من فوائد الصلح

[ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران]

من فوائد الصلح
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك


المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع



قوله: (وتسقط الشُّفْعَة إذا صالح عنها لرضاه بتركها
قال في ((المقنع)): ((وتسقط الشُّفعة، وفي الحَدِّ وجهان[1]))[2].
وقال في ((الفروع)): ((وفي سقوطها - أي: الشُّفعة - وجهان[3])[4].
قال في ((التصحيح)): ((والوجه الثاني: لا تسقط، اختاره القاضي وابن عقيل))[5].

وقال الشيخ ابن سعدي: ((سُؤال عن حكم الصلح وفائدته:
الجواب: الصلح من أعم الأمور وأوسعها دائرة، ويدخل في أمور كثيرة، وفوائده لا تُعد كثرة، قال تعالى: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾[النساء: 128] فيقع الصلح بين المسلمين وأهل الحرب فيجتنى منه راحة المسلمين، وإجمامهم لقتال أعدائهم في وقت الفرصة، ويحصل من اختلاط المسلمين بالكفَّار من المصالح، وبيان محاسن الإسلام ما يُوجب بكثير من المنصفين الدخول فيه، ويحصل من المصالح الدينية والدنيوية شيء كثير.

ويقع الصلح بين أهل العدل وأهل الظلم والبغاة، فينكفّ بسببه شيء كثير، وربما حصل خير كثير.

ويقع بين الناس في الدماء والجروح ونحوها، فيحصل من العفو والتغاضي عن الحقوق إطفاء الشَّرِّ وحصول مقابلة ذلك شيء من المال تَأْنَس به النفوس، ويسهل عليها ترك الأخذ بالثأر.

ويقع بين الزوجين عند المشاقة والمخاصمة فيحصل الالتئام وتزول أسباب الشر، ويتراجع الزوجان إلى العشرة المأمور بها.

ويقع بين الأصحاب المتهاجرين المتنافرين فتتدانى القلوب بعد بعدها ويزول نفارها؛ ولذلك لم يُرَخِّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الكذب إلا في الحرب، والإصلاح بين الزوجين، والإصلاح بين الناس[6]؛ لعظم نفعه وجزيل وقعه.

ويقع الصلح بين الناس حين تقوم الفتن فيحسم الفتن والشرور، ولهذا جعل الشارع للمُصلِح بين الناس نصيبًا من الزكاة ولو كان غنيًا، حثًّا لهم على الإصلاح بكل طريق.

وهذه الإصلاحات إذا وقعت عادلة لا جَوْرَ فيها على واحد من الطرفين، وأحسن الداخل فيها الطريق الموصلة إلى ذلك، حصل المقصود بسرعة وانحسم الشر، فإذا دخلها الهوى والظلم على أحد الطرفين، أو سلكت طرق لا توصل إليها تَعَكَّست ولم يحصل منها المقصود، وإن حصل فما أسرع زواله؛ ولهذا أمر الله بالإصلاح بالعدل والإحسان فيه، والله أعلم.

ويقع الصلح بين الناس في الأموال والمعاملات، وهو مراد الفقهاء بذكر باب الصلح المتعلق بالمعاملات، وهو كل جائز إلا صُلحًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً، كما ورد به الأثر.


فالحقوق المُصالح عليها المالية إما أن يعترف بها مَنْ هي عليه، وإما ألاّ يعترف، فإن اعترف بها وصالحه على بعضها لسرعة الوفاء كان مصلحةً للطرفين، وكان شبيهًا بالتبرع، وكذلك إذا ياسره على الحالّ وجعله آجالاً متعددة، فالصواب: أنه لازم، وقال أصحابنا: إنه جائز، فله أن يُطالبه قبل الأَجَل المضروب؛ لأن التأجيل غير لازم، ثم ألزم به نفسه ووعده، والمؤمن إذا وعد وفَّى، خصوصًا إذا كان في هذه الحال سيجتهد المطلوب في بيع ما ليس عليه بيعه من مسكنٍ وأثاثٍ، أو يستدين من الناس ما يُوفي به، فهنا يتعين الإلزام بالتأجيل بلا ريب، وقد يُصالحه عن المؤجلِ ببعضه حالاّ.

والمشهور من المذهب[7]: المنع قياسًا على الربا وقلب الديون الحالة.

والرواية الأخرى عن أحمد[8] أصح، وهو جواز ذلك؛ إذ في ذلك مصلحة للطرفين، هذا ينتفع بتعجيلِ حقه، والآخر بتخفيف ما عليه، وقد اشتُهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أَجْلَى بني النضير قالوا: إن لهم مع الناس مداينات، فقال: (ضعوا وتعجَّلوا)[9].

وقياسها على الربا ضعيف جدًّا، بل هذا ضد الربا؛ فإن الربا يزيد في الأجل، ويزداد ما في ذمته، وهذا يتعجل الوفاء ويخف ما في ذمته، فما أبعد أحدهما من الآخر، وكثيرًا ما تدعو الحاجة، بل الضرورة إلى هذه المسألة، وما دعت له الحاجة ولا محظور شرعي فالأصل جوازه، وقد يُصالحه عن الدين أو العين بغير جنسه فيصير معاوضة يثبت لها من الأحكام ما يثبت للبيع، بل قد تكون أوسع.

وإن كان المُدَّعى عليه الحق مُنكِرًا فالصلح أيضًا جائز، وما أعظم فائدته للمُدَّعِي والمُدَّعَى عليه، ويصير في حق المدعي بيعًا؛ لأنه يعتقد ما صالح عليه عِوَضًا عن حقه، وفي حق الآخر إبراء؛ لأنه يزعم أنه دخل في الصلح لدفع الخصومة والنزاع وظهور براءة ذمته، فما دام كل منهما معتقدًا ما يقوله، فالصلح جائز ظاهرًا وباطنًا، حلالاً لكل منهما ما دخل عليه، فإن اعتقد أحدهما خلاف ما يقول فالصلح في الظاهر جاز ونفذ، وهو في الباطن حرام عليه ما أخذ مما لا يستحق إذ أنكر ما عليه، ومن الحقوق التي اختلف في جواز الصلح عليها حق الشُّفعة والخيار فالمذهب[10] المنع؛ لأنه ليس المقصود بها، وإنما هو النظر لأحظّ الأمرين.

والقول الثاني في المذهب[11]: الجواز؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صُلحًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً)[12]، وهذا عام في الحقوق كلها، ولا يتضمن هذا إحلال حرامٍ ولا تحريم حلال، وقولهم: إن المقصود بهما وبإثباتهما للإنسان أن ينظر أي الأمرين أحَظ: صحيح، ومن جملة ما يراعيه صاحب الحق في الإقدام على الشفعة، وفي إتمام الخيار أو عدم ذلك النفعَ المالي، بل هذا أعظم لأحظهم، فإذا بذل له مال ليترك هذا الحق رجح هذا الجانب فلا مانع من ذلك.

وأما الصلح الذي لا يجوز: فهو أن يتصالحا على أمور مُحَرَّمة، إما أن يُصالح حُرًّا يُقر له بالعبودية، أو أنثى تُقر له بالزوجية، فهذا الذي أجمع المسلمون على منعه[13]))[14].


[1] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/ 165- 166.

[2] المقنع 2/ 127.

[3] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/ 165.

[4] الفروع 4/ 271.

[5] تصحيح الفروع 4/ 271.

[6] أخرجه مسلم (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذَّاب الذي يُصلِح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا)، ولم أسمعه يُرخِّصُ في شيء مما يقول الناسُ كذبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

[7] شرح منتهى الإرادات 3/ 409، وكشاف القناع 8/ 280.

[8] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/ 131.

[9] أخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 249 (817)، والدارقطني 3/ 46، والحاكم 2/ 61، والبيهقي 6/ 28، من طريق مسلم بن خالد الزنجي المكي، عن محمد بن علي ابن يزيد بن ركانة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
قال الطبراني: تفرد به مسلم بن خالد الزنجي.
قال البيهقي: في إسناده ضعف.
وقال الهيثمي في المجمع 4/ 130: فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف، وقد وثق.

[10] شرح منتهى الإرادات 3/ 420، وكشاف القناع 8/ 296.

[11] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/ 165.

[12] جزء من حديث: ((المسلمون على شروطهم))، وقد تقدم تخريجه 5/ 37.

[13] المبسوط 20/ 134، وتكملة فتح القدير 7/ 24، والشرح الصغير 2/ 146، 147، وحاشية الدسوقي 3/ 313، وتحفة المحتاج 5/ 187، ونهاية المحتاج 4/ 383، وشرح منتهى الإرادات 3/ 407، وكشاف القناع 8/ 276.

[14] الإرشاد ص504- 507.

المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك