سُورَةُ الْإِسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا إِحْدَى عَشَرَةَ وَمِائَةٌ
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء: 1]
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} تَنْزِيهًا لِلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شَرِيكًا، وَأَنَّ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَعُلُوًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَنَسَبُوهُ مِنْ جَهَالَاتِهِمٍ وَخَطَأِ أَقْوَالِهِمْ.. وَالْإِسْرَاءُ وَالسُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ.. فَإِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ حِينَ أَتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟.. وَبَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ جَائِزًا لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: أَسْرَى بِرُوحِهِ: رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ جِبْرَئِيلَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوَابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْبُرَاقِ جِسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ لَا جِسْمُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَصَارَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أَحْلَامِ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفْعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ..
{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ كَانَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِذَا ذَكَرُوهُ..
{إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ لَهُ: الْأَقْصَى، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ، وَيَنْبَغِي فِي زِيَارَتِهِ الْفَضْلُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا نَحَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْأَنْدَادِ وَالصَّاحِبَةِ، وَمَا يَجِلُّ عَنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ، الَّذِي سَارَ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى..
{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الَّذِي جَعَلْنَا حَوْلَهُ الْبَرَكَةَ لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَغُرُوسِهِمْ..
{لِنُرِيَهُ} كَيْ نُرِيَ عَبْدَنَا مُحَمَّدًا..
{مِنْ آيَاتِنَا} مِنْ عِبَرِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا، وَذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيهِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْدَ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ..
{إِنَّهُ} إِنَّ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ..
{هُوَ السَّمِيعُ} لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَسْرَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ..
{الْبَصِيرُ}[الإسراء: 1] بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ عِلْمًا، وَمُحْصِيهِ عَدَدًا، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، لِيَجْزِيَ جَمِيعَهُمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك