهارة الثوب الظاهر للعين .
((الثاني ))أن الظهور فيه معنى العلو والغلبة ولهذا يقال : ((ظهر الدابة )) و ((ظهر الأرض)) أي أعلاها
ومنه قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
وقوله تعالى : ﴿ كيف وإن يظهروا عليكم ...﴾ وغيرها من الآيات
بخلاف (( البدو )) فإنه فيما يظهر لا يتضمن هذا المعنى .
((الثالث )) أن الظهور يطلق على ما تبين واتضح كله أو أغلبه كقوله تعالى ﴿ ظهر الفساد في البر والبحر﴾ وقوله تعالى :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ فلما كان الظهور للدين كاملاً عبر بالفعل (( ظهر )) لقوله تعالى : ﴿اليوم أكملت لكم دينكم ﴾
ولهذا - والله أعلم - اختص الاستثناء بالفعل (( ظهر )) ليبين أنَّ العفو غير مقدر بمقدار معين ، بل لو ظهرت الزينة كاملةً بغير قصد وتعمد فهو مما يعفى عنه ، لأنه لا إرادة للمرأة في كشفه .
بخلاف الفعل (( بدا )) وهو ما يوضحه الأمر :
((الرابع )) أن الفعل (( بدا )) يطلق ويراد به:
1- بدايات الظهور كقوله تعالى : ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾
فإنهم بمجرد ما رأوا الآيات الدالة على براءته = قرروا سجنه دون أن يخضع لمحاكمة عادلة.
وفي الحديث َعَنِ اِبْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: - نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ اَلثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا, نَهَى اَلْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وذكر النووي ضابطاً لبدو صلاح الثمار فقال في المجموع شرح المهذب (11/ 444) : (( ولا يعتبر في بدو الصلاح إلاَّ أولها )) أي أن ظابط جواز بيع الثمار هو بداية صلاحها وأوله ، ويختلف ذلك باختلاف أجناس الثمار.
2- أو الظهور تدريجياً كقوله تعالى : ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ﴾
فلما كان غرض الشيطان إظهار سوءاتهما وكانت الوسوسة بالتدريج لما في هذا اللفظ من الدلالة على هذا المعنى ناسب أن يؤتى هنا بالفعل
(( بدا ))
ولهذا ذكر الله وصف نتيجة هذا الفعل مرتباً بالتدريج بأدق عبارة
فبدأ الله ببيان تذوقهما للشجرة ، ثم أكلهما منها .
فقال تعالى :﴿ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ﴾ ومعلوم أن التذوق يسبق الأكل
ثم ذكر الله الأكل وهو آخر الفعل فقال تعالى : ﴿ فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما﴾
ومع ذلك ذكر الله الفعل (( بدت )) في كلا الحالين
وفي هذا إشارة إلى أن بدو سوءاتهما كان بالتدريج بدأً بالتذوق وانتهاءً بظهورها كاملةً بعد الأكل .
إذ لو كان بدو سوءاتهما اكتمل بعد التذوق ، لما كان في ذكره بعد الأكل فائدة . والله أعلم .
3- أو الظهور ناقصاً كقول الله تعالى : ﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ فلما كان إظهارهم لها ناقصاً بدليل إخفائهم للكثير منها عبر بالفعل
(( بدا ))
((الخامس )) أن من الفروق أيضاً أن الإبداء جاء في القرآن غالباً في سياق التهديد والتخويف كقوله تعالى ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾
وقوله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
وقوله تعالى : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾
وقوله تعالى : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾
وقوله تعالى : ﴿ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً﴾ ... وغير ذلك .
ولهذا ناسب أن يقترن بالنهي ،في آية النور .
ومن خلال ما سبق يتبين لنا :
أن الفعل ((بدا)) و ((ظهر)) يطلقان على ما ظهر بعمد أو غير عمد وإنما يحدد ذلك السياق مع مراعاة فاعل الفعل وهل هو ممن يتصور منه إرادة الفعل أو لا ؟ .
كما أن الفعل (( ظهر )) يطلق في مقابل ما له باطن ، بينما يطلق الفعل (( بدا )) في مقابل الخفاء والكتمان والمواراة .
ويطلق أيضاً الفعل (( ظهر )) على ما بان واتضح كله أو أغلبه ، بخلاف الفعل ((بدا)) فإنه قد يدل على بدايات الظهور أو ما كان فيه الظهور تدريجياً أو ناقصاً
أضف إلى ذلك أن الفعل (( بدا )) جاء في القرآن في سياق التهديد أو التخويف ولهذا ناسب أن يقترن بالنهي ،في آية النور .
وعليه فالفعل في قوله تعالى ((و لا يبدين )) متضمن تقبيح هذا الفعل - لكونه عادة ما يأتي في القرآن في سياق التخويف والتهديد- سواءٌ أكان هذا الإبداء في بدايات ظهور هذه الزينة أم كان ظهورها ناقصاً أم تدريجياً فكل ذلك قبيح و منهي عنه بدلالة الفعل (( بدا ))
ووجه هذا العموم:
أن النهي في (( لا )) = متسلط على المصدر(( إبداء )) المستكن في الفعل (( يبدين ))
وحيث إنه تسلط على المصدر وهو (( اسم )) حيث إنه أحد مدلولي الفعل ، فهو متضمن في الحقيقة معنى النفي المتسلط على المصدر فكأن المعنى (( لا إبداء زينتهن )) إذ النهي معناه طلب عدم الفعل ، والفعل هو الحدث والمصدر في الحقيقة .
فـ (( إبداء )) مصدر-( أي = اسم )- نكرةٌ جاء في سياق النفي ، ومن المعلوم أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم .
وعليه فهذا النفي المنتزع من أداة النهي (( لا ))يعم مدلول الفعل وهو الحدث أي (( الإبداء )) المتضمن معنى ما كان فيه الإبداء في بداياته أو كان ناقصاً أو تدريجياً ،
وهذا مما يعطي هذا النهي المحرم مزيداً من التقبيح ، والتشنيع ، ولهذا ناسب أن يتسلط عليه النهي، بخلاف الفعل (( ظهر )) ولهذا جاء في جملة الاستثناء .
(( الأمر السابع )) ذكرنا فيما مضى أن الفعل إنما يعرف بكونه صادراً عن عمد أو غير عمد باعتبار النظر إلى فاعله ، من حيث كونُ فاعله ممن يتصور منه إرادة الفعل أو لا ، بالإضافة إلى النظر في نوع الفعل هل هو لازم أو متعدٍ ؟
فالفعل المضارع (( يبدي )) قد تضمن معنى العمد والقصد ، وذلك لإضافته إلى ما يتصور منه إرادة الفعل ، وهو كونه مسنداً إلى ((نون النسوة )) هنا ، وهن ممن يجري عليهن قلم التكليف ، ولهذا تسلط عليه النهي ،لكونه حكماً شرعياً .
بخلاف الفعل الماضي (( ظهر )) المتضمن معنى عدم القصد لعود الفاعل وهو الضمير المستتر على ما لا يتصور منه إرادة الفعل وهي (( الزينة ))
ويوضحه :
(( الأمر الثامن )) أن الفعل (( يبدين )) أسند هنا إلى فاعل عاقل وهو ((نون النسوة )) أو ((نون الإناث))
بينما أسند الفعل (( ظهر )) إلى ضمير مستتر يعود إلى فاعلٍ غير عاقل وهو الزينة
بدليل تعلق الجار والمجرور (( منها )) بالفعل ((ظهر)) ، و( ها ) ضمير يعود إلى مؤنث سبق ذكره في السياق ، وهو الزينة، ولهذا لم يقل ((إلا ما ظهر منهن ))
وبهذا يكون معنى السياق (( و لا يبدي هؤلاء النسوة زينتهن إلا ما ظهر من هذه الزينة ))
فإذا عرفنا أن فاعل الفعل (( ظهر )) مما لا يتصور منه إرادة الفعل دلنا هذا على أن المعفي عنه من حيث الظهور هو ما كان خارجاً عن إرادة المرأة .
إذا اتضح ذلك ننتقل بعدها إلى بيان العبارة الثانية وهي :
« العبارة الثانية »
المنهي عن إبدائه وهو الزينة في قوله تعالى : ﴿ زينتهن ﴾
فمن المعلوم لغة
وعرفاً
واستعمالاً في كلام العرب وفي القرآن الكريم
أن الأصل في الزينة :(( أنها قدر زائد على الشيء ، مما يزين به العضو ونحوه ، وليست هي الشيء أو العضو أو من أصل الخلقة )). .
أما من حيث اللغة :
فقد قال بن فارس في معجم مقاييس اللغة مادة (زين ) : ((الزَّاءُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الشَّيْءِ وَتَحْسِينِهِ. فَالزَّيْنُ نَقِيضُ الشَّيْنِ. يُقَالُ زَيَّنْتُ الشَّيْءَ تَزْيِينًا. وَأَزْيَنَتِ الْأَرْضُ وَازَّيَّنَتْ وَازْدَانَتْ إِذَا حَسَّنَهَا عُشْبُهَا)) أهـ
فقول بن فارس :((إِذَا حَسَّنَهَا عُشْبُهَا)) دالٌ على أن العشب هو زينة للأرض ، وليست الزينة هي الأرض .
وفي لسان العرب : ((الزِّينة : اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُتَزَيَّن بِهِ. والزِّينَةُ: مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ ))
ومثله في القاموس المحيط (مادة ز ي ن)
وأما من حيث العرف
فلا زالت الزينة تطلق ويراد بها : ما تتزين به المرأة أو الرجل من ثياب وحليٍ ونحوهما كالمكاييج والمساحيق والأصبغة ونحو ذلك، وهذا معروف مشهور عند الجميع إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد أن العضو مثلاً مما يتزين به الرجل أو المرأة أصالةً، بل ما يوضع على الوجه واليدين ونحوهما مما يراد به تحسين العضو يطلق عليه زينة .
وهذا مما يكثر استعماله في كتب اللغة مما هو معروف من كلام العرب
فمن ذلك ما قاله بن فارس في مقاييس اللغة :((وَالْعُلْطَةُ:سَوَادٌ تَخُطُّهُ الْمَرْأَةُ فِي وَجْهِهَا تَزَّيَّنُ بِه )) ونحوه ما في المعجم الوسيط - (1 / 297حيث قال : (( الدمام ) الحمرة تزين بها المرأة وجهها وكل ما طلي به)) أهـ
وكذا الخضاب ، والكحل ، والخاتم ، والأسورة ،، والحلي ، والثياب ، وغير ذلك
كل ذلك مما هو معروف مما تتزين به المرأة ، فالزينة شيئ آخر غير العضو .
ولهذا يقول الشاطبي في الموافقات (2/131) : ((فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه ))
أما من حيث الاستعمال القرآني
فلا شك أنه يأتي في المقدمة الأولى من تفسير القرآن = أن يفسر القرآن بالقرآن
فقد يأتي المعنى مجملاً في آية ، ويأتي بيانه وتوضيحه في آية أخرى .
1- إما مقروناً في نفس السورة كقوله تعالى : ﴿ وإذا الرسل أقتت ﴾ فأتى بيانها بعدها بقوله تعالى : ﴿ لأي يوم أجلت ﴾
2- وإما مفروقاً عنها في سورة أخرى كقوله تعالى في سورة البقرة : ﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ﴾ فقد رأى بعض أهل العلم أن المقصود بها ما في سورة الأعراف وهي قوله تعالى حاكياً مقالتهما﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾
ومن تفسير القرآن بالقرآن = أن ينظر في معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهها المعروفة عند العرب
ولهذا يقول بن جرير الطبري في تفسيره (1/321) : ((وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.))
وقال أيضاً (6/309) : ((وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.))
وقال أيضاً (7/509) : ((وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه= حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل.))
وعندما نقل بن جرير الطبري في تفسيره (7/337) قول نوف الشامي في تفسير قوله تعالى : ﴿ والجار ذي القربى ﴾ أي المسلم . قال : ((وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ مَعْنَى لَهُ , وَذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَ كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهُ إِلاَّ إِلَى الأَغْلَبِ مِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ , الَّذِينَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمُ الْقُرْآنُ الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ دُونَ الأَنْكَرِ الَّذِي لاَ تَتَعَارَفُهُ , إِلاَّ أَنْ يَقُومَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.))
وقال منتقداً تفسير من فسر قوله تعالى :﴿ من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها ﴾ قال (8/44) : ((وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، فنردّهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ، فإنه = وإن كان قولاً. له وجه مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. وذلك أن المعروف من{الوجوه} في كلام العرب، التي هي خلاف {الأقفاء}، وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام مَن نزل بلسانه، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه، الذي يجب التسليم له.))
وقال أيضاً (8/578) : ((وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب، سبيل، فنوجِّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون )) أهـ
وقال أيضاً عند تفسير قول الله تعالى في سورة التوبة الآية (47) ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ قال : ((وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: ((وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم)) لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: ((سمَّاع)) وصف من وصف به أنه سمَّاع للكلام، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه:
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: ((له سامع ومطيع)) ، ولا تكاد تقول: هو له سماع مطيع)) أهـ
وغير ذلك من أقواله رحمه الله تعالى في ذلك .
وقال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب (15/415) : ((ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ، ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم.))
وقال محمد علاء الدين أفندى في تكملة حاشية رد المحتار (2/ 231) ((والمطلق من الكلام ينصرف إلى ما هو الغالب في الاستعمال.))
ولما بين النووي في المجموع (6/212) أن معنى قوله تعالى ﴿ وفي سبيل الله ﴾ =أي الغزو في بيان مستحقي الزكاة قال : ((واحتج أصحابنا بان المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن ﴿سبيل الله﴾ تعالى هو الغزو وأكثر ما جاء في القرآن العزيز كذلك ))
ويقول ابن قيق العيد في إحكام الأحكام (ص 264).: «ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو الغالب»
ومن أجمل وأوضح ما يقال ، ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (15/ 88) : ((الْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُعْدَلُ عَنْ لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ))
وقال بن القيم في شفاء العليل (ص 93): (( وقد اختلف في معنى قولهم ﴿قلوبنا غلف﴾
فقالت طائفة : المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به ،
أو لا تحتاج إليك . وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف .
والصحيح قول أكثر المفسرين : إن المعنى قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول .
وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحُمْر...- ثم قال – (( وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ ونظائر ذلك .
وأما قول من قال : هي أوعية للحكمة!!
فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل: قلبي غلاف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية للعلم.)) أهـ
ويقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (1/23): ((ومن أنواع البيان المذكورة في هذا الكتاب المبارك: الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل على عدم خروجه من معنى الآية))
ويقول أيضاً في أضواء البيان (1/166) : (( وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَن غلبة إرادة المعنى المعين في القرآن تدل على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى))
بناء على ما سبق فإن الزينة إذا أطلقت في القرآن الكريم انصرفت إلى ما يتزين به مما ليس من أصل الخلقة ، بل هي منفصلة عنه .
وقد جاءت أدلة في القرآن تؤيد = أن الزينة ليست الشيء وإنما هو قدر زائد على الشيء يراد منها تحسينه وتجميله فمن ذلك :
1- قال تعالى : ﴿ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ القصص79
فقوله تعالى ( في زينته ) فيه إشارة إلى أن الزينة قد احتوته وأحاطت به من كل الجهات فكأنه داخل فيها .فالزينة ليست قارون ،وإنما شيء خارج عن قارونولهذا غبطه أهل الدنيا لا لأنه قارون بل لما معه من الزينة والأموال ولهذا قال الله عقب هذا المقطع : ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ ولهذا قالوا : (( مثل ما أوتي قارون ))
2- وقال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾الكهف7
فما جعله الله على الأرض من النبات والأنهار والجبال واختلاف الألوان زينة لهذه الأرض.
3- وقال تعالى : ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ وهنا المعنى واضح .
4- وقال تعالى : ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ الصافات6
فالكواكب زينة للسماء وليست هي السماء .
5- وقال تعالى : ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾النحل8
فالخيل والبغال والحمير زينة يتزين بها الإنسان في ركوبه ، أي لتركبوها ولتتزينوا بها .وليست هي الإنسان .
وتأمل أن الله تعالى عبر بالفعل للركوب فقال : (( لتركبوها )) ولم يعبر بالزينة بالفعل فلم يقل ((لتتزينوا )) بل عبر عنها بالاسم ، وهذا من أعظم البلاغة ، وقوة البيان ، ليس هذا موطن ذكره .
6- وقال تعالى : ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾
فالزينة ليست هي العباد بل هي مما أخرجها الله لعباده ، فهي شيء منفصل عنهم .
7- وقال تعالى :﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾الأعراف31
وهذا من أوضح الأدلة على أن الزينة قدر زائد على العضو ، وليست هي العضو، حيث أمر الله بأخذ الزينة عند الذهاب للصلاة ، والمسلم لا يقال له : خذ وجهك أو يدك عند الذهاب للصلاة !! وذلك لكونها متصلة بالجسم لا منفصلة عنه ،وهذا ما استدل به أبو إسحاق السبيعي رحمه الله تعالى على صحة تفسير عبدالله بن مسعود tوأن هذا هو الأسلوب المستعمل في القرآن الكريم، وسيأتي مزيد بيان لذلك – إن شاء الله تعالى –
وأما ما قاله الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب (23 / 363) :((المسألة الأولى)) : اختلفوا في المراد ((بزينتهن)) .
واعلم أن الزينة: اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها اللَّه تعالى
وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك .
وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخلقة ، لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها. وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره ، والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة ، ويدل عليها وجهان :
((الأول)) : أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة ، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقة ، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً.
((الثاني )) : أن قوله : ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ﴾ يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار)) أهـ
فيجاب عنه من أوجه :
((الوجه الأول )) أن ما قاله الفخر الرازي لم يستند فيه إلى دليل من اللغة متفق عليه بل لعله عندما رأى اختلاف الأقوال في تفسير هذه الآية ورأى أن من أهل العلم من يقول بأن الزينة هي الوجه والكفان حاول أن يجمع بين هذه الأقوال .
ولهذا قال : ((فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقة ، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً. )) .
(( الوجه الثاني )) أن الفخر الرازي نفسه فسر الزينة في هذه الآية بالثياب فقد قال في تفسيره (14/50) عند تفسير قوله تعالى ﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ قال : ((المسألة الثانية : المراد من الزينة لبس الثياب ، والدليل عليه. قوله تعالى : {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الثياب .
(( الوجه الثالث ))أن المرأة وإن كانت تنفرد بخلقتها عن سائر الزينة ، لكن هذا لا يعني أنه يطلق عليها لفظ زينة ، بل يطلق عليها امرأة حسناء ، وجميلة ، ووضيئة ، ووسيمة ، وقسيمة ،ورائعة ، وباهرة ،..، وغير ذلك .وانظر كتاب فقه اللغة للثعالبي (ص 181) .
(( الوجه الرابع )) وأما استدلاله بقوله تعالى : ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ﴾ فليس في الآية إشارة إلى أن الرأس والوجه والنحر يطلق عليه = الزينة ، بل غاية ما هنالك أنهن أمرن بتغطية ما سبق كما قال الفخر الرازي نفسه في بيانها :(( فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلى في الأذن والنحر وموضع العقدة منها)) أهـ ففرق رحمه الله بين الزينة ومواضعها.
والله أعلم .
(( الوجه الخامس )) أن هذا هو المعروف من لغة العرب والمشهور عنهم ، بل هذا المعنى هو ما قرره الفخر الرازي نفسه حيث قال في تفسيره مفاتيح الغيب (15/415) : ((ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ، ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم.)) أهـ
وبناءً على هذا القول = يكون تفسير الزينة بالوجه والكفين أو مما هو من أصل خلقة المرأة شاذ نادر ينزل منزلة العدم ، كما قرره الفخر الرازي نفسه .
فكيف – بعد ذلك - يمكن تفسير الزينة بأنها الخلقة وقد سبق من كلام أهل اللغة وغيرهم بيان أن الزينة لم تأت في لغة العرب إلا على ما تتزين به المرأة مما ليس من أصل خلقتها .
ولهذا يقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6/214) : ((قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَرْجِعُ جَمِيعُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
((الْأَوَّلُ )):أَنَّ الزِّينَةَ هُنَا نَفْسُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا.
((الثَّانِي)) : أَنَّ الزِّينَةَ هِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ خَارِجًا عَنْ بَدَنِهَا .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ قَوْلَانِ :
((أَحَدُهُمَا)) : أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْمُلَاءَةِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَالْإِزَارِ .
((وَالثَّانِي)) :أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ .
فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ الْوَجْهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَكَالْخِضَابِ وَالْخَاتَمِ ، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْيَدِ ، وَكَالْقُرْطِ وَالْقِلَادَةِ وَالسِّوَارِ ، فَإِنَّ رُؤْيَةَ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ مَحَلِّهِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَمَا لَا يَخْفَى .
وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا يُفْهَمُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ رُجْحَانُهُ .))
ثم شرع في ذكر الآثار الواردة في تفسير هذه الآية من كتب التفسير ثم قال (6/221) : ((...وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ إِرَادَةَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ ، مَعَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ ، فَكَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ فِي الْغَالِبِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِدَلَالَةِ غَلَبَةِ إِرَادَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَذَكَرْنَا لَهُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْجَمَةِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ لِلَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ ، وَمَثَّلْنَا لَهُمَا بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا .
((أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا)) ، فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي مَعْنَى : ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ مَثَلًا ، تُوجَدُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِهَذَا الْقَوْلِ ، وَهِيَ أَنَّ الزِّينَةَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هِيَ : مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا : كَالْحُلِيِّ ، وَالْحُلَلِ . فَتَفْسِيرُ الزِّينَةِ بِبَعْضِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ : الْوَجْهُ ، وَالْكَفَّانِ خِلَافُ ظَاهِرِ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .
((وَأَمَّا نَوْعُ الْبَيَانِ الثَّانِي الْمَذْكُور)) ِ ، فَإِيضَاحُهُ : أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُرَادًا بِهِ الزِّينَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ أَصْلِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ، وَلَا يُرَادُ بِهَا بَعْضُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ إَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو﴾ٌ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُوسَى : ﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ ، فَلَفْظُ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا يُرَادُ بِهِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ ، كَمَا تَرَى ، وَكَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى ، الَّذِي غَلَبَتْ إِرَادَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ........................ وَإِذَا عَطَلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَفْسِيرَ الزِّينَةِ فِي الْآيَةِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، فِيهِ نَظَرٌ .)) أهـ كلامه رحمه الله تعالى.
قلت : ولا يعكر على ذلك ما ذكره الأزْهرِيُّ بقوله : ((سَمِعْتُ صَبيًّا مِن بَني عُقَيْلٍ يقولُ لآخَر: ((وجْهِي زَيْنٌ ووَجْهُك شَيْنٌ)) ، أَرادَ أَنَّه صَبِيحُ الوجْهِ، وأَنَّ الآخَرَ قَبِيحُه)) كما في تاج العروس (35/ 162)
حيث أجاب على ذلك لأزهري بقوله :(( والتَّقديرُ: وَجْهِي ذُو زَيْنٍ ووَجْهُك ذُو شَيْنٍ، فنَعَتَهما بالمَصْدرِ كَمَا يقالُ: رَجُلٌ صَوْمٌ وعَدْلٌ )) أهـ
قلت : ويمكن أن يقال إنه مصدر أريد به اسم المفعول أي:(( وجهي الذي زُيِّنَ)) ، و((وجهك الذي شِين))
وخلاصة القول : إن الزينة في لغة العرب وفي استعمال القرآن تطلق على ما هو منفصل عن الشيئ مما ليس من أصل خلقته
إذا تبين ذلك ننتقل إلى :
« العبارة الثالثة » المستثنى في قوله تعالى : ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾.
وأما قوله تعالى : ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾ فقد سبق بيان بعض ما في معناه ونزيد الأمر وضوحاً هنا فنقول وبالله التوفيق :
أنه يلاحظ هنا عدة أمور :
الأمر الأول : أن الفعل جاء في الاستثناء بصيغة الفعل الماضي ، ولم يأت بصيغة المضارع أي لم يقل الله تعالى : ﴿ إلا ما يظهرن منها ﴾
وما ذاك – والعلم عند الله – إلا لفائدة.
نبه عليها يحي الحسيني العلوي في كتابه الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز (2/75) حيث قال : ((إن إيثار الماضي والتحول إليه يدل على مبالغة في الثوابت والاستقرار)) أهـ
ومعنى ذلك أن الفعل المضارع(( يبدين )) يفيد تجدد الفعل بينما الفعل الماضي ((ظهر)) يدل على تحقق الحدث ووقوعه، بغض النظر عن تكرره .
مما يدل على أن الإبداء أمر يتجدد وقوعه ويستمر في جميع الأزمنة ولهذا تسلط النهي عنه بخلاف الإظهار الذي ثبت وقوعه واستقر بحيث لا يمكن ستره أو يعسر ، ولا شك أن تصور هذا المعنى في الثياب أكثر وضوحاً منه في الوجه والكفين .
وهذا يبين لنا بجلاءٍ أن مغايرة الأفعال وتحولها أثناء السياق الواحد يدل على إرادة معنى مغاير للآخر وإن كانا متقاربي المعنى
الأمر الثاني : أن الفعل الماضي ((ظهر)) جاء لازماً لا متعدياً
الأمر الثالث : أن الظاهر من المعنى الذي لا يكاد يفه غيره أن الإظهار هنا ما كان بدون قصد أو تعمد .
ويوضحه :
1- أن فاعله قطعاً هو الزينة لا المتزينة – أي المرأة - ، بدليل أن الله تعالى قال :﴿ إلا ما ظهر منها﴾، ولم يقل تعالى : (( إلا ما أظهرنه منها ))
وذلك بخلاف قوله سبحانه وتعالى ﴿ و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾ فهنا أسند الفعل إليهن لتحقق القصد والعمد .
وإذا كان الفاعل = هي الزينة وهي غير عاقلة ، إذ لا يتصور منها إرادة الفعل ولا يتوجه إليها الخطاب الشرعي اقتضى ذلك أن ما يظهر منها لا يكون إلا عن غير قصد
2- أن قوله تعالى ﴿ منها ﴾ قرينة قوية لعدم القصد فإنك لو قلت : ((ظهر زيدٌ ))، لفهم منه القصد في الظهور ، لكن لو قلت : ((ظهر من زيد كذا )) ، فإنه يدل على عدم القصد .
الأمر الرابع : قوله تعالى : ﴿ منها ﴾ المراد منها التبعيض لا البيان ، أي أنه يستثنى من النهي بعض الزينة لا كل الزينة ، وهذا فيه أيضاً الحرص على عدم إبراز الزينة كلها وإن كانت ظاهرة .
الأمر الخامس : أن ﴿ما﴾ الموصولة وصلتها وهو الفعل ﴿ظهر ﴾ في قوة المشتق أي كأنه قال تعالى ﴿ إلا الظاهر من الزينة ﴾ ومعلوم أن الاسم يفيد اللزوم والثبوت .
وهذا مما يدل على أن ظهور هذه الزينة أمر مستقر لا يحتاج إلى إظهار فهي ظاهرة في الأساس وهذا مما يقوي قول بن مسعود ومن وافقه على أن المقصود بالزينة المستثناة في هذه الآية هي الثياب والجلباب لتحقق ظهورهما أمام الناس، فهي مما لا يمكن إخفاؤه .
الأمر السادس : أن الفعل (( ظهر )) لم يسنده إلى النساء - كما سبق بيانه - ليدل بذلك على أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً ، وليست مخيرة بإبداء شيءٍ منها .
الأمر السابع : أن الله كرر الزينة في هذه الآية ثلاث مرات :
الأولى ﴿ و لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه ﴾
الثانية : ﴿ و لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ...﴾ الآية
الثالثة : ﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾
فالزينة في كل هذه المواطن هي الزينة نفسها المنهي عن إبدائها ،وهي ما كانت عن غير أصل الخلقة ،وهي إما الثياب والحلل ونحو ذلك ، وإما الحلي والأصباغ ونحو ذلك .
وإنما وقع التكرار بناءً على تنوع الاستثناء
فالاستثناء الأول استثناء يتضمن زينة أبيح للجميع - المحارم وغيرهم- أن يروها.
وأما الاستثناء الثاني فهو استثناء يتضمن زينة أبيح لفئة معينة ،أن يروها، وهم المحارم ومن في حكمهم .
فدل الاستثناء الأول على أن هذه الزينة دائمة الظهور غالباً بنفسها .
ودل الاستثناء الثاني على أن هذه الزينة مما لم تجرِ العادة بظهورها دائماً ولهذا حُدِّدَ لها أصنافٌ معينون
ويلاحظ أيضاً في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى تدرج في بيان الحكم من العام إلى الخاص إلى الأخص
فبدأ ببيان الحكم العام وهو ما يمكن أن يراه الجميع وهو ما ظهر من الزينة بغير عمد
ثم ثنى ببيان حكم خاص وهو ما لا يراه إلا أناسٌ مخصوصون وهم المحارم وما في منزلتهم.
وفي هذا تضييق للدائرة
وفي كلا الحالين يلاحظ أن الأمر متعلق برؤية الزينة
بينما يأتي المقطع الثالث الذي فيه تضيق للدائرة أكثر ببيان أمرٍ دقيقٍ وهو ليس الرؤية فحسب بل إسماع صوت الزينة الخفية التي لا تكاد ترى ، حيث جاء النهي عن ذلك
مما يؤكد أن ما كانت العلة فيه أشد كان النهي فيه آكد من بابٍ أولى .
ومن خلال هذه الملاحظات يتضح المعنى التالي :
أنه لا يجوز إبداء الزينة عمداً مطلقاً وإنما يستثنى من النهي :
1- بعضُ
2- ما ظهر من الزينة
3- بنفسه عن غير قصد .
إذا تبين لنا أن الزينة في لغة العرب وفي استعمال القرآن الكريم لم تأتِ إلا بمعنى ما يتزين به
وليست داخلة ً في أصل الخلقة ، وأن إدخال الزينة في أصل الخلقة مما زاده المتأخرون ، ولم يكن عليه المتقدمون من أهل اللغة – فيما أعلم –
فالسؤال المطروح :
ما المقصود حينئذٍ من الزينة المستثناة في هذه الآية ؟
هل المراد بالزينة المستثناة الحلل من الثياب ونحوها ؟
أو أن المراد بها ما تضعه المرأة من الحلي ؟
هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في المجلس القادم
وهو ما يتعلق ببيان الخطوة الثالثة
وهي الراجح من أقوال أهل العلم في بيان معنى الزينة المستثناة
فانتظرونا وفقكم الله لكل خير
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك