﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]
إبراهيم مصطفى أحمد
لقد بعث الله نبيه ومصطفاه خاتمًا للرسل، فأشرقت دعوته على الجزيرة العربية، تهتف بالإنسان أنه لا يتم إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، توثيقًا لأخوة النسب، ورحم العقيدة، وحقيقة هذا في الدين الذي أرسى قواعد المؤاخاة في آياته البينات، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1]، وفي المنهج الفريد الذي وضعه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، فتعانقت قلوبهم على الصفاء والمودة، وتضافرت الجهود على عمارة هذه الدنيا، بالعمل الصالح الذي تتحرك به الحياة، لتصل الدنيا بالآخرة، وتحقق للبشرية غايتها في هذا الوجود، وإذا ما استقر هذا الصفاء في الوجدان، فاض على الوجوه بِشرًا وأنسًا، وعلى الجوارح استقامة وهدى، ويرقى به الإنسان من درجة حب الخير للغير إلى درجة الإيثار، التي يجود بمقتضاها بالإحسان لكل إنسان، دون انتظار لجزاء إلا مِن الله، ولقد تجلى ذلك جليًّا فيما كان بين المهاجرين والأنصار، فقال جل شانه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، يقول العلامة ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم، وشرفهم، وكرمهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم مع الحاجة: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الحشر: 9] [1]، والمراد من الدار: المدينة، وهي دار الهجرة، تبوأها الأنصار قبل المهاجرين[2].
ثم يقول تعالى: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ [الحشر: 9]، يقول ابن كثير: أي: من كرمهم، وشرف أنفسهم، يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ثم ساق الأدلة على ذلك، فقال: أخرج البخاري، عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطِع لهم البحرين، قالوا: لا، إلا تُقطِع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: ((إما لا، فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم بعدي أَثَرَة))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: ((لا))، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمر؟ قالوا: سمعنا وأطعنا؛ رواه البخاري[3].
ثم يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾ [الحشر: 9]، يقول ابن كثير: أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة، والشرف، والتقدم في الذكر والرتبة[4]، يقول الفخر الرازي: قال الحسن البصري عند تفسيره لقول الله: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾ [الحشر: 9]، قال: أي: حسدًا، وحرارة، وغيظًا مما أوتي المهاجرون من دونهم[5].
ثم يقول سبحانه: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، يقول الواحدي في سبب نزول هذه الآية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسَلَ إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يضيف هذا الليلةَ رحمه الله؟))، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوِّميهم، وتعالَيْ فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلتْ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله عز وجل - أو ضحك - من فلان وفلانة، وأنزل الله تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9] ؛ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي[6].
لقد اشتعلت شعلة الإيمان الصادق في قلب الرجل الأنصاري وزوجته، فآثَرَا ضيف رسول الله على نفسيهما، وعلى أولادهما، وأطعمَا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناما هما وأطفالهما جوعى، فعجب الحق تبارك وتعالى من صنيعهما.
وإن الإيمان الحق يضيء القلب، وينير الفؤاد، وبهذا الضوء يجعل المؤمن يُحس بآلام الآخرين وحاجاتهم، وفي هذه القصة دروس عظيمة، وعِبَر لا بد أن نستخلصها، ونسير على دربها، فالذي يتأمل يجد أولاً زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزوفه عن الدنيا، وإيثاره الباقية على الفانية، إذ كانت تجيئه الغنائم، والأموال الطائلة، ولا يقوم من مجلسه إلا إذا وزعها على مستحقيها، يقول تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الأنفال: 41].
ثانيًا: هذا الموقف الذي بدا من الأنصاري وزوجته يوضح بجلاء مفهوم الإيثار في معناه المتكامل، فالإسلام يقوم على البذل والإنفاق، ويضيع مع الشح والبخل والاكتناز؛ ولذلك حبب الإسلام إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخية، وأكفهم ندية، وأن يجعلوا تقديم الخير للناس موضع اهتمامهم، يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول))[7]، ودعوة الإسلام إلى البذل والعطاء والإيثار بما تمتلكه مستفيضة مطردة، وحربه على البخل والشح موصولة متقدة، إن الإيثار أعلى مَثَل للإيمان، يتحقق به المؤمن القوي، الواثق بما عند ربه من الجزاء الحسن، فهو مظهر القوة، وجوهر العزيمة، فالمؤمن لا يضعف أمام نزعات نفسه، ولا يهون أمام مطامع الحياة الفانية؛ أملاً في الفوز بما عند الله، وما عند الله خير وأبقى، إن الإيثار دليل على القوة؛ قوة الروح التي تعلو على حاجات النفس وتطلعاتها، فتعانق عالم السماء بقناعتها وقوتها، إنه معنى حافز على العطاء، ومَعِين فيَّاض بالثقة بما عند رب العالمين، إن الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، هم الفائزون المفلحون، والأمثلة التي تدل على الذين آثروا على أنفسهم رغبة فيما عند الله كثيرةٌ جدًّا، ولكن نضرب بعضًا منها؛ لتكون لنا حافزًا على المضي في طريق هؤلاء.
قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ أنْ نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي إليَّ أن انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين[8].
وهكذا يضرب هؤلاء الشهداء أعلى مثال في الإيثار، وتفضيل الغير على النفس، بالرغم من احتياجهم، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، ما أحوجنا في هذه الأيام العصيبة في مجتمعنا إلى هذه الفضيلة (خلق الإيثار)! الذي هو شعبة من شعب الإيمان، إننا نكاد لا نرى له وجودًا في مجتمعنا، إن عشرات، بل مئات، بل آلاف الأسر المسلمة ينامون على الجوع والطوى، وجيرانهم ينامون متخمين بالطعام والشراب، ألا ما أحوجنا اليوم وغدًا إلى الإيثار! لنقيم مجتمعًا قويًّا متماسكًا، يسوده الحب والإخلاص، أسأل الله ذلك.
المصدر: مجلة التوحيد، عدد جمادى الأولى 1413 هـ، صفحة 12.
[1] ابن كثير في التفسير، ج4 ص 337، إحياء الكتب العربية.
[2] مفاتيح الغيب للرازي، ج8 ص 126، الطبعة الأولى، بالمطبعة العامرية الشرقية.
[3] ابن كثير في التفسير، ج4 ص 337.
[4] ابن كثير، ج4 ص 337.
[5] تفسير الفخر الرازي، ج8 ص 126.
[6] ابن كثير في التفسير، ج4 ص 338، وأسباب النزول للواحدي ص 192، ط الحلبي.
[7] أخرجه مسلم.
[8] منهاج المسلم للجزائري، ص 145، 146 - إحياء علوم الدين للغزالي ج3 ص 242، ط الدار البيضاء.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك