وصية جبريل عليه السلام
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
لوصايا الرسل وزن وحسن؛ إذ هي حقائق محفوفة بصدق المحبة وكمال الشفقة والعلم وجليِّ البيان. وإن من أبلغ تلك الوصايا عظة ونفعاً ما أوصى به جبريل عليه السلام رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وصححه الحاكم وحسنه الهيثمي حيث يقول: " يا محمد! عش ما شئت؛ فإنك ميِّت. وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه. واعمل ما شئت؛ فإنك مجزيٌّ به. يا محمد! شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس ". وصية موجزة اللفظ، غدقة المعنى، من وعاها ورعاها أفضته لعيشة هنية وميتة سوية ومَردٍّ غير مُخْزٍ ولا فاضح. فما تلك الوصايا؟ وما مَبْلغ أثرها في الدارين؟
" يا محمد! عش ما شئت؛ فإنك ميت ": حقيقة وُجِدت الدنيا عليها مذ أن دبّ فيها الخلق إلى أن يفنوا؛ فكان الموت نهاية مطاف كل دارج عليها، إن طال عمره أو قصر، أو عظم قدره أو حقر؛ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [العنكبوت: 57].
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب: متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، قَالَ: فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَر ".
عباد الله!
إن العيش في الدنيا باستحضار ذاك المصير المحتوم يحمل على التخفف منها، وعدم الركون لها أو الاطمئنان بها، ويدعو إلى تقصير الأمل فيها وتعظيم الرغبة في الآخرة؛ فلا تكون الدنيا لمن هذا حاله أكبر همّ أو مبلغ علم وإن عُمّر فيها وملك فيها ما ملك. وبذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنهما حين أخذ بمنكبه، وقال: " عش في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل "؛ فكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذ أ صبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " رواه البخاري. قال الحسن البصري: " كان من كان قبلكم يقرِّبون هذا الأمر أي: الموت؛ كان أحدهم يأخذ ماء لوضوئه، ثم يتنحى لحاجته؛ مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ توضأ ". وثَمَرُ تلك الذكرى أبانه الدقاق إذ يقول: " من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل عن العبادة ".
أيها المسلمون!
وحقيقة أخرى فطرت عليها الدنيا، جلّتها وصية جبريل عليه السلام: " وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه "؛ فهي بالإضافة لقصرها دار فراق بين الأحبة؛ " وأحبب من شئت ": نفسَك، ولدك، زوجك، والدك، شبابك، مالك، جاهك، عشيرتك؛ لا بد من الفراق؛ وما ذاك إلا زَعَجٌ للخلق؛ لئلا تغرهم؛ فتغيبَ عنهم الآخرة، ويصبحوا خاسرين. وحين رأى أهل الإيمان ألا بقاء لمحابّهم فيها؛ سعوا جاهدين لاستصحابها في دار الخلود؛ فكان أهلهم من أنفس تلك المحابّ؛ فاجتهدوا في محضهم النصح والإرشاد، والاصطبار عليه؛ كيما يدخلوا معهم دائرة الإيمان التي يُلْحِق الله أهلها ببعضهم، كما قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21]. وهكذا حملهم حب المال على أن يُقدموه أمامهم؛ لينعموا ببره وذخره، فعن عائشة رضي الله عنها: " أنهم ذبحوا شاة، فتصدقوا بها كلها إلا الكتف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ فقالت عائشة: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غيرَ كتفها " رواه أحمد والترمذي وصححه. وقال عبدالله بن الشخير رضي الله عنه: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ " رواه مسلم. ودخل رجل على أبي الدرداء رضي الله عنه فلم يجد في بيته كثير متاع، فقال له: أين متاعكم يا أبا الدرداء؟ فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. وفي استحضار سنة الفراق سلوة وعزاء؛ وذاك من أسرار شرع الاسترجاع عند المصاب الذي بشر الله سبحانه أهله؛ فقال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ " رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.
أيها المسلمون!
وثمة حقيقة ثالثة كبرى من حقائق الدنيا؛ ذلكم أنها دار عمل يكون به الجزاء يوم الدين، " واعمل ما شئت؛ فإنك مجزيٌّ به "؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، يقال لأهل الجنة: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، ويقال لأهل النار: ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 14]. ومن استقر في رُوُعه هذه الحقيقة لم يفرط في استغلال لحظات عمره بالخير. سئل حاتم الأصم: علام بنيت علمك؟ قال: على أربع: على فرض لا يؤديه غيري؛ فأنا مشغول به، وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري؛ فقد وثقت به، وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين؛ فأنا منه مستحٍ، وعلمت أن لي أجلاً يبادرني؛ فأبادره. وقال حماد بن سلمة: " ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً؛ إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد؛ فكنا نرى (نظن) أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل ".
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها المؤمنون!
وفي وصية جبريل عليه السلام تصحيح لمفهوم الشرف الذي ضل طريقَه فئام ظنوه في الجاه والمال والنسب؛ وسريعاً ما بان سراب ظنهم؛ إذ بدا زيفه في العزل والافتقار وسوء عزاء الجاهلية. " يا محمد! شرف المؤمن قيام الليل " ذاكم الشرف الحق الذي امتاز به أهل الإيمان؛ ركعة واحدة في سُدْفة الليل البهيم يُنال بها ذلك الشرف الذي أخفى الله جزاء أهله بما تقر به عيونهم يوم الحساب، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17]. ووصف عمرو بن ذر حال أولئك الشرفاء قائلاً: " لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم، ورجعوا إلى ملاذهم من النوم؛ قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عادة السهر وطول التهجد؛ فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا الأرض بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملّت أبدانهم من طول العبادة؛ فأصبح الفريقان وقد ولّى عنهم الليل بربح وغبن؛ أصبح هؤلاء قد ملّوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعادة؛ فشتان بين الفريقين! ".
عباد الله!
والعز شعار كل شريف، ولا أشرف من مؤمن. وفي تلك الوصية العظيمة بيان لجادّته البلجاء؛ ألا وهي الاستغناء عن الناس، " وعزُّه استغناؤه عن الناس ". وذاك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه به: " ولا تسألوا الناس شيئاً "؛ فكان السوط يسقط من فوق بعير أحدهم؛ فما يسأل أحداً أن يناوله إياه، وقال: " من يكفلُ لي ألا يسأل الناس شيئاً؛ وأتكفَّلُ له بالجنة؟ " رواه أبو داود وصححه النووي. وبذا تغدو تلك القناعة الراسخة أصلَ العز الذي يقوم عليه، والمعينَ الذي يغتذي به. وإن ألجأته حاجة لطلب الناس؛ فبلسان العز ينطق ويطلب. جاء محمد بن واسع ساعياً في حاجة عند أحد الوجهاء، فقال: جئتك في حاجة كنت أنزلتُها عند الله قبل أن أنزلها عندك، فإن يأذن لك في قضائها قضيتَها وكنتَ مشكوراً، وإن لم يأذن لم تقضها وكنتَ معذوراً.
وبعد إخوة الإسلام، هذا غيض من فيض تلك الوصية الجليلة؛ فتشبثوا بعراها؛ فثمّ نعيم الدنيا والآخرة.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك