02-08-2016, 08:55 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,634
|
|
أسس العلاقات بين الناس في التراث الإسلامي(الشخصية المستبدة )1
- الشخصية المستبدة وكيفية التعامل معها:
الإنسان المستبد هو كل من يتمتع بغرور القوة واستخفاف بالآخرين الذين يمارس عليهم أساليبه الفظة وهو قد يكون الزوج في بيته والحاكم مع محكوميه والمدير مع موظفيه أو من يتولى منصبا قياديا في أي موضع ولا يشترط بالضرورة أن يكون على شاكلة الإنسان المستبد وإن كان بينه وبين المستبد وصفاته خيط رفيع وهنا نتساءل ما صفات هذه الشخصية المستبدة ؟ وكيف يمكن التعامل معها حين نقف على هذه الصفات والتي قد تنطبق بصورة كلية أو جزئية على المستبد وهى كالآتي :
- يرى العالم من منظور القوة والسيطرة – أناني – يميل إلى التخويف، والتهديد، والتحقير من شأن الآخرين والذي يعمل كمتنفس لنزعاته العدائية التي يبررها بوسائل أخلاقية أو دينية ليصل لهدفه وهو يحب القوة والسيطرة كما أنه يتميز بالقدرة على الإقناع والفعالية وإذا كان المستبد زوجاً فإنه يظل يذكرك بإخفاقاتك ونقاط ضعفك وينسب كافة المشاكل التي تحيق به إليك وكلما قل تقديرك لذاتك صدقته وصرت طوع بنانه وعندما تقاوم يعمد إلى تصعيد إيذائه لاجئاً إلى الأمور التي تثيرك وتستفزك([1]) إلى جانب السخرية المثبطة للهمم وسوف نذكر لاحقاً التصرف السليم حينذاك
ويقدم "المرادي الحضرمي"* في كتابه "السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة بابا مستقلا لهذه السمة العريضة من سمات الشخصية الإنسانية المريضة فيحدثنا في الباب العشرين عن التجبر والخضوع والذي يدرس في علم النفس باسم السيطرة – الخضوع إما كبعد من أبعاد الشخصية أو أسلوب من أساليب التنشئة الاجتماعية . ([2])
وهو حين تناوله لهذه الشخصية يحث على عدم التخلق بصفاتها حين التعامل مع الآخرين لأن ذلك لا يليق بالشخصية السوية الكريمة بل إنها لا تصدر إلا من دناءة النفس قائلاً : " لا يحسن التجبر بالأحرار ولا يحمل إلا على الكفار (المستعمرين المحتلين ) والتجبر داع إلى الهلاك وضامن للمقت ومزر بالحسب وذاهب بحسن الأدب ...ومن خشنت عريكته وازور جانبه مله أهله وقل مصاحبه وليس لذي عنف شمل ولا إلف ..
ثم يوضح الجوانب التي يجوز فيها استعمال الشدة والقسوة أو السيطرة وهذا يكون في الحرب وكما يقول:"...في موضع المسابقة ومأزق المحاربة فإنه يحسن فيه إظهار القوة والمشي بالجبر والصلافة"
وقد يلقى الضوء من خلال ذلك على أن سمة الشخصية المستبدة الكبر والعجب ناهياً عن التخلق بهذه السمات وذلك لأن صاحبها تكون عاقبته الخسران ممن أحسن إليه كما أن العجب بالنفس مذهب لفضائلها ومحاسنها الأخرى([3]) ولذلك يدعو إلى عدم الخضوع إلى هذه الشخصية في ظلمها وقهرها وهذا ما سوف يتضح حين تناول الأساليب أو المهارات التي يجب التحلي بها للتعامل مع هذه الشخصية .
*كيفية التعامل مع الشخصية المسيطرة المستبدة
1- النهى عن الخضوع والضعف والذلة في التعامل معها
يقول المرادي الحضرمي ." الخضوع قبيح بالأحرار ودلالة على الفقر ومخبر بدناءة النفس ومنبئ عن سقوط الهمة والقدر" ثم هو ينبئنا عن المواضع التي يجمل فيها الخضوع والتي تكون مقصورة على فئة معينة من الناس بقوله : "إن الخضوع لا يحسن إلاّ للعالم والوالدين والسلطان العدل فأما غير هؤلاء
فالخضوع لهم قبيح"([4])
والغزالي يطلعنا على المعيار الذي نتبعه في التعامل مع الإنسان في حال الرضا والسخط بقوله:"الق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم وتوقر من غير كبر وكن في جميع أمورك في أوساطها"([5])
(2) النهى عن الخوف
وهذا الخضوع والضعف في التعامل مع المستبد ناتج عن الخوف منه مما يتعارض مع حسن إيمان المرء وإنما لا يكون خوفه إلا من خالقه لا ينازعه في هذا سبحانه وتعالى أي امرئ من خلقه فهذا الخوف طعن في إيمان المرء وحين استفحاله لدرجة الخنوع والرضا بالظلم يتحول إلى مرض أشار إليه ابن تيمية حين تعليقه على قول أحمد بن حنبل لبعض الناس (لو صححت لم تخف أحداً) أي خوفك من المخلوق هومن مرض فيك كمرض الشرك والذنوب"وكما أن الظلم كما يذكر ابن تيمية من أمراض القلوب والعدل صحتها وصلاحها فكذلك الخوف من الظالم المستبد من مرض القلوب أيضاً([6]) وهنا تتساءل ماذا بمقدور الإنسان فعله إذاً حين يحاول الخروج من دائرة كونه الضحية للمستبد وكسر حلقة الخوف منه ؟ تستطيع الاستفادة من خبرات العلماء الغربيين المتخصصين في هذا الشأن من العلاقات الإنسانية وكيف يمكن أن نصل بهاإلى الدرجة الأسمى مع الاعتزاز بكرامة المرء دون إهدارها أمام هذه النوعيات السيئة من البشر مما ذكروه في هذا الصدد ونجده يتفق مع ما ذهب إليه حكماء المسلمين وعلماؤهم .
(3) ترك تعمد المواجهة
دع المستبد يغضب حتى يسيل زبده ثم ادن منه بحذر ووجه له نقدا لاذعا في صورة حوار هادئ دون أن ترد على هجومه بالمثل، فمثلاً إذا كان هذا المستبد مدير العمل فإن أفضل طريقة لصد كيل اتهاماته أو تجاوزه اللفظي معك واستئساده عليك لا يكون بالخوف منه لأن هذا الخوف سيجعله يداوم على هذه الطريقة في التعامل معك ويمكنك أن تعالج المشكلة بأن تأمره بهدوء وثبات مثل: "اجلس من فضلك يا سيد توماس" وسيعمل هذا وحده على إفقاده توازنه ثم تستمر بقولك: "أدرك أنك منزعج ولكن لا يمنحك هذا الحق لكي تحدثني بهذه الطريقة فإنني أستحق بعض الاحترام واللياقة في الكلام وهذه هي الطريقة التي أحب أن تعاملني بها والآن إذا تكلمت إلىّ بطريقة متحضرة فسأبقى في الغرفة ويمكننا أن نتوصل معاً لحل مشكلة الإنتاج"([7])
وإذا قال المدير المستبد والمستأسد مثلاً: ألا تستطيعون فعل شيء صحيح ولو لمرة واحدة ؟ رد عليه بقولك : لا يزال هناك ثلاث مشكلات قائمة تحتاج إلى مناقشتها مع السيد سميث دعني أوضحها لك مع ذكر بعض المقترحات لها .." أي إذا أساء أحد معاملتك فلترد على هذا بطريقة تركز على العمل لا النواحي الشخصية.([8])
وعلى هذا فمجابهة سلوك المستأسدين بالتأني دون التجريح اللفظي الذي يسوغون لأنفسهم القيام به هو من صفات المؤمن التي أشار إليها الحسن البصري بقوله : " المؤمن من يتأنى ولا يكون كحاطب الليل ، أي لا يكون كشخص يفعل كل ما يستطيع أن يفعله ويقول كل ما يرد على لسانه "([9])
وربما يقول قائل عندما يقع في مثل هذه المواقف إن هذا جبن يتنافى مع الشجاعة، أو لماذا لا أجابه أي شخص يتطاول عليّ بجنس فعله وهنا ينصح بالعمل بما قاله ابن سلام : العاقل شجاع القلب والأحمق شجاع الوجه وقيل : شجاعة السفيه في لسانه وشجاعة العاقل في حسامه "([10])
أي بكل ما يستطيع إنجازه في موقعه مترفعا عن مثل هذه السفاهات التي تنحرف به عن مدركات الأمور أو ربما تؤدي إلى خسرانه موقعه ووظيفته فعدم الدخول في عراك مع المستبد مع انتفاء الشعور بالخوف والرهبة منه هو السبيل للخروج من مأزق التعامل معه وهذا ما تؤكده حكمة الحكماء ، ففي كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع " فإنه لا ينبغي للعاقل أن يُراجع في أمر الكفور للحسنى والجريء على الغدر والزاهد في الخير والذي لا يوقن بالآخرة "([11])
فلا يمكنك الدخول في جدال مع هذا الشخص الذي يسخر منك ليثبط همتك حيث إن ملاحظاته غير منطقية ولكنها وإن كانت مجرد حماقات فهي حقائق مسلم بها عنده ومع ذلك فلو حافظت على رباطة الجأش فسوف تتمكن من الرد عليه بالحقائق بدلاً من المجادلة من مثل القول: " إن اتباع هذا الأسلوب سيؤدي إلى إنجاز كذا وكذا وتقليل النفقات بنسبة كذا " لا تنزعج من هجماته عليك حتى وإن ثار فجأة دون سابقة إنذار فعلى المرء حينذاك التحلي بالصبر ولا يحاول تهدئته فقط انتظر حتى ينفس عن غضبه ويهدأ ثم ناده باسمه مرددا له فإذا اشتدت العاصفة غادر المكان بسرعة قائلاً بعد مناداته باسمه: سأتحدث إليك فيما بعد "([12])
وابن سينا يصف هذه الحالة التي تعتري الرؤساء في أي موقع من مواقع الحياة ودوافعهم إليها بقوله: " فالرؤساءلما خرجوا عن سلطان التثبت وعن ملكة التصنع تركوا الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات فاستمرت عادتهم على كثرة الاسترسال وقلة الاحتشام إلا قليلاً منهم برعت عقولهم... ونفذت في ضبط أنفسهم بصائرهم فحسنت سيرتهم واستقامت طريقتهم " ([13])
ثم هو يكشف عن السبب في هذا المنحي السيئ للرؤساء والذي يكمن في الخوف الذي زرعوه في نفوس المرؤوسين والذي حال دون الكشف عن مثالبهم مما أدىإلى استشرائها وأغراهم بالوقوع في الكثير من المظالم بقوله :" ....إنهم هيبوا عن التعيير بالمعايب مواجهة وعن النقص والذم مشافهة فلما انقطع علم ذلك عنهم ظنوا أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم ....."([14])
ثم هو يضع أسسا واضحة يتعامل بها المرؤوسون حين يرتكب رؤساؤهم هذه المظالم أو يكونون في قمة انفعالهم تتفق مع ما ذكره العلماء الغربيون من اللين في القول دون الشدة فيقول ابن سينا: "واعلم أنه ليس لك وإن كان طريق إرشاد العاقل عن رعنه أن تركبه هائماً وتسلكه خابطاً ولكن ينبغي لك أن تمس العاقل بالمشورة عليه مثل الشوكة الشائكة بجسدك والقرحة الدامية من بدنك على أليَّن ما تمس وأرفق القول وأخفض الصوت وفي أخلى المواطن وأستر الأحوال والتعريض فيها أبلغ من التصريح وضرب الأمثال أحسن من التكشيف فإن رأيت صاحبك يشرأب لقولك إذا بدر منك ويهش له ويصغى إليه فأسبغ القول في غير إفراط ولا إسهاب ولا إملال ولا تزد على الوجه الواحد من الرأي ودعه يختمر في قلبه ... وإن رأيت غير ما أردته أخره إلى وقت نشاطه وفراغ باله "([15])
وإلى مثل هذا أيضاً يقول حاتم الزاهد : " إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عنه فقد خنته وإن قلته لغيره فقد اغتبته وإن واجهته فقد أوحشته فقال له إنسان فما الذي أصنع قال تكني عنه وتعرّضني به وتجعله في جملة الحديث "([16])
وهذا القول اللين الذي يبرع ابن سينا في وصفه وكيف يتأتى : يكون أبلغ في التأثير في نفسية المستأسدين أو المحقرين للآخرين ومما يؤكد ذلك قول الطبيب النفساني جاى كارتر للزوجات اللاتي يكن ضحية لهذا السلوك من أزواجهن :
" إذا كنت في حالة مزاجية تسمح لك بالتسامح فقد يتسنى لك أن تحمليه على التعبير عن مشاعره وبذا تضعين حداً لتحقيره من شأنك على سبيل المثال : يا إلهي لابد وإنك مستاء مني هل فعلت شيئاً جعلك تغضب مني ؟ لعله سيشعر بعدها بقدرته على التصريح بما يعتمل في صدره من مشاعر لأنك ستصغين له دون أن تهاجميه "
ثم هو ينصح الزوجة حين تخرج الأمور عن نطاق السيطرة ووجدت نفسها عرضة للاعتداء بالقول أن ترجئ المحادثة مع زوجها مؤقتاً لأنه يستحيل تسوية الأوضاع في هذه اللحظة من العاصفة([17]) لأنه وكما يذكر في موضع آخر سيحاول الانتصار لنفسه ولا غاية له سوى ذلك حين نتورط في جدال مع هذا الشخص من أجل التعبير عن مشاعرنا أو تسوية مشكلة ما ([18])لاسيما إذا عرفنا أنه مما يتصف به هذا النمط من الشخصية هو ضيق الأفق وقد يكونون ذوو خلق سيئ كما أشار إلى ذلك العلماء المتخصصون : بأن أفضل السبل للتعامل مع الرئيس كثيرا الصراخ أن تمتنع عن الانزلاق في الرد عليه حتى لو كنت على صواب ولتدفعه بشيء من الرفق واللين نحو التفكير الهادئ ولتبدأ هذا بمغادرة المكان ولو مؤقتاً قائلاً له : أعرف أنك غاضب ولنناقش الأمر بهدوء فيما بعد " أما إذا تدنيت إلى مستوى رئيسك الصبياني فلسوف تكون أنت الخاسر " ([19])
4- اللجوء إلى سلطة أعلى منه :
وهو من الطرق التي يُنصح بالتعامل بها مع المستبدين وإن كانت تمثل سلاحا ذا حدين فيمكن أن تسهم في علاج المشكلة ويمكن أن تؤدي إلى تعاظمها وهذا ما أكد عليه الذين يشيرون بالأخذ بهذه الطريقة في التعامل فهي من الحيل التي تحتاج إلى التلطيف والتمرن والاحتراس من أن تأتي بنتيجة عكسية وقد قالت الحكماء:"لطيفات الحيل أنجح من الوسائل والحيلة أنجح من القوة " ولا يجب للعاقل أن يتكل على الإقبال فيترك التحذر والاحتيال " والاحتيال هنا ليس بالمفهوم السيئ الذي قد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى وإنما المقصود ما يعين الإنسان من وسائل لا تتعارض مع دينه وخلقه في التعامل مع الآخرين دون أن يلجأ إلى العنف والشدة التي لا تجدي في كثير من المواقف ونفهم ذلك من تعريف الحيلة بأنها " مواد العقل ونتائج الفكر والتجارب " ووجوه الحيل أكثر من أن يحاط بها .([20])
وفي الحكمة " وجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالاًللعدو من صرعة المكابرة والعناد فإن النار لا تزيد بحدتها وحرِّها إذا أصابت الشجرة على أن تحرق ما فوق الأرض منها والماء بلينه وبرده يستأصل ما تحت الأرض منها([21])
وفي هذا الصدد أيضاً قيل في مجاني الأدب: " إياك والغلظة في الخطاب والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته ويعدم حلاوته ويجلب الضغائن ويمحق المودات ويصير القائل مستثقلاً ، سكوته أشهى إلى السامع من كلامه ويثير النفوس على معاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته "([22]) ومن نثر اللآلئ لعلي ابن أبي طالب: أحسن إلى المسيء تسد ، بشر نفسك بالظفر بعد الصبر ، بلاء الإنسان من اللسان وصلاح الإنسان في حفظ اللسان، تغافل عن المكروه تُوقَّر ، خف الله تأمن غيره، دار من جفاك تخجيلاً ، دم على كظم الغيظ تحمد عواقبك "([23])
وبناءً على ذلكفحين يتعذر على المرء أن يجعل خطابه متفقاً مع ما سبق ذكره من صفات اللين نظراً لما تستدعيه طبيعة الموقف حينئذ من الغضب والإحساس بالقهر والرغبة في الانتقام فأبلغ ما يمكن القيام به هو أن يذهب بنفسه بعيداً ويؤجل الحوار إلى أن تهدأ النفوس ولو لفترة قليلة أو يصمت وإلا إذا بسط لسانه بكلام خشن استدعى عليه الطرف الآخر الذي يصير حينذاك لاهم له سوى عناده فيكون بذلك خاسراً لا محالة اللهم إذا لم يصحب ذلك إهدارلكرامته نظراً لما تعرض له من سيئ الأفعال والأقوال .
ونستخلص من كلام علي رضي الله عنه السابق ما نستعين به على مواجهة شر الآخرين مثل: حفظ اللسان ، والتفاعل والمداراة ( اللين ) كظم الغيظ، الإحسان لمن أساء، الثقة بعد كل ذلك بالنصر وحسن الثناء . ومما ورد في هذا الشأن من تاريخنا الإسلامي ما روي من أمر " عبد الرحمن ابن الضماك " والى المدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك – حيث أراد الزواج من فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه وكانت قد ترملت وانقطعت إلى أولادها فتقدم إليها ابن الضماك وخطبها لنفسه فقالت : والله ما أبغي الزواج ولقد قعدت علي بنَيَّ ووقفت نفسي عليهم فجعل يلح عليها وهي تحتال في الاعتذار إليه من غير مخاشنة خوفاً من شره فلما وجدها تأباه قال لها : والله لئن لم ترضيني لك زوجاً لآخذن أكبر بنيك ولأجلدنه بتهمة شرب الخمر فاستشارت سالم بن عبد الله في أمرها فأشار عليها بأن تكتب للخليفة كتاباً تشكو فيه الوالي وتذكر قرابتها من رسول الله r ورحمها في آل البيت فكتبت الكتاب وأنفذته مع رسول لها إلى دمشق فلما علم الخليفة أمر بعزله وجلده على تطاوله على مقامها رضي الله عنها وصار عبرة لغيره من ولاة الأمور([24]) فالمشورة وحسن التصرف أو الحيلة كانت بديلاً حين عجزت الكلمة اللينة والرفق وهذا دليل على أن هناك أناس لا ينفع معهم سوى هذا المنحى في التعامل وإلا كان الإنسان عرضة لإذلالهم وتحقيرهم إذا استسلم لشناعة أفعالهم أو تردد في حيلة يدفع بها أذاهم عنه " وقد قيل: من وجد حيلة فليحتل فرب حيلة أنفع من قبيلة "([25])
والحكمة التي ساقها لنا ابن المقفع على لسان الحيوانات أن " الضعيف يغلب القوي بالمشاورة والحيلة " وضرب مثل لذلك ما كان من صنيع الأرنب مع الأسد " والغراب والحية " وقد قيل :" لا تحقرن العدو الضعيف المهين ولاسيما إذا كان ذا حيلة ويقدر على الأعوان "([26]) وإذا كان هذا الأسلوب في التعامل غير ذي أثر ونفع فهناك طريقة أخرى وهي:
5- البعد عن المستبد
قد يكون هو الحل بعد استنفاذ ما سبق من طرق خاصة حين تستفحل شراسة هذه الشخصية والتي قد تؤدي إلى أن يقع ضحاياها فريسة للآلام النفسية الرهيبة ففي كلية ودمنة :" وأما ما ينبغي تركه فهو من عرف بالشراسة ولؤم العهد وقلة الشكر والوفاء والبعد عن الرحمة والورع واتصف بالجحود لثواب الآخرة وعقابها " وفي مقابل ذلك تقول الحكمة أيضاً " فإن من الناس من لا ينبغي تركه على حال من الأحوال وهو من عرف بالصلاح والكرم وحسن العهد والشكر والوفاء والمحبة للناس والسلامة من الحسد والبعد من الأذى والاحتمال للإخوان والأصحاب وإن ثقلت عليه منهم المئونة"([27])
وعلماء العلاقات الإنسانية يتفقون مع ما سبق و إلا صار الإنسان يعيش عذاب لا ينتهي وكما قيل: " فالتجبر ليس عملا فرديا ولكنه يتطلب فريسة فلا تكن تلك الضحية ولنتوصل إلى سبب شعورك بالخوف والرهبة فإن كان ناتجاً عن الخوف من فقد وظيفتك فإنه شعور حقيقي ومشروع ولكن أما من سبيل للحياة ؟ فلتبحث عن وظيفة أخرى بحكمة وهدوء قبل أن تصبح حطاماً تاماً لا يصلح لأي عمل"([28]) فعندما تتحول السيطرة إلى قناع خوف قد يقع الناس في المصيدة([29])
حيث لوم الضحية باستمرار بأنها السبب في تعثر الحياة وعدم العيش في سلام مع أن بغيتها ليس إلا العيش في احترام بوصفها بشرايرنو للسلام والطمأنينة وتؤدي الموجات المتتالية من العنف الذي يقع عليها إلى صورة تفقد فيها الثقة بنفسها وبالآخرين حيث العزلة الاجتماعية التي تشرع للجاني وتبرر ما يقوم به أو تجد له المخرج مثل كونه رجلاً في مجتمع يمجد الذكورة عن الأنوثة ولا أقول ثقافة لأن ثقافتنا الإسلامية الأصيلة لم نعملها في أرض الواقع ولو حدث هذا لعشنا في آمان وسلام ولكنها أعراف جاهلية تتشبث بأظافر من حديد في الوعي الجمعي العربي وتُتوارث من جيل إلى جيل من أجل هذا ينبغي العمل الحثيث على إزالة ما شاب تراثنا من أن يُطعن فيه بالقول بأنه "يمثل ثقافة تزعن وتستسلم فيه الضحية للعنف أيا كان مصدره سياسيا أو اعتداء بدني على الزوجات أو استضعاف المهمشين والضعفاء وإذلالهم وتحقيرهم وهذا ما سوف يتضح بصورة شاملة لاحقاً . فالعمل على إعادة تقويم شاملة لعلاقتنا الإنسانية ضمن إطار ثقافتنا الإسلامية الصحيحة كتاب وسنة وما أنتجته قريحة علمائها في أزهى عصورها هو السبيل لإعادة مجدها الذي سُلب منها بفعل هذا الانحراف الخطير عن المنهج الصحيح والذي نحاول تجلية الكثير من جوانبه في الصفحات التالية فيما يتعلق بالأسس الصحيحة التي تقوم عليها علاقاتنا الإنسانية في أجلى صورها وبعيداً عن التنظير وإنما من خلال الممارسات العملية واستخلاص الحكمة من التاريخ والخبرات والتجارب([30])
للوصول الينا ومتابعة كل جديد اكتبي بمحرك البحث (منتدى عـدلات) او (3dlat)
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|