الإسلام وظاهرة التسول
أحمد أبو زيد
يُعَد الفقر من أخطر الأدواء التي تصيب الإنسان وتدفعه إلى الحاجة لغيره، وإنقاص قدره ومنزلته عند الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفقر، وقد قرَن بينه وبين الكفر في دعاء واحد؛ فكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكُفر والفَقر)).
وكان لقمانُ الحكيم ينصح ابنه قائلاَ: يا بني، استعِنْ بالكسب الحلال على الفقر؛ فإنه ما افتقر رجلٌ قط إلا أصابته ثلاثُ خصال: رقَّةٌ في دِينه، وضعفٌ في عقله، وذهابُ مروءته، وأخطر مِن هذه الثلاث: استخفافُ الناس به.
ولقد وضَع الإسلامُ منهجًا قويمًا يحارب به الفقر، ويحمي المجتمع من خطرِه وأضراره؛ فدعا إلى العملِ ورغَّب فيه، واعتبره السلاحَ الأول في مقاومة الفقر، ثم فرض الزكاة، ودعا الأغنياء إلى الإنفاق وإطعام المساكين، ورغَّب في الصدقات؛ حمايةً للفقراء والمساكين والمحتاجين من آلام الفقر ومتاعبه.
ولقد ارتبط بِدَاءِ الفقر ظاهرةٌ خطيرة انتشرت في المجتمعات الإسلامية بشكلٍ سرطاني مدمِّر، وهي ظاهرة التسول، والشيءُ الغريب أن التسوُّل لم يعُدْ يقتصر الآن على الفقراء غير القادرين على العمل والكسب، ولكننا وجدنا بعضَ القادرين على العمل من الكسالى قد استسهلوا التسول والاحتيال على الناس بكافة الطرق والوسائل البغيضة لنهب أموالهم.
والمتسول إنسان حقر نفسه، وأراق ماء وجهه، واستغنى عن كرامته وحيائه، وبدأ يمد يديه للناس أعطَوْه أو منعوه، وإذا كان هناك إنسان يعجِزُ عن العمل ولا يجد قوتَ يومه، فهذا له عذره في الحاجة إلى الناس وامتهان التسول، ولكن ما بال هذا القادر على العمل يقبَلُ على نفسه الاحتقارَ والذلَّ والمهانة، ويتكفَّف الناس؟ وكيف يكون موقفُنا نحن مِن هؤلاء المتسوِّلين القادرين على العمل؟
إننا لو نظرنا إلى الإسلام سنجد أنه قد حارب التسول حربًا لا هوادة فيها، وبالَغ في النهي عن مسألة الناس، وعنِ الصدقاتِ ومستحقيها قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]؛ أي: إن الصدقة ليست لهؤلاء المتسولين القادرين على العمل، ولكنها للفقراءِ الذين لا يستطيعون السعيَ في طلب الرزق، ويحسَبُهم الجاهل أغنياءَ من التعفف؛ لأنهم لا يسألون الناس شيئًا ولا يتسوَّلون، ولكن تعرِفهم أنهم فقراءُ بسماتِ الفقر التي تظهر عليهم.
أما القادر على العملِ فلا تحلُّ له الصدقةُ؛ لِما رواه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تحلُّ الصدقةُ لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ))؛ أي: صاحب القوة الجسدية، الذي يتميز بسلامة أعضائه، وقد ورد تحذيرُ النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه عن مسألة الناس في أحاديثَ كثيرة؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتيَ يومَ القيامة وليس في وجهِه مُزعةُ لحمٍ))، وروى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يفتحُ عبدٌ بابَ مسألة إلا فتَح اللهُ عليه بابَ فقرٍ))، كما روى النسائي عن عائذ بن عمرو، أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه، فلما انصرَف قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلَمون ما في المسألة ما مشى أحدٌ إلى أحدٍ يسأله شيئًا)).
ثم نجدُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يحُثُّ الناس ويرغِّبُهم في الكسبِ الحلال الذي يكُفُّ صاحبَه عن المسألةِ مهما كان نوعُ هذا الكسب، ومهما نظَر الناس إليه نظرة استهانة أو احتقار؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يغدُوَ أحدكم فيحتطبَ على ظهرِه ليتصدَّقَ به وليستغنيَ عن الناس: خيرٌ له مِن أن يسألَ رجلاً أعطاه أو منَعه؛ ذلك بأن اليدَ العليا خيرٌ من اليدِ السفلى)).
وعلَّمنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل مع هؤلاء المتسولين القادرين على العمل والكسب؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك، أن رجلاً مِن الأنصار أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يطلُبُ الصدقةَ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمَا في بيتِك شيء؟))، قال: بلى، حِلْسٌ نلبَسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعْبٌ نشرب فيه الماء، فقال: ((ائتِني بهما))، فأتاه بهما فأخذه بيده وقال: ((مَن يشتري هذين؟))، قال رجل: أنا آخذُهما بدرهم، قال: ((مَن يزيد على درهم؟))، قال رجل: أنا آخذُهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: ((اشتَرِ بأحدهما طعامًا وانبِذْه إلى أهلِك، واشتَرِ بالآخَرِ قَدُومًا فأتِني به))، فشدَّ فيه الرسول عودًا بيده، ثم قال له: ((اذهب فاحتطب وبِعْ، ولا أَرَيَنَّكَ خمسةَ عشر يومًا))، فذهَب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشَرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألةُ نكتةً في وجهِك يوم القيامة، إن المسألةَ لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مدقعٍ، أو لذي غُرْمٍ مُفظِع، أو لذي دمٍ موجع)).
فالرسولُ صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لم يسارع - كما نفعل نحن اليوم - رأفةً وشفقةً بهذا السائل ويعطيه الصدقةَ ويدَعُه ينصرف، ولكنه صلى الله عليه وسلم أحسَّ فيه القدرة على الكسب والعمل، فأراد أن يغيِّرَ وجهتَه عن هذه العادة المَهينة التي تُفقد الإنسان كرامتَه وهيبتَه وحياءَه - إلى كسبٍ طيب حلال؛ فعلَّمه كيف يعمل ويقتات، ويُغْني نفسَه وذويه عن مسألة الناس.
فالتسوُّل وباءٌ خطير يهدد المجتمع بالخراب، وهو نوعٌ مِن أكل أموال الناس بالباطل.
أما ابنُ القيم فقد اعتبر التسوُّل ظلمًا في حق الربوبية؛ لأن بذلَ السؤالِ لغير الله نوعُ عبودية، وظلمًا في حق المسؤول؛ لأنه يعرِّضه لمشقَّةِ البذلِ أو لوم المنع، وظلمًا لنفس السائل؛ لأنه يُريقُ ماء وجهه، ويُذلُّ نفسه لغير خالقه، ويرضى بإسقاط شرَفِه وعزِّه وتعفُّفِه.
فليتنا نحاربُ هذه الظاهرةَ المرَضِيَّة في مجتمعنا الإسلامي؛ حتى يحرصَ كلُّ إنسانٍ على العمل والكسبِ الحلال، ويبتعدَ عن البَطالةِ والتعطُّل، وتكفُّفِ الناس والحاجةِ إليهم.
المصدر: مجلة التوحيد، عدد صفر 1409 هـ، صفحة 36.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك