09-20-2015, 10:17 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 355,702
|
|
(012)طل الربوة-تقوية الأستاذ صلته بطلابه:
إن ما عليه كثير من الأساتذة مع طلبتهم،
في كثير من المدارس النظامية وبعض المدارس الأهلية، من الجفاء، والبعد عن الروح الودية والإخاء لا تقره الآداب الإسلامية. وإن من أهم ما يمكن الأستاذ من إفادة طلابه بعلمه وتزكيته وتربيته لهم، ومن استفادة طلابه منه علماً وتزكيةً وعملاً، قوة صلته بهم وقوة صلتهم به، بحيث يكون لهم أباً حنونا، ويكونون له أبناء بررة.
ولتقوية الصلة بين الأستاذ وطلابه روابط أذكر أهمها:
الرابط الأول: رابط الحب في الله:
بأن يتخذ الأستاذ الأسباب التي تجعل طلابه يحبونه محبة صادقة في الله، وأن يجاهد نفسه بأن يكون هو يحبهم أيضاً محبة صادقة كذلك. نعم الحب في الله، وليس في غيره؛ لأن الحب فيه سبحانه يقوى ويبقى ويدوم، فلا يفرق بين المتحابين شيء ما دام حب بعضهم لبعض في الله تعالى، بخلاف الحب من أجل القرابة فقط، أو من أجل الصلة المادية من مال وجاه ومنصب وشراكة في أي شيء من أشياء الدنيا، فإن التحابب من أجلها يزول بزوالها، وهذا ما نشاهده في عالمنا، ما تحاب اثنان فأكثر في أمر من الأمور غير التحاب في الله إلا زال حب بعضهم لبعض بزوال ذلك الأمر الذي ربط بينهما.
لذلك ينبغي للأستاذ أن يجاهد نفسه أولاً، ثم يربي طلابه ويدربهم على أن يكون الحب بينه وبينهم في الله تعالى، كما رُوي عن أنس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار). [صحيح البخاري، وصحيح مسلم.]
تأمل كيف جعل صلّى الله عليه وسلم، حب المسلم لأخيه لله تعالى من الخصال التي يجد بها حلاوة الإيمان، وذكره بخصلتين عظيمتين من خصال العقيدة: الأولى حب الله ورسوله، والثانية أن يكره الكفر كما يكره أن يقذف في النار؟
ولقد جعل صلّى الله عليه وسلم، التحابب في الله من شروط دخول الجنة الذي من شرطه الإيمان، ودلَّ المؤمنين على أحد البنود التي تعينهم على التحابب فيما بينهم، وهو إفشاء السلام، كما روى أبو هريرة رضي الله عنْه، أنه قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا..) ـ وفي رواية ـ (والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا.. ولا تؤمنوا حتى تحابوا.. أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). [صحيح مسلم]
قال النووي رحمه الله: "وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَقَوْله صلّى الله عليه وسلم : (وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) مَعْنَاهُ لا يَكْمُل إِيمَانكُمْ وَلا يَصْلُح حَالُكُمْ فِي الإِيمَان إِلا بِالتَّحَابِّ ـ ثم قال ـ: "وَالسَّلامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف, وَمِفْتَاح اِسْتِجْلاب الْمَوَدَّة. وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ, وَإِظْهَار شِعَارهمْ الْمُمَيِّز لَهُمْ مِنْ غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمِلَل, مَعَ مَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَة النَّفْس, وَلُزُوم التَّوَاضُع".
الرابط الثاني: اتخاذ الأسباب التي تتوطد بها الأخوة الإسلامية الحقة بينه وبين طلابه، الأخوة الصادقة التي يترتب عليها، تحقيقاً لما قرره كتاب الله تعالى في شأنها، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...(10)}. [لحجرات] ولما أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلم، أمته: (وكونوا عباد الله إخواناً). [صحيح البخاري (5/2253) دار ابن كثير اليمامة، بيروت، وصحيح مسلم (4/1983) دار إحياء التراث العربي، بيروت.]
ونصوص القرآن والسنة دلَّت على أن الله تعالى شرع هذه الأخوة لكافة المؤمنين، الذين ينبغي أن يترتب على أخوتهم تحقيق المعاني التي شرع الله الأخوة بينهم لتحقيقها، بأن يكونوا متعاونين على البر والتقوى متناصرين، لا يخذل بعضهم بعضاً ولا يسلمه لعدو ولا لأذى، ما كان قادراً على عونه، ولا يظلمه، بل يسعى في قضاء حاجته وتفريج كرباته، ويستر عوراته، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.[لبخاري ومسلم واللفظ له].
وقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).[صحيح البخاري وصحيح مسلم.]
وإذا كانت الأخوة الإسلامية مطلوبة بين كافة المسلمين، فما بالك بالأستاذ وطلابه الذين جمعهم الله تعالى في حلقات "رياض الجنة" على تدارس كتابه تلاوةً وتدبراً وفقهاً وتزكيةً وعملاً، ونشراً للعلم والدعوة إلى الله، وكذا سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وسيرته وسيرة أصحابه التي تعتبر التطبيق العملي لما شرعه الله تعالى؟
إنها أخوة خاصة أقوى من الأخوة العامة التي ربط الله المؤمنين عامة بها، تجلت في مؤاخاة الرسول صلّى الله عليه وسلم، بين المهاجرين والأنصار، في أوقات الشدة التي جعلت كل أخ من الأنصار والمهاجرين يرث أخاه في الرابطة الإيمانية، دون أخيه في النسب، الذي لم يصل إلى إرث أخيه إلا بعد أن زالت الشدة وأصبح كلٌّ من الإخوة في الإيمان مستغنياً عن أخيه فيه.
وترتب على رابطة هذه الأخوة ما نوَّه به القرآن الكريم، وما سطرته كتب الحديث من الكرم وإيثار الأخ الأنصاري لأخيه المهاجري على نفسه وأهله وفلذات كبده، ومن الورع والزهد وإيثار الاكتساب من الأخ الأنصاري عن أخذ ما أباحه له الإسلام من مال أخيه الأنصاري.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)}.[لحشر]
تمثل النموذجين قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه سعد بن الربيع رضي الله عنْهـما، قال عبد الرحمن: "لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلَّت تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟. قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
(تزوجت). قال: نعم، قال: (ومن). قال: امرأة من الأنصار، قال: (كم سقت). قال: زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة). [صحيح البخاري]
وتأمل قصة مضيف ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من الأنصار، كيف يؤثر ذلك الضيف على نفسه وأهله وأولاده، فيبيتون جياعاً ليشبع الضيف: عن أبي هريرة رضي الله عنْه،، قال: "أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيفه هذه الليلة، يرحمه الله). فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: (لقد عجب الله عز وجل ـ أو ضحك ـ من فلان وفلانة) فأنزل الله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. [صحيح البخاري، والآية من سورة الحشر: 9.]
ونحن نتمنى أن نصل إلى ما وصلت إليه تلك الصفوة من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مع ما نعرف من أنفسنا من البعد البعيد عن الوصول إلى تلك القمم العالية التي بلغوها من الاقتداء بنبيهم العظيم في الكرم والجود والإيثار، ولكنا نأمل في أن نجاهد أنفسنا أساتذةً وطلاباً على اهتمام بعضنا ببعض في حدود ألا يبيت أحدنا شبعان وأخوه جائع مع قدرته على إشباعه، أو يكون لابساً أجود الملابس وأخوه عارٍ، يعني بذل الجهد في إعانة ذي القدرة أخاه بما يسد حاجته.
ومن رحمة الله بنا أنه تعالى راعى بشريتنا وحرصنا على إبقاء الخير بأيدينا فرضي منا بالقليل ولم يبالغ في تكليفنا بالكثير الذي تشح به نفوسنا: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (38)}. [محمد]
ولتحقيق هذين الرابطين أسباب:
السبب الأول: أن يقتدي الأستاذ برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو أعظم معلمٍ ومزكٍ أرسله الله من رسله، لأفضل طلاب وخير صحب وجدوا على ظهر الأرض، فقد كانصلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.[128]
وكان أصحابه رضي الله عنْهم، يسرعون إليه، كلما اعترضتهم أي مشكلة، ليحلها لهم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}.[لمجادلة]
وقد وصف صلّى الله عليه وسلم، شدة رحمته ورأفته وشفقته بأمته، وعلى رأسهم صحبه الذين كان يباشر تعليمهم وتزكيتهم، في حديث أبي هريرة الذي سمعه منه: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحَّمون فيها). [صحيح البخاري (5/2379) دار ابن كثير اليمامة، بيروت، وصحيح مسلم (4/1789) دار إحياء التراث العربي، بيروت.]
كان صلّى الله عليه وسلم، مع تعليمه لهم ونصحه إياهم، يتفقد أحوالهم ويزورهم في السلم والحرب، في البيت وفي المعركة، ومن الأمثلة على ذلك ما روته عائشة رضي الله عنْهـا، قالت: "أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلّى الله عليه وسلم، خيمة في المسجد، ليعوده من قريب، فلم يرعهم ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا الدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دماً فمات فيها". [لبخاري، رقم 451، ومسلم، رقم 1769.]
ومن أمثلة تفقده صلّى الله عليه وسلم، لمن كان يقوم بتنظيف مسجده ويسأل عنه، كما روى أبو هريرة: "أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً ففقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه، فقالوا مات، قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟) قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: (>دلوني على قبره) فدلوه فصلى عليها، ثم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل، ينورها لهم بصلاتي عليهم).[لبخاري، رقم 448، ومسلم، واللفظ له 956.]
السبب الثاني: حرص الأستاذ على التعارف بينه وبين طلابه: وهو من الآداب الإنسانية العامة، التي لا تستغني عنها الأمم والأفراد مسلمين كانوا أم كافرين، ولا يمكن تحقيق العلاقات النافعة بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً بدونه، ولذلك كان التعارف من أهم الآداب الإسلامية التي أبرزها القرآن في سورة الحجرات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.[لحجرات]
وبمعرفة الأستاذ لطلابه ومعرفة طلابه له، تقوى الرابطة وتتحسن العشرة بينه وبينهم، وتتحقق الألفة، وتزول الوحشة وسوء الظن الذي قد يدخله الشيطان بين المتعاشرين.
السبب الثالث: الحرص على التناصح فيما بينهم: ومن العوامل التي تقوي الصلة بين الأستاذ وطلبته، أن يتواصى معهم بالحق، فلا يسكت عن منكر وخطأ يراه في طالب، بل يسرع في نصحه سراً، ولا ينصحه علناً إلا إذا اشتدَّت الحاجة إلى ذلك، وليس التناصح خاصاً بذلك بل يشمل كل ما فيه مصلحة للمنصوح معنوية كانت أو مادية.
وينبغي أن يدرب طلابه أيضاً على أن يتناصحوا فيما بينهم بحكمة ولطف وتواضع؛ لأنهم إذا حققوا التناصح فيما بينهم، وهم في ميدان التلقي والطلب، فسيكون الأمر كذلك عندما يدخلون في ميدان العمل والممارسة، وفي ذلك ما فيه من الخير لمستقبل العمل للإسلام، وإذا لم يدربهم في حال الطلب على ذلك، فسيكون الأمر بالعكس بعد تخرجهم، لا يقبل أحدهم نصح أخيه، وفيه ما فيه من الخطر على مستقبل الدعوة إلى الله.
وعلى الأستاذ أن يتقبل نصح طلبته له أيضاً، فهو بشر يخطئ ويصيب مثلهم، وإن كان المفروض أن يكون أقل خطأً وأكثر صواباً، وعليهم أن ينصحوه ولا يترددوا في نصحه بأدب ولطف، والأفضل أن يكون نصح الطالب لأستاذه على سبيل الإستشكال والاستفسار، لا على سبيل الأمر والإنكار.
ومن أمثلة ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنْه، أنه قال: "لما مات عبد الله بن أُبي بن سلول دُعي له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله أتصلي على بن أُبي وقد قال يوم كَذا كذا وكذا وَكذا؟ قال: أُعَدِّد عليه قوله. فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: (أخر عني يا عمر).
فلما أكثرت عليه، قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها) قال: فصلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلمثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً..} إلى قوله: { وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلمَ والله ورسوله أعلم". [صحيح البخاري، رقم (1300) وهو في صحيح مسلم من حديث ابن عمر، برقم (2400)، قوله: "حتى نزلت الآيتان من براءة" هي آية واحدة فقط، إلا إذا أراد إدخال الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) } ولكنه يشكل على ذلك التحديد الواضح بآخر الآية: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} وهي كذلك فيما اطلعت عليه من الأحاديث في غير البخاري، وفي سنن الترمذي: " إلى آخر الآية" (5/279).]
وقد علق الحافظ ابن حجر رحمه الله على ما يظهر من إشكال في شأن صلاته صلّى الله عليه وسلم، على ابن أُبي، فقال: "أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم، بقوله وصلى عليه، إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره واستصحاباً لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم، في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقلَّ أهل الكفر وذلوا، أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم أمر الحق ولا سيما، وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم. وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى.
قال الخطابي: إنما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، مع عبد الله بن أُبي ما فعل، لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألُّف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سُبة على ابنه وعاراً على قومه فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نُهى فانتهى" ).[فتح الباري فتح الباري (8/336).]
وكان لعمر مواقف أخرى في نصحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، تدل على إقرار الرسول صلّى الله عليه وسلم له [راجع على سبيل المثال فتح الباري (9/248).] والشاهد المقصود من الحديث موقف عمر رضي الله عنْه، من صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم، وإقراره له على ذلك الموقف، وهو رسول الله الذي ينزل عليه الوحي، فغيره صلّى الله عليه وسلم، من العلماء والأساتذة أولى بقبول نصح طلابهم لهم... وعلى الجميع أن يكون هدفهم من النصح، محبة الخير للمنصوح عن إخلاص وتواضع لا عن رياء وتكبر وتشهير.
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستقيم أمر المسلمين، وبدونهما تضطرب الأمور، وتنشر الفوضى والظلم، ويسيطر الفسقة والطغاة.[تراجع في هذا الموضوع الآيات والأحاديث المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ويراجع رياض الصالحين وغيره.]
السبب الرابع: حل المشكلات التي تعترض الأستاذ وطلبته:
ومن الأسباب التي تقوي المحبة بين الأستاذ وطلبته وتبقيها حية في نفوسهم، حل ما قد يحصل بينهم من
الاختلاف والمشكلات؛ لأن الشيطان لا يزال يدأب على نزغه بين الناس، وبخاصة المؤمنين وبالأخص المعتصمين بحبل الله الذين يسوؤه اعتصامهم ويسره تنازعهم المؤدي إلى فشلهم، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً (53)}. [لإسراء]
وقد ذكر الله تعالى لعباده الحرز الذي يقيهم نزغه، فقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}. [لأعراف]
فالاستعاذة الصادقة من الشيطان بالله تعالى تحميهم منه ومن وساوسه، وتجعل من فقد بصيرته بسبب نزغه بمجرد تلك الاستعاذة الصادقة يرجع مبصراً، كما تدل على ذلك "إذا" الفجائية. وهذا يقتضي المكاشفة بين الطلاب أنفسهم فيما بينهم، ومكاشفتهم الأستاذ، بمشكلاتهم، حتى يتعاونوا على حلها؛ لأن الفرد الذي تعترضه المشكلات في حياته فيخفيها في نفسه، لا يتمكن إخوانه من معاونته على حلها لعدم معرفتهم إياها.
وقد تكون تلك المشكلات معوقة للفرد عن السير في دراسته إذا استمر، ولذلك ينبغي أن يبدأ الأستاذ طلبته بالسؤال عن أحوالهم، تشجيعاً لهم على إبداء ما قد يترددون في إظهاره ابتداءً. وقد يعجز الأستاذ أو طلبته عن حل بعض المشكلات، ولكن ذلك لا يمنع من إبدائها، من أجل المواساة والتسلية والتواصي بالصبر.
وإذا ما ظهر الخلاف وأسبابه فعليهم حله بالصلح مع التزام العدل، والابتعاد عن الإثارة والدعاوى الباطلة، أو التهم التي لا حقيقة لها، هرباً من الاتصاف بصفة المنافق الذي (إذا خاصم فجر).[لبخاري (1/14) ومسلم (1/78).]
السبب الخامس: محافظة كل منهم على المواعيد:
يستوي في ذلك الأستاذ وطلابه، فإن التساهل في المواعيد ليس من صفات المؤمنين، والتأخر عنها يسبب لمن حرص على الانضباط في مواعيده القلق، فعليهم جميعاً الالتزام بمواعيد بعضهم مع بعض بكل عناية ودقة، وعدم التساهل في ذلك من غير عذر لما فيه من المحاذير الكثيرة ومنها:
1- الاتصاف بصفات المنافقين التي حذر منها الرسول صلّى الله عليه وسلم.
2- تضييع الوقت على الآخرين.
3- زعزعة ثقة بعضهم في بعض.
4- تفويت فرص قد لا تعوض من الخير.
5- فتح أبواب قد لا تغلق من الشر.
6- وعلى الجميع مناصحة من تكرر منه ذلك حتى يتخلص من تلك الصفة الذميمة.
السبب السادس: حفظ بعضهم سر بعض:
فلا يليق بالأستاذ إفشاء أسرار طلبته، بل عليه كتمانها، كما لا يليق بالطلبة، إفشاء أسرار أستاذهم ولا سر بعضهم بعضاً، فيجب على كل أخ عدم إفشاء سر أخيه؛ لأن كلاً من الأستاذ وطلابه قد يفضي إلى الآخر ببعض أسراره لشدة ثقته به، ولحاجته إلى ذلك، بل لا يجوز له إفشاء سر زوجته بل سر نفسه الذي يستره الله عليه، كما هو معلوم في مواضعه.
وعلى الأستاذ أن يدرب طلبته على ذلك، ويبين لهم أن ذلك مهم في حياة دعوتهم، ولا سيما في الدول الكافرة المعادية للإسلام وللحكم بكتاب الله. وقد كان الكتمان من الأمور المهمة في حياة الدعوة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليْه وسلم، إذ كان يكتم أمره في مكة وفي المدينة عند الحاجة.
وليس معنى ذلك أن يجعل الدعاة إلى الله خوف الناس، سبباً لانزوائهم عن الناس وعدم تبليغ الإسلام إليهم، كلا، بل معناه حماية الداعية نفسه وإخوانه، من فتح الباب على مصراعيه لأعداء الله في غير البلاد الإسلامية.
فالعلم والعبادات لا تكتم.. يدرس في هذا كتمان الرسول صلّى الله عليه وسلم، في غزواته ورسالة الكتمان لمحمود شيت خطاب.
وهكذا كان أصحابه من بعده، ساروا على دربه، وكذلك كان علماء الإسلام في كل جيل، تربط بينهم وبين تلاميذهم الأخوة الإيمانية والمحبة، ولذلك أثمر علمهم عملاً وآتى أكله بإذن ربه.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|